من تراب الطريق (1181)

الإمام الطيب والقول الطيب (13)

نشر بجريدة المال الخميس 16/9/2021

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

يجب فيما يبدى الإمام أحمد الطيب ، أن نعلم أهمية الإفتاء ، وأنها تمثل للمسلم الوجه الآخر لتحرره من السلطة الدينية وما تمارسه من تسلطات ، دلت على ذلك حقائق التاريخ فى الأديان التى ظهرت فيها هذه السلطات الدينية ، أما الإسلام فإنه قد رفض كل صور الكهانة ورفض قيام سلطة دينية ، وهذا أصل من أصوله ، فليس لأحد بعد الله ورسوله ـ أى سلطان على عقيدة أحد ، ولا أية سيطرة على إيمانه بالله .

وضرب لنا القرآن أمثلة قاطعة تؤكد أن النبى نفسه ، عليه الصـلاة والسـلام ، ليس مسيطرًا ولا مهيمنًا على عقائد الناس ، وأن كل ما له هو الدعوة إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأنه ليس إلاّ بشيرًا ونذيرًا ، ومبلغًا ومذكرًا . فيقول لـه رب العـزة : « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » ( الغاشية 21 ، 22 ) ، ويقول له فى سورة أخرى : « وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ » ( يونس 99 ) .

فللمسلم أن يقرأ القرآن وأحاديث النبى عليه الصلاة والسلام ، وله أن يستخلص بفهمه معنى ومراد الآيات ، مادام يملك العلم والقدرة على الفهم ، ومؤهل لغويًّا للإستنباط أو الاستنتاج ، فإن افتقد هذه الأدوات ، وجب عليه أن يسأل أحدًا من العلماء ، وهو التعبير الذى حرص عليه الإمام الطيب تلافيًا لتعبير « رجال الدين » ، حالة كون الإسلام يرفض الكهانة ولا يعرف رجل الدين الذى يتحدث باسم الله  .

ومهمة العلماء هى الدرس ونقل ما فهموه بعلمهم إلى الناس ، ما داموا أهلاً للبيان والإفتاء .

ويصارحنا الإمام الطيب ، بأن فتوى من يفتى لا تعدو فى أفضل أحوالها أن تكون نصيحة أو استشارة ، وأنهم درسوا فى فقه الفتوى أن الفتوى حكم شرعى « غير ملزم » ، بمعنى أنه يمكن المسلم أن يترك ما قاله المفتى ويأخذ بكلام غيره من العلماء ، وهذا هو الفرق بين الفتوى والقضاء ، فالفتوى حكم شرعى غير ملزم ، أما القضاء فهو حكم شرعى ملزم لا يستطيع المسلم أن يتخلص منه ، إذْ هى إجابة تبحث عن حكم الشريعة بشأن سؤال فى المعاملات أو الآداب أو الأحول الشخصية .

والفتوى بعامة ، تساير الحياة الواقعية وما تحفل به من متغيرات ، ومن ثم فإنها تختلف عن القاعدة الشرعية التى هى حكم عام مجرد ، ولذلك كانت الفتوى لازمة باعتبارها حركة متجددة فى إطار الحكم الشرعى ، ومن ثم فإن الفتوى تتغير حتمًا فى الواقعة الواحدة من شخص لآخر ، ومن مكان أو زمان إلى آخر ، ومن حالة إلى حالة أخرى .

وقد أُضيف إلى مهام الإفتاء ـ فى الحقبة الأخيرة ـ إصدار البيانات الخاصة بتحديد أوائل وأواخر الشهور العربية ، وما يترتب عليها من تحديد الأعياد المقدسة عند المسلمين ، كما أُضيف إليها مهمة بحث قضايا الإعدام التى تُرسل من المحاكم الجنائية المختصة ، لإقرار الحكم أو الاعتراض عليه ، كإجراء وقائى كثيرًا ما يصب فى مصلحة المتهم ؛ لأن أحكام الإسلام فى قضايا الدماء والأعراض تتحرى الدقة وتبالغ فى تحرّيها بضمانات لا ترقى إليها القوانين الحديثة التى تأخذ بهذا النظام .

ويكفى فى بيان ذلك القاعدة الشرعية التى تقول إن الخطأ فى العفو عن مئة مجرم أفضل من إراقة ملء قارورة من دم إنسان مظلوم .

ولعلى أسمح لنفسى أن أعقب هنا بأن حديث الدكتور الطيب هو عن ما يجب أن يكون ، ولكنى ألمس غير ذلك فى التطبيقات العملية التى أعاينها بحكم عملى فى المحاماة .

ويضيف الإمام الطيب أن دار الإفتاء قد أنشئت فى مصر فى نوفمبر 1895 م ، وكان المفتى  وقتها هو شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوى ، ثم انفصلت بعد ذلك وظيفة المفتى واستقلت مع الإمام محمد عبده الذى تولى هذه الوظيفة فى يونيو 1899 م ، وكان اللقب الرسمى أولاً : « مفتى الديار المصرية » ثم تغير مع ثورة يوليو إلى « مفتى جمهورية مصر العربية » ، وقد بلغ عدد المفتين الرسميين فى مصر حتى وقت إلقاء محاضرة الدكتور الطيب  18 مفتيًا .

وهناك فى الجامع الأزهر لجان  للفتوى تتبع الأزهر ، وفتاواها رسمية أيضًا ، ودور المفتى هو : الإجابة على ما يقدم إليه من أسئلة .

وغالبًا ما تكون القضايا التى يواجهها المفتى قضايا عادية وعامة ، يتعلق أغلبها بمشكلات الزواج والطلاق والرضاع والأسرة ، أو الممارسات اليومية ، ودار الإفتاء تجيب على ذلك عبر مجموعة من الباحثين المساعدين للمفتى .

وهناك قضايا تحدث بفعل التطور العلمى والتقنى ، وتمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة قوانين الشريعة الإسلامية وأحكامها فى مسائل كثيرة ؛ مثل : الاستنساخ ، والأم البديلة ، وبنوك اللبن ، ومثل : المتغيرات التى تحدث فى مجال الأموال والبنوك والاقتصاد ، وغير ذلك مما يمس مجالات الأسرة والأخلاق ومقررات الأديان .. ومثل هذه القضايا لا ينفرد المفتى بالتصدى لها بمفـرده ، وإنما يبحثها ضمن هيئة علمية كبرى تابعة للأزهر تسمى « مجمع البحوث الإسلامية » ، الذى يضم عددًا كبيرًا من العلماء المتخصصين فى علوم الطب والهندسة الوراثية  والاقتصاد والقانون جنبًا إلى جنب مع علماء الإسلام ، ومن بينهم المفتى ، وهذا المجمع يمثل المرجعية الكبرى فى الإفتاء فى مصر وخارجها ، ويرأسه شيخ الأزهر .

يكفل ذلك أن فضيلة المفتى عضو فى مجمع البحوث الإسلامية بحكم منصبه ، وأنه يلاقى فيه من العلماء الأجلاء ، وكذلك فى هيئة كبار العلماء التى أعيدت أخيرًا ـ من يستطيع أن يأمن أكثر إلى رؤيتهم وآرائهم .

لقد صار الإفتاء ضرورة لازمة إزاء تطورات وصيرورة الحياة التى لا تتوقف فيها المستجدات التى تثير من الاستفسارات ما يحتاج إلى إجابة مدروسة .

عبدالعال فتحي

صحفي بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين؛ عمل في العديد من إصدارات الصحف والمواقع المصرية، عمل بالملف السياسي لأكثر من عامين، عمل كمندوب صحفي لدى وزارتي النقل والصحة، عمل بمدينة الإنتاج الإعلامي كمعد للبرامج التلفزيونية.
زر الذهاب إلى الأعلى