التدوين القانوني: أصوله وضوابطه (مدونة سلوك المحامين نموذجا مشرفًا) (1)

بقلم: الدكتور / محمد عبد الكريم الحسيني

التدوين القانوني، المدونة القانونية، المدونة الأخلاقية، المدونة القيمية، المدونة السلوكية، المدونة المهنية، “مدونة السلوك المهني”، مصطلحات متقاربة… ما مفهومها ؟ وما مضمونها؟ وما ضوابطها؟.. هذا ما سنتناوله في مقالاتنا.

 

تشترك مجموعة المصطلحات سابقة الذكر على تعددها وتقاربها فيما يمكن تسميته بــ”التدوين القانوني ” للقواعد القيمية والمبادئ السلوكية الضابطة للفعل… والتدوين في عموم معناه، يعني: تسجيل الأفكار أو الأخبار أو المعان العامة أو الذاتية وكتابتها بعناية وحرص في أي موضوع كان، وفيما يمكن تصوره من مجالات.

و”التدوين القانوني” أخص من “التدوين” في معناه العام، فهو: كتابة مخصوصة (يعبر عنها بالصياغة القانونية) للقواعد والمبادئ والمعاني القيمية ذات المضمون القانوني أو الهدف القانوني.

وهو فن معروف منذ القدم، ولأهميته وجلالته سميت مجالس الإدارة ودور الحكم بالدواوين، وحتى الآن هناك ديوان رئاسة الجمهورية، وديوان الوزارة، وديوان المحافظة….

وهي تقاليد متوارثة منذ القديم؛ إذ كانت الدواوين هي أماكن التدوين والحصر للحقوق وتوزيع الفيئ والعطاء وتدوين مستحقيها، وكانت أماكن حصر عمال الدولة وجنودها وإثبات عطاياهم ومعلومهم…، وكانت أيضا على نحو ما أماكن حفظ “المدونات” التي تقوِّمُ أمورَ الناس ومعاشاتهم…إلى غير ذلك من الوظائف والمتعلقات….

ولأهمية “فن التدوين القانوني” ولقلَّة ما كتب فيه تأتي سلسلة هذه المقالات لتوضيح مفاهيمه وكشف مبهمة، وتأطير جوانبه الوظيفية والقانونية، وللوقوف على مهاراته الصياغية. نظرا لأهميتها بالنسبة للسادة القانونيين عموما والسادة المحامين خصوصا:

(بمناسبة بدء مباشرة أعمال إصدار مدونة” سلوكيات مهنة المحاماة”، أو “مدونة السلوك المهني للمحاماة “.

 

***

المدونات القانونية: أعمال قانونية راسخة ذات أصول وأعراف لها معاييرها ولها ضوابطها التي يتوجب مراعاتها، ولا يجوز بحال تنكُّبَها أو تجاوزها منذ البدء في تجميع مادتها، ثم الشروع في عمليات بنائها وسبكها حتى إخراجها إلى عالم الفعل والتطبيق.

وتعتبر المدونات وثائق على درجة عالية من الأهمية بل والخطورة، فهي نوع من أنواع التقنين، وإن اختلفت درجته وتباينت موضوعاته وتعددت مسائله.

لأنها تأخذ روح القانون وشكله وجوهره، إلا أن قواعدها: (الأخلاقية – أو السلوكية – أو قواعد الممارسة فيها) تختلف عن القواعد القانونية في أشياء أهمها طرائق الحماية من انتهاكها، إذ لا يقتضي انتهاكها بالضرورة توقيع شق الجزاء – إن انتهكت إحدى قواعدها القيمة أو السلوكية –

فقد يُعْتاضُ عن ذلك بإجراءات تأنيبية لتنبيه الضمير الأخلاقي، أو بإجراءات تأديبية لإقامة المعوج السلوكي…فيكتفى باللوم أو التوبيخ على الإذناب، أو التقريع على الغفلة وعدم اتخاذ الحيطة… مرورا بالفصل أو التنبيه عليه والإنذار به، وذلك بحسب نوع المدونة ومضمون قواعدها وطبيعة الجزاءات المعتمدة فيها.

وجدير بنا في هذا المقام التنبيه على تعدد أشكال المدونات القانونية وتنوعها تبعا لموضوعها وطرائق التدوين فيها…وإجمالا نقول: للتدوين باعتباره فنا قانونيا – وللمدونات باعتبارها أوعية ومخرجات لهذا الفن – أنواعا ثلاثة وأشكالا تتبع تبعا لكل نوع منها.

أولها: النوع العام للتدوين ( المدونات الدينية أو التاريخية أو الأدبية ).

وثانيها: النوع الخاص للتدوين (المدونات القانونية عموما).

وثالثها: نوع أخص للتدوين ( المدونات القانونية: القيمية – السلوكية – المهنية)..

وهو المعنى قيد التناول في هذا المقال، وتتعدد مفاهيم التدوين تبعا لنوع مدونته وشكلها وغرضها ما بين مفهوم عام ومفهوم خاص وآخر أخص (أو مخصوص):

أولا: المدونات بالمفهوم العام

المدونات بالمعنى العام تكون في كل العلوم وخاصة العلوم الدينية والفلسفية والتاريخية والأدبية:

أ- مدونات العلوم الدينية، كأن تكون للنصوص المقدسة وشروحها، وفي الإسلام هناك أعمال تدوينية كبرى وعظيمة، فهناك: 1-تدوين القرآن الكريم ومسار خاص لهذا النوع من التدوين. 2- هناك ندوين السنة. النبوية ولها مساراتها بل طرائق ومذاهب ومناهج في تدوينها. وأهم مخرجاتها مدونات الكتب الستة المشتهرة: البخاري ومسلم والترمذي النسائي وأبو داود وابن ماجة… وهناك مدونات تشريعية تجمع أحكام الشريعة، أولها وأهمها وأشهر ما وصلنا منها ” مدونة الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى” ( 93 – 179هـ ) أحد أكابر علماء المذاهب الأربعة، وقد جمعها تلامذته ومحبوه عنه.

ب-مدونات العلوم الفلسفية: وهي تتجلى في مجموعة الأعمال الكاملة للفلاسفة بداية من أرسطو ومعلمه سقراط ثم معلم سقراط وهو أفلاطون… وهناك رسائل إخوان الصفا وغيرهم…

ج – مدونات التاريخية، وهي الأكثر والأوفر عددا وأوعيةً… وهذا واقع لدى كل الأمم وفي جميع النحل، وهو يوافق ما جبل عليه الإنسان من ميل إلى تدوين آثاره وأخباره ووقائعه… سواء تدوينا ماديا أو جداريا أو كتابيا… ولكل أمة تدوينها ولكل حضارة مدوناتها.

د- المدونات اللغوية: وهي تلك الأوعية التي تودع فيها أصول اللغة من مفردات وقواعد وأساليب وآداب سواء في مجموعها أو في باب من أبوابها، فهناك مثلا ديوان الأدب للفارابي توفي سنة 350 ه، وقد سماه:” ميزان اللغة ومعيار الكلام ” وهو معجم لغوي جامع. أضف إلى ذلك دواوين الأدب الكثيرة غيره مثل “العقد الفريد” لابن عبد ربه، و”الكامل” للمبرد وغيرهم. وهناك الأشعار يطلق على كتبها مصطلح “دواوين شعرية” نظرا لعناية أصحابها بتسطيرها وإيداعها كل قوافيهم…

وبهذا نخلص إلى أن التدوين ووضع المدونات صناعة مُغرقة منذ القدم في مجالات: الأديان والفلسفات والقوانين والنظم المجتمعية والآداب….، بل إن هناك عصورا كاملة يطلق عليها “عصور التدوين”، مثل العصر العباسي، حيث جرى فيه تدوين علوم اللغة والشريعة والحديث والتواريخ وغير ذلك من العلوم.

 

ثانيا: المدونات بالمعنى الخاص (المدونات القانونية عموما)

وللمدونات القانونية تاريخ عريق وماض عميق منذ الفراعنة، حيث مدونات قوانيين بوكخوريس الملك الفرعوني الذي عنى بتقنين القوانين، وهناك مدونات حمورابي، وهناك مدونات القانون الروماني وغير ذلك في معظم الأمم القديمة…!

ولا تزال صناعة التدوين ووضع المدونات متوالية متتالية حتى وقتنا، فثم مدونات كثيرة تتجلى باسم الموسوعات أو المجموعات أو الأعمال الكاملة…، وعلى رأسها تأتي:

أ- مدونات النصوص والتشريعات. كما نقول ” مدونة نصوص التشريعات المختلطة ” أو “مدونة تشريعات الأسرة”، أو “مدونة تشريعات القانون العام” أو الخاص ونحو ذلك…. !

ب- ثم مدونات الأحكام القضائية، فهي من الصناعات التدوينية المهمة، سواء كانت المدونات عامة جامعة أو كانت في أبواب معينة محدودة، كما نقول “مجموعة: (أو موسوعة أو مدونة )أحكام النقض منذ خمسين عاما مضت”…إلى غير ذلك…

 

ثالثا: المدونات بالمعنى الأخص ( المدونات القانونية: القيمية والسلوكية والمهنية).

وهي موضوع تناولنا الآن وهي تنقسم إلى:

1-مدونات أخلاقية ( = مدونات قيمية، أو مدونات خلقية ).

2-مدونات قواعد السلوك ( = مدونات سلوكية، أو مدونات السلوك..).

3-مدونات مهنية (=مدونة سلوكيات المهنة) وقد تسمى: (مدونة سلوك وأخلاقيات الوظيفة العامة، أو مدونات الممارسة المهنية).

 

ونظرا لأهمية هذا النوع من التدوين بالنسبة للقانونيين عموما والمحامين بصورة خاصة سنأتي على بعض تفصيلاتها المهمة والتي لا يستغني عن معرفتها جل المحامين، ووجه أهميتها للسادة المحامين أنهم بصدد وضع مدونة سلوكية لمهنة المحاماة.

ولكي نضبط تناولنا للمدونات القيمة (السلوكية – المهنية) فيحسن بنا ننهج تناولنا من خلال طرح سؤالين عريضين وسؤال تطبيقي:

 

السؤال الأول:

ما مفهوم المدونة السلوكية بأنواعها الثلاثة (القيمية – السلوكية – المهنية)،،وما موضوعها وماذا عن طبيعة مسائلها، ونطاقها، والجزاءات المترتبة على انتهاك قواعدها؟

 

السؤال الثاني:

ما ضوابط وضع تلك المدونات بأنواعها الثلاثة سابقة الذكر من حيث:

1- الضوابط القانونية ؟

2-الضوابط الفنية ؟

3-الضوابط الصياغية؟

 

السؤال الثالث التطبيقي:

هل يمكن تطبيق ما سبق من معطيات ومهارات على مدونة “سلوك مهنة المحاماة”، تلك المبادرة المشرفة وذلك المشروع الحضاري المرتقب…!

 

******

التناول الأول: المدونة بالمفهوم الأخص (المدونات القيمية -السلوكية -المهنية )

يجيب هذا التناول الأول عن تساؤلات عدة:

1-ما المقصود بالمدونات القانونية القيمية (أو الأخلاقية ) ؟

2-ما معنى “المدونات السلوكية” أو “مدونة السلوك الأخلاق لكذا..” وماذا تختلف عن سابقتها ؟

3-ما المقصود بــ”المدونات المهنية” أو “مدونة سلوكيات الممارسة المهنية”، وفيم تتفق أو تختلف مع سابقتيها؟

5-ثم تساؤلات مهمة حول المدونات الثلاثة سابقة الذكر:

أ- ما موضوعها ؟

ب-وما المقصود بمضامينها وموضوعاتها حيث:(القيم، والسلوك، والممارسة ) تلك الأوصاف التي تعم هذه المدونات ؟

ج- ما صورها وأشكالها ؟

د- ما نطاقها التخاطبي والزمني ؟

هـ – ما الفرق بينها وبين نصوص القوانين والتشريعات ؟

و- ما الجزاء القانوني حال وقوع انتهاكٍ لقيمها المعنوية أو لقواعدها (الأخلاقية – السلوكية –المهنية) ؟

ز- هل هناك جزاءات تترتب على انتهاك قواعدها..؟

ح-ما طبيعة هذه الجزاءات وما الفرق بينها وبين الجزاءات القانونية في نصوص القوانين والتشريعات العادية ؟

 

أولا: تعريف المدونة بالمعنى الأخص ومعاييرها.

يمكن تعريف المدونة بالمفهوم الأخص (إجرائيا ) بأنها:

أ-على نحو موجز:

“وثيقة توجيهية معتمدة، تتضمن قيما مُحدَّدة وسلوكيَّات معينة تقوم عليها المؤسسة، موجهة إلى المخاطبين بها لرعايتها”.

ب-على نحو شارح:

“وثيقة توجيهية (إرشادية) معتمدة (من قبل المخاطبين بها أو من رؤسائهم)، تتضمن قيما محددة وسلوكيات معينة (مؤسسية، أو شخصية، أو مهنية)، تقوم عليها المؤسسة (بالمفهوم العام للمؤسسة منظمة دولية حكومية، مؤسسة قطاع عام أو نفعية أو مهنية، وتعتبر المؤسسة هذه القيم جزءا من هويتها ومن ضمن جملة أهدافها)، موجهة إلى المخاطبين بها (العاملين في المؤسسة مع جمهور المتعاملين معها أو دونهم) بقصد رعايتها (العمل في ضوئها والالتزام بمعاييرها، وتبني سلوكياتها).

 

ثانيا: عناصر المدونة (القيمية السلوكية المهنية):

في ضوء ما سبق من تعريف إجرائي يمكن تحديد عناصر المدونة السلوكية في:

 

العنصر الأول: “الشكل” في المدونات (القيمية – السلوكية – المهنية)

ونقصد بـ”الشكل” هنا، أي: الشكل المكتوب، فالشكل الكتابي عنصر رئيس من عناصر المدونة، وهو ليس كتابيا هكذا، بل هو مُدوَّنٌ تدوينا، مشتقا من فعله الرباعي “دوَّن” ومن مصدره الخماسي “التدوين”، أي: التفعيل، بما يظهر العناية والقصد في الكتابة والتحري في إعدادها.

وعليه يمكن القول بأنه: ليس هناك مدونة شفاهية، ولا يمكن أن يطلق عليها هذا الوصف حال كون مضامينها سماعية أو شفاهية، حتى وإن كانت تعاليم قيمية أو سلوكية أو أخلاقية. على أن هذا لا يمنع من قيامها بمهام المدونة، وتحقيق أهدافها وغاياتها السلوكية والقيمية.

وهذا واقع في حياتنا المعاشة في تربية أبنائنا مثلا، وغالبا ما توجد هذا الحالات في المؤسسات الصغيرة والمحدودة من مثل المحلات والبقالات والأنشطة العملية التي يغلب عليها الممارسة ولا تحتاج إلى تأطيرات نظرية للرؤية والأهداف والرسالة والمدونات القيمية السلوكية، بما يعني أنها مرعية عملا، ومحفوظة نصا في أذهان أصحابها، بقدر ما هي محفوظة في أذهان العاملين معهم.، وعلى رغم أنه لا يطلق عليها مُدوَّنة أو ثيقة، إذ لا يصدق عليها هذا الوصف.

 

العنصر الثاني: المضمون القيمي السلوكي( المضمون التوجيهي ) في المدونات ( القيمية – السلوكية – المهنية)

نظرا لعمق هذا العنصر فدعونا نتناوله موجزا في هاتين المسألتين:

المسألة الأولى: تعدد مضمون المدونات السلوكية:

يتعدد مضمون المدونات السلوكية إلى.

أ- مضمون قيمي أخلاقي.

ب-مضمون سلوكي.

ج- مضمون مهني.

مع ملاحظة الارتباط الوثيق بين تلك المضامين (القيم – السلوكيات – الممارسات ).، فالقيمة في أصلها معنى معياري، وهي مبدأ السلوك ومُسبِّبُه، فكل سلوك واعٍ مقصود يمكن إسناده لقيمة ما، ثم إنَّ القيمة في المنتهى هي ما يحكم على هذا السلوك: تقييما وتقويما بالصواب أو بغير الصواب…بالصحة أو بالبطلان…!!

وهذه الثلاثية:(القيم والسلوكيات والممارسات ) ومتعلقاتها… تتفاوت كميا بحسب نوع المدونة وغرضها، بما يمكن معه تقسيم المدونات بالنظر إلى تفاوت تنظيم ودرجة تمثيل هذه المضامين فيها.. إلى ثلاثة أنواع:

 

النوع الأول: مدونات قانونية جامعة (قيمية – سلوكية – مهنية):

يكون المضمون جامعا لتلك المكونات الثلاثة معا، وهي تلك المدونات الموجهة إلى منظومة عمل موسع ومترابط وأمثلتها:

المثال الأول: المدونات القيمة السلوكية للمنظمات الدولية.

وعلى رأسها تأتي “مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين” وهي مدونة دولية جامعة، تم الاعتراف بها واعتمادها، وهي عدة معايير دولية معتمدة وقد اعتمدت ونشرت على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 34/169 المؤرخ في 17 ديسمبر 1979 م، [انظر وثيقة الوثيقة الدولية للمدونة ص1 منشورة على الإنترنت ].

وهي وثيقة جليلة الشأن عظيمة الأثر، حبذ الرجوع إليها والاستهداء بها في صياغة المدونات القانونية القيمية والسلوكية والمهنية عموما تلك الخاصة بالسادة القضاة وأعضاء النيابة وأعضاء الضبط القضائي والمحامين:

وقد توجهت هذه المدونة الدولية إلى المحامين ببنود عدة فمن أهم ما ذكرته في المعايير القيمية السلوكية للسادة المحامين إزاء مهنتهم وفي سبيل تحقيق رسالتهم: بابا أسمته: ” واجبات المحامين الأساسية ” وفيه قالت:

(1) على المحامين أن يحافظوا في جميع الأحوال، على شرف مهنتهم باعتبارهم أعضاء أساسيين في إقامة العدل. [ ص14 البند 12 من الوثيقة ]

(2) تتضمن واجبات المحامي نحو شخص موكله أو موكلته ما يلي:

أ – إسداء المشورة لموكله فيما يتعلق بحقوقه والتزاماته القانونية.

ب – مساعدة موكله بشتى الطرق الملائمة، واتخاذ الإجراءات القانونية لحمايته أو حماية مصالحه.

ج – مساعدة موكله أمام المحاكم بمختلف أنواعها والسلطات الإدارية إذا اقتضى الأمر. [ص 14، البند 12 من الوثيقة الدولية ].

(3) ينبغي أن يسعى المحامون لدى حماية حقوق موكليهم وإعلاء شأن العدالة، إلى التمسك بحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي يعترف بها القانون الوطني والقانون الدولي، وعليه في جميع الأحوال أن يتصرف بحرية واقتدار وفقا للقانون وللمعايير المعترف بها وأخلاقيات مهنة القانون. [ص14، البند 13 من الوثيقة الدولية ].

(4) ينبغي أن يحترم المحامي دائما” مصالح موكله بصدق وولاء. [ص 14، البند 13 من الوثيقة الدولية ].

وهذه البنود وغيرها من الأهمية بمكان، ويحب على القائمين على “وثيقة ومدونة السلوك المهني للمحاماة” الاستفادة منها والاستهداء بها باعتبارها معايير قيمية في مضامين صياغاتهم، مع العمل على تضمين عديد نصوصها حسب ملاءمتها في وثيقتهم المرتقبة بإذن الله.

وهناك مدونات أممية كثيرة فيما يتعلق بالحقوق والحريات، وجلُّها مخرجات عن مؤتمرات دولية اعتمدت أعمالها ونشرت وثائقها، مثل: اتفاقية بكين بشأن حقوق الطفل 1985م، ومبادئ الرياض التوجيهية 1990م وقواعد الأمم المتحدة 1990م، وغير ذلك مما يمكن الاستفادة بها في تعرُّف القيم الدولية وكيفية صياعتها، ومهارة تضمينها في وثائق قانونية رسمية.

 

المثال الدولي الثاني: “مدونة الأخلاقيات وقواعد السلوك المهني للعاملين في منظمة الصحة العالمية”.

وهي وثيقة موجزة في قرابة أربع صفحات، وأهم ما يمكن الاستفادة بها هو معاييرها القيمية الخمسة الجامعة وهي المبادئ التالية:

المبدأ الأول: النزاهة.

المبدأ الثاني: المساءلة.

المبدأ الثالث: الاستقلالية والحياد.

المبدأ الرابع: احترام كرامة جميع الأشخاص وقيمتهم وتساويهم وتنوعهم وخصوصيتهم.

المبدأ الخامس: الالتزام المهني

وكما هو منظور يلاحظ أنها مبادئ عامة حاكمة، يمكن اعتمادها في جل الأعمال والمهن عموما والقانونية خصوصا، وعليه فإنه من الجدير تبنيها في “مدونة السلوك المهني للمحاماة”.

[ انظر وثيقة المنظمة ومبادئها الخمسة وشروحها ص1 – 4، وهي كائنة على موقعها ومنشورة على الشبكة الدولية أيضا]

 

المثال الثالث: مدونات موظفي الدول.

وهي من المدونات الجامعة، وتكون مودهة للعاملين في الجهاز الإداري للدولة

ومثالها ” مدونة السلوك الوظيفي للعاملين بالجهاز الإداري للدولة بجمهورية مصر العربية” تحت شعار “المبادئ و القيم الأخلاقية و معايير السلوك الوظيفي جزء من منظومة الشفافية والنزاهة”، وفي حيثياتها التشريعية فإنها جاءت لاعتبارات دستورية، واعتبارات قانونية عبرت عنها المادة (75) من قانون الخدمة المدنية 81 لسنة 2016م، وقد صدرت في سنة 2019م.

النوع الثاني: المدونات المفردة أو المختلطة

وهي تلك التي تعنى بمكون من المكونات الثلاثة سابقة الذكر إما:

1-بالمكون القيمي ( الأخلاقي ).

2-المكون السلوكي.

3-المكون المهني (الممارسة المهنية).

وفيها تتفاوت القيم تفاوتا بينا بحسب غاية المدونة، وقد تغلب إحدى المكونات على كما في: مدونات المعلمين والمؤدبين…فهي تراعي الجانب القيمي أشد مراعاة نظرا لما له من دور مركزي في أعمالهم وطبيعة الفئات المستهدفة، وكما في مدونات المهندسين حيث أعمال الإنشاء والبناء، فهي تراعي سلوكيات الممارسة المهنية باعتبارها الأهم….وهكذا.

 

المسألة الثانية: تعريف القيم والسلوكيات الخلقية والمهنية.

يعدُّ تعريف المضامين القيم والسلوكيات والمهنية وتحديدها بدقة من المسائل الجوهرية، حيث يثار حولها اللَّغط كثيرا، وهذا شيء يمكن تفهمه في ضوء المعاني الكثيرة حول مصطلح “القيمة “، فهي كلمة مركزية ومصطلح رئيس في مجالات كثيرة: دينية وفلسفية وخلقية، وفي المجالات الاقتصادية، وإن كانت القيمة في هذا المجال الأخير أكثر انضباطا منها في غيره، وليس هذا مقام تفصيل وتحليل لمعناها، فلنكتفي إذن بذكر معناها المناسب لهذا السياق.

التعريف الأول: تعريف القيمة (والقيم):

أ- “القيمة ” في اللغة العربية، أصلها من القِوَام، وقوام كل شيء عماده ونظامه، وهي كذلك من القَوَام، والقوام في اللغة العدل، [الفرقان: 67]، والقويم المعتدل، والقَوَّام: الحسن القيام بالأمور، والقَيِّم من يقوم بالأمر…

ب-القيمة اصطلاحا: معناها الاصطلاحي يقارب ما سبق من معناها اللغوي.

ومع اتساع استخدامها في العلوم الاقتصادية والفلسفية فقد تعدد معناها مع ثبات جوهرها بأنها معيار، أداة معايير بها سلوك ما سواء كان معيارا مطلقا أو نسبيا،

ولتقريب هذا يمكن القول بأن القيم المقصودة في المدونات هي قيم سلوكية ومن ثم يرد كثيرا مركبات مثل:” قيم خلقية سلوكية “. على أن مصطلح الأخلاق هنا لا يشترط بالضرورة أن يرتبط بالدين أو بفلسفة ما، وإنما هي أخلاق شخصية ودينية ومجتمعية تلائم المنظمة أو المؤسسة، فهي معايير وظيفية أو عملية، ارتضتها المنظمة أو المؤسسة، واعتدَّت بها سواء في:

1-التعبير عن هويتها واستراتيجيتها وأهدافها العامة ومع جمهورها، وهو ما يعبر عن جوهر “المدونات القيمية”، وهي القيم الأساسية لكل مؤسسة عامة كانت أو خاصة.

2-التعبير عنها على أنها مرتكزات للسلوك، بمعنى أن ” قيمة النزاهة” تقتضي من المحامي ألا يقابل خصم موكله من غير علم الأخير، فهذا يقيَّم بأنه فعل غير صائب…لماذا؟ لأنه يخالف مبدأ أو قيمة النزاهة.

ومثله في القضاء “مبدأ الحادية”، فلا يجوز للقاضي أن ينحاز لأحد الخصوم، حتى وإن وافق ذلك أفكاره ولاقى استحسانه، فانحياز القاضي سلوك يخضع حينئذ للتقويم ويوصف بأنه “غير صائب” أو “سلوك خاطئ “….

لماذا لأنه خالف مبدأ وقيمة “الحيادية”، وهي قيمة تقتضي سلوكا من القاضي وممارسة تعبر عن الحياد بين الخصوم والاحتكام لنصوص القانون واعتماد أوراق القضية ومعطياتها وما يرسخ في وجدانه من هذه المعطيات وتلك البراهين الموافقة للنصوص فحسب.

وعليه يمكن القول بأن القيم السلوكية أو الأخلاقية التي يعتد بها في المدونات القانونية هي:

1- ” المبدأ (أو القاعدة أو المعيار) الذي يجعل بمقدورنا اعتبار(سلوك ما – أو شيء ما) خلقيًا، أو ذا خلق، أو أخلاقي، أو صائبا أو صحيحا أو قانونيا “.

2- أو ” ذلك المبدأ (أو القاعدة أو المعيار) الذي يجعل بمقدورنا اعتبار سلوك ما -شيء ما – خيرًا أو شرًا، بالمعنى العام للخير والشر.

3-ويأتي كذلك تعريف القيم الخلقية بأنها: ” كل ما يبني لنا أحكامنا الأخلاقية “.

4- وتعرف كذلك بأنها ” موجهات السلوك ” بحسب الاصطلاح الاجتماعي، فالقيمة بما سبق من تعريفات تعتبر علة للسلوك والسلوك معلولا لها، بل يذهب بعض العلماء إلى تسمية علم القيم بـ”علم السلوك”، فكل سلوك طوعي يستدعي قيمة ما، كما أن كل قيمة تفرض سلوك ما.[ انظر: القيم بين المنهجين الوضعي والمعياري -رسالتنا للدكتوراه – جامعة القاهرة 2005 م، ص 23، وما بعدها22]

 

وتوصف القيم أيضا بأوصاف كثيرة تتعدد بتعدد السلوكيات والأفعال المراد وصفها أو تقييمها أو الحكم عليها وتقييمها .فهناك:

1-القيم الأخلاقية وهي المعايير التي تنتمي إلى الأخلاق.

2-القيم السلوكية، وهي معايير الحكم على السلوك والفعل بأنه صائب أو غير صائب في أي حال كان فيه هذا السلوك.

3-القيم السلوكية المهنية: ويقصد بها وصف سلوك الموظفين أثناء ممارستهم لأعمال مهنتهم والحكم عليها بأنها “سلوكيات صائبة توافق القيم والمحددات التي وضعتها المؤسسة أو لا.

 

 التعريف الثاني: تعريف السلوك

السلوك هو الفعل المصحوب بإرادة، أو هو التصرف المقصود، ويوصف السلوك بالقيمي بمعنى أنه سلوك يوصف بالصواب أو غير الصواب، صائب وموافق للقيمة التي تحكم عليه، فهو يحققها أو إنه لا يصادمها ولا يخالفها….

والسلوك المقصود في المدونات إما أن يكون:

أ- سلوكا شخصيا لصاحبه.

ب- أو سلوكا معتمدا في المؤسسة في التعامل مع عناصرها أو جمهورها.

ج- وقد يكون سلوكا مهنيا… يعبر عن أخلاق المهنة وقيمها وهي مجموعة المعايير التي يجب على كل منتسب للمصلحة أن يلتزم بها…. وهي ما يسمى في أحيان كثيرة ” أسرار المهنة “.

ومن هنا تأتي المدونة لكي ترشد وتوجه هذا السلوك، وتنبه صاحبه على أن يتوافق بسلوكياته مع مقتضيات سلوكياتها الوظيفية. ولنا وقفة مطولة لاحقة حول تلك السلوكيات نظرا لأهميتها.

العنصر الثالث: التوثيق في المدونات (القيمية – السلوكية – المهنية)

ونقصد بالتوثيق هنا الإقرار والاعتماد الرسمي، وهذا الإقرار هو ما يمنح نصوص المدونة صفة الوثيقة، ويجعلها رسمية ملزمة أشبه بالعقد المتفق عليه بين أعضاء المؤسسة، سواء كان عقدا توافقيا أو عقدا إذعانيا، وفيه يوقع العضو على الإقرار بالوثيقة والموافقة عليها قبل الانتماء إلى المؤسسة، ويرتهن انتسابه إليها بالتوقيع على قبول نصوص المدونة أو الوثيقة السلوكية.

وعليه يكون التوثيق واعتماد المدونة من خلال طريقين:

أولهما: توافق جميع أعضاء المنظمة أو المؤسسة عليها، وفي نقابة المحامين يكون بتصويت الجمعية العمومية عليها.

ثانيهما: أن يضع رؤساء المنظمة تلك القواعد فيما بينهم، ويفرضونها باعتبارها شرطا أو عقد إذعان لا يصح انتساب العضو إلى تلك المؤسسة إلا بالموافقة عليها وقبولها.

 

العنصر الرابع: التوجيه والالتزام ( التقييم ) في المدونات ( القيمية – السلوكية – المهنية)

المدونات القانونية ليست معلومات أو بيانات أو تأريخا، وإنما هي قواعد قيمة أخلاقية أو سلوكية أو مهنية ترشد إلى سلوك ما وتوجه إليه في موقف ما، ويكون هذا الإرشاد إيجابيا من خلال:

أ- الإشادة به واستحسان التخلق بقيمه وسلوك مسالكه.

ب-أو من خلال الاستنكار والاستهجان، وفيه إرشاد سلبي غايته التحذير والتجنيب عن هذا السلوك.

ويكون التوجيه والإرشاد على النحو الآتي:

1-توجيها عاما: بمعنى أنه تفضيلي ويفهم من الخيار والاختيار بحسب الموقف، وهو ما يقتضيه الإرشاد.

مثال ما ورد في “مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين” وهي تلك الوثيقة الدولية سابقة الذكر: على المحامين أن يحافظوا في جميع الأحوال، على شرف مهنتهم باعتبارهم أعضاء أساسيين في إقامة العدل. [ ص14 البند 12 من الوثيقة ].

فانظر إلى روح التوجية والإرشاد في الصياغة، فهي مخاطبة وجدانية قيمية مقنعة تقوم على تعزيز الولاء والانتماء للمهنة، والافتخار بها باعتبارهم عنصرا من عناصر تحقيق العدالة.

2-توجيها مقصودا: وهو ما يفهم منه معنى الالتزام، وهو وإن لم يكن التزاما صريحا إلا أنه يعني الترغيب في السلوك المحدد، ودعوة مباشرة للعمل في ضوء قيمه، وموافقة معاييره، ومن ثم اتباع مسالكه. ويفهم منه وقوع العامل تحت طائلة المدح والذم بناء على هذه القيم وتلك التوجيهات التي دلت عليها نصوص المدونة وقواعدها.

3- توجيها التزاميا: وهو يجمع ما سبق ولكنه يحمل في طياته الإلزام ووجوب الالتزام بالمعايير السلوكية أو المهنية أو بهما معا، وهو ما يعني مساءلة المخالف ووقوعه تحت المسئولية، وهي مسئولية تتعدد بحسب مراد المدونين والقائمين على المؤسسة:

أ-مسئولية وجدانية…. أقصاها لفت النظر واللوم.

2-مساءلة تأديبية: وفيها حضور ومراجعة واستفسار وتنبيه رسمي.

3-مساءلة إجرائية: وحدودها غالبا أن يتم فصل العامل من المنظمة وإقصائه من المؤسسة، وحال فصله قد يترتب على ذلك مسئوليات أخرى قانونية، بحسب نوع القاعدة القيمية التي انتهكها سلوكيا أو مهنيا.

 

العنصر الخامس: الصياغة القانونية في المدونات ( القيمية – السلوكية – المهنية)

تعتبر الصياغة القانونية للمدونات السلوكية مكملة للعنصر الأول وهو “عنصر الشكل”، وهي ما يتحقق بها صفة التدوين ومنه أطلق اسم “المدونة” على ذلك العمل المدون أو المكتوب بحرص وعناية، فالتدوين كتابة وصياغة بوعي واحتراف لإكساب النص صفة التدوين وصفة القانونية.

فهو متوجَّب وعنصر معتبر في المدونات القانونية، وبدونه تصبح عبارة عن مكتوبات أو مكاتيب قانونية عادية لا يعتد بها وثائق أو مدونات، لأن الصياغة هي ما يحافظ على المعنى في قالب المبنى، وهي ما يكسب النص حبكا وجلالا، وهي ما تحقق غاية اللغة في:

1- الوضوح ( تحقيق الوضوح للمعاني ولمرادفات الصياغة ).

2-الإفهام والكشف عن مضمون النص بلا لبس وبلا إعضال.

2- الدقة في تحديد قيم ومعاني النص ومن ثم تضبط قواعده.

4-السبك والحبك: لسد أبواب تسلل الثغرات والتأويلات.

5-الإخراج الفني والقانوني والمنطقي للصياغة وهي مكونات اللغة القانونية والتي بدونها تسقط عن مستوى القانونية وتنحدر إلى درج المكتوبات العادية التي تحتمل أكثر من وجه.

وبما سبق من عناصر وشرائط يمكن الحكم على نص ما بأنه “مدونة رسمية”، و”وثيقة قانونية: حاكمة وموجهة، وقد تكون ملزمة بالكلية أو ملزمة في بعض قواعدها، وهو التزام قانوني تتعدد جزاءاته على ما سبق بان تكون لوما أو مسائلة يتبعها تأنيب وتوبيخ وإقرار كتابي وتعهد والتزام…، وقد ينبني على مخالفة التزاماتها الفصل من المؤسسة أو المنظمة أو النقابة على نحو ما سنفصله في المقال التالي بإذن الله.

 

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى