مسألة حقوق الإنسان في التصريحات الرئاسية

بقلم: الدكتور/ أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

منذ عام تقريباً، وتحديداً في يوم الاثنين الموافق السابع من ديسمبر 2020م، وفي المؤتمر الصحفي المنعقد في باريس خلال الزيارة الرسمية التي قام بها إلى الجمهورية الفرنسية، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي: «أتصور أننا محتاجين نتوقف ونتأمل وأرجو أن هذه الرسالة تصل لكل أصدقائنا في العالم كله وليس فقط في فرنسا، وحتى في منطقتنا، أن من المهم جداً أننا ونحن نعبر عن رأينا ألا نقول إنه من أجل القيم الإنسانية تنتهك القيم الدينية». وتابع الرئيس عبد الفتاح السيسي، قائلاً: «مرتبة القيم الدينية أعلى بكثير من القيم الإنسانية، لأن القيم الإنسانية هي قيم نحن الذين عملناها». ورداً على ذلك، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: «اعتقد أن التاريخ هنا يمكن أن يتأتى لو صح القول، نحن نعتبر أن قيمة الإنسان فوق كل شيء هذه فلسفة التنوير وهذا ما يجعل من حقوق الإنسان عالمية وهي في ميثاق الأمم المتحدة». وتابع قائلاً: «لا شيء فوق الإنسان واحترام كرامة البشر».

والواقع أن حقوق الإنسان كان موضوع رسالتي للدكتوراه باللغة الفرنسية، والتي قمت بإعدادها في جامعة باريس 2 – بانتيون أساس بفرنسا (Pantheon- Assas)، سنة 2002م، وجاءت تحت عنوان حقوق الإنسان المسجون. وقد أتاح لي دراسة هذا الموضوع الاطلاع على أحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان وأحكام القضاء الفرنسي بشأن الحقوق والحريات المختلفة، ووجه العلاقة بينها، وصولاً إلى تحديد مرتبتها، وما إذا كان الحق أو الحرية نسبياً أم مطلقاً. وغني عن البيان أن هذه النقاط تبدو جوهرية ومفصلية في بيان وجه الرأي فيما يتعلق بالتصريحات الرئاسية سالفة الذكر، الأمر الذي نتعرض له فيما يلي:

مناسبة الحوار وتداعياته

يأتي هذا الحوار الرئاسي بمناسبة أزمة رسوم الكاريكاتير المسيئة للرسول الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي عادت إلى الظهور مرة أخرى على إثر قيام صحيفة شارل إبدو الفرنسية في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر 2020م بإعادة نشر هذه الرسوم المسيئة تزامناً مع بدء محاكمة أربعة عشر متهماً باغتيال سبعة عشر من الصحفيين العاملين في هذه الصحيفة، وهي الواقعة التي حدثت في شهر يناير 2015م.

ويبدو أن كلام الرئيس عبد الفتاح السيسي قد جاء رداً على ما صدر عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مناسبة سابقة من عبارات تنطوي على ما يمكن اعتباره تأييداً ضمنياً لصحيفة «شارل إبدو»، حيث قال: «في فرنسا هناك أيضاً حق التجديف وعليه ومن حيث أقف يتوجب علىّ حماية كل هذه الحريات، وعليه فلا أعلق على خيار صحفي، علىّ أن أقول فقط إن الشخص في فرنسا بإمكانه انتقاد من يحكم وآخر يمكنه حق التجديف»، أي أن الرئيس الفرنسي اعتبر هذه الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول وللمسلمين تندرج تحت حرية التعبير. كذلك، وفي احتفال فرنسا بمرور مائة وخمسين عاماً على إرساء الجمهورية الفرنسية، قال الرئيس الفرنسي: «إن الجمهورية والديمقراطية في خطر حالياً، وإننا لن نترك مجموعة من الناس يفرضون علينا قوانينهم». وجدير بالذكر في هذا الشأن أن مسألة ازدراء الدين عرفت في أوروبا بجريمة «التجديف» وهو الحديث عن الله بازدراء، أو الإصرار على عدم احترام الله، التجديف هو الإهانة المنطوقة أو المكتوبة ضد اسم الله أو شخصيته أو عمله أو صفاته.

وقد أثار هذا الحوار السياسي ذي الصبغة الدستورية فيما يتعلق بما يسمو فوق الآخر بين القيم الدينية مقابل القيم الإنسانية تفاعلاً واسعاً في وسائل الإعلام العربية والأجنبية وفيما بين العديد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي. وتعليقاً على هذا الحوار، وفي تغريدة على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، منشورة في يوم الأربعاء الموافق التاسع من ديسمبر 2020م، يقول الأستاذ الدكتور محمود كبيش، العميد الأسبق لكلية الحقوق بجامعة القاهرة: «إذا أخذنا بوجهة نظر الرئيس الفرنسي ماكرون أن القيم الإنسانية تعلو على القيم الدينية.. فقد غاب عنه أنه إذا كان من القيم الإنسانية ضرورة احترام حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد فإن مقتضى ذلك الالتزام بعدم السخرية من عقيدة الآخر.. معنى ذلك بطريق اللزوم المنطقي أن الإساءة لعقيدة الآخر هي اعتداء على قيمة إنسانية جديرة بالحماية وفقاً لوجهة نظر الرئيس الفرنسي ذاته».

ومنظوراً إلى حرية الاعتقاد والحريات الدينية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من القيم الإنسانية، وتتمتع بالتالي بقيمة دستورية، فإن التساؤل يبقى قائماً عن العلاقة بين الحقوق والحريات الدستورية. ويثور التساؤل بوجه خاص عن حدود العلاقة بين حرية التعبير وبين حرية العقيدة والحريات الدينية وضرورة احترام المشاعر الدينية للآخرين. وبعبارة أخرى، يثور التساؤل عما إذا جائزاً التذرع بحرية التعبير في الإساءة إلى الأديان والمعتقدات الدينية. وفي الإجابة عن هذه التساؤلات، سنقوم أولاً بإلقاء الضوء على المبادئ الحاكمة للعلاقة بين الحقوق والحريات الدستورية بوجه عام، وذلك قبل أن نحاول بوجه خاص تحديد نقطة التوازن بين حرية التعبير وحرية العقيدة والحريات الدينية.

المبادئ الحاكمة للعلاقة بين الحقوق والحريات الدستورية

يكفل الدستور – أي دستور – حماية الحقوق والحريات، إما كفالة مباشرة من خلال قواعده، أو بطريق غير مباشر من خلال مبادئه، وذلك بأن يترك للمشرع تحديد إطار هذه الحماية في إطار مبادئ عامة يقررها ويوفر ضماناتها. ويثور البحث عما إذا كان من الممكن أن ينشأ تناقض بين الحقوق والحريات في الوثيقة الدستورية الواحدة. فكيف يمكن حل هذا التناقض؟ والإجابة عن هذا التساؤل تكمن في تحقيق التوازن بين الحقوق والحريات، الأمر الذي يبدو محكوماً بثلاثة مبادئ: وأول هذه المبادئ الثلاثة، أن الحقوق والحريات ليست حقوقاً مطلقة لا حدود لها. فممارسة أحدها أو إحداها لا يجوز أن تكون من خلال التضحية بغيرها من الحقوق والحريات. فالحق في حرية التعبير – مثلاً – لا يجوز ممارسته اعتداء على الحق في الحياة الخاصة أو الحق في الشرف والاعتبار. وقد أكد القضاء الدستوري هذا المبدأ، بما مؤداه أن ممارسة الحقوق والحريات لا يحدها غير ضرورة ضمان الحقوق والحريات الأخرى وغيرها من القيم الدستورية. وكل هذا يتطلب تفسير حدود ممارسة الحقوق والحريات بكل دقة حتى تكون هذه الحدود متناسبة ومعقولة بمراعاة الغاية التي تستهدفها وسائل حمايتها. وثاني المبادئ الحاكمة لعملية التوازن بين الحقوق والحريات هو أن الدستور لا يعرف أي تدرج بين القواعد الدستورية، ولا بين الحقوق والحريات، سواء تلك التي يحميها الدستور مباشرة وصراحة أو تلك التي يحميها بطريق غير مباشر من خلال استخلاص المحكمة الدستورية لها من نصوص الدستور. أما ثالث المبادئ، فهو أنه لا يتصور وجود تنازع بين الحقوق والحريات في نصوص الدستور. فأي تنازع ظاهري في هذا الشأن يجد حله من خلال التوازن بين هذه الحقوق داخل النظام القانوني القائم على وحدة الدستور ووحدة الجماعة (د. أحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية، 1420ه – 2000م، رقم 28، ص 94 و95).

التوازن بين حرية التعبير وحماية المشاعر الدينية في المواثيق الدولية

حرصت ديباجة معظم القرارات الصادرة عن مجلس الأمن بشأن مكافحة الإرهاب على عدم جواز الربط بين الإرهاب والتطرف العنيف وبين أي دين أو جنسية أو حضارة. ولعل ذلك يبدو جلياً في الفقرة الرابعة من ديباجة قرار مجلس الأمن رقم 2396 (2017) الصادر في 21 ديسمبر 2017م. وفي الفقرة التاسعة من ديباجة القرار رقم 1566 لسنة 2004م، يؤكد المجلس ضرورة تعزيز الحوار وتوسيع نطاق التفاهم بين الحضارات سعياً إلى منع الاستهداف العشوائي لمختلف الديانات والثقافات.

وغني عن البيان أن حظر الربط بين الإرهاب وبين أي دين ينطبق على أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم ، والتي فجرتها الصحيفة الدنماركية «يلاندز بوستن»، وهي صحيفة يصدرها حزب اليمين المتطرف المتعصب ضد وجود الأجانب في الدنمارك، خصوصا المسلمين، حيث نشرت الصحيفة اثني عشر كاريكاتيراً عن الرسول الكريم محمد  في الثلاثين من شهر سبتمبر 2005، وكلها رسوم فيها استهزاء بالرسول  وبالدين الإسلامي. وقد غضب المسلمون في جميع أنحاء العالم من نشر هذه الرسوم السخيفة التي تصور إحداها الرسول الكريم  وعلى رأسه عمامة مكتوب عليها صيغة الشهادة باللغة العربية وفى جانبها قنبلة وفتيل مشتعل، مما يعنى أن الرسول محمد (حاشا لله) إرهابي، وبالتالي فإن كل أتباعه من المسلمين إرهابيون أيضاً. وإزاء ذلك، وعلى إثر نشر هذه الرسوم المسيئة، خرج المسلمون في معظم عواصم العالم، في مظاهرات احتجاجاً على نشر هذه الرسوم المستفزة لمشاعرهم ولمعتقداتهم الدينية. وطالبوا بمنع نشرها وباعتذار صحيفة «شارل إبدو» على نشرها، ولكن رفضت الصحيفة الاعتذار، بالرغم من أن الصحيفة الدنماركية التي فجرت الأزمة نشرت اعتذاراً رسمياً للمسلمين عن نشرها هذه الرسوم المسيئة.

التوازن بين حرية التعبير وحماية المشاعر الدينية في قضاء المحكمة الأوربية

فيما يتعلق بحدود العلاقة بين حرية التعبير وحرية العقيدة، وفي حكمها الصادر بتاريخ العشرين من سبتمبر 1994م، وضعت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان معاييراً لما يعتبر اعتداءً على دين من الأديان، والتي تمس المشاعر الدينية، حينما أكدت على أنه لا يعتد بانتهاك حق الفرد في التمتع الآمن بحرية العقيدة إلا إذا كانت الطريقة التي يتم بها نقد العقيدة الدينية تتضمن في ثناياها سخرية علنية أو تكون مستفزة وبلا مبرر أو موجهة لأحداث ورموز دينية أساسية بعيداً عن أي حوار للأفكار. ولمن يريد الاطلاع على هذا الحكم، يمكن البحث عنه على الموقع الالكتروني للمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، من خلال البيانات الآتية:

Cour EDH, l’arrêt Otto-Preminger-Institut c/ Autriche, du 20 septembre 1994, A-295/A.

وفي حكم آخر، ذهبت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى تنحية مسألة حماية المشاعر الدينية عندما يكون التعبير في إطار النقاش العام الديمقراطي للأفكار التي تتناول مسائل تهم المجتمع، وترى أنه يجب أن يسود روح التسامح وأن يُتقبل رفض البعض لمعتقدات الآخرين، وهذا كله مع التزام الدولة بتأكيد حرصها على الحق في التمتع الآمن بحرية الديانة وهي حرية الفرد في ممارسة معتقداته. وعندئذ يمكن لجميع المعتقدات أن تعبر عن نفسها بل تتواجه على أن يكون ذلك بروح من التسامح المتبادل.

Cour EDH, l’arrêt Jerusalem c/ Autriche, du 27 févr. 2001, § 46, JDI, 2001, 283, obs. Gueux.

ويتفق بعض الفقه الفرنسي مع هذا القضاء، مشيراً إلى أن حساسية أصحاب العقيدة تودي ببعضهم إلى أن يكون لهم رد فعل أقل ما يقال عنه إنه يجافى روح التسامح، وأن ذلك يعوق ممارسة الحرية التي هي أمر أساسي بالنسبة للحياة الديمقراطية ولحرية التعبير على حد سواء، وما تحتمه التعددية والتسامح والتفكير المتفتح التي لا يمكن أن يقوم دونهما المجتمع الديمقراطي. ومن الضروري أن يتناسب أي قيد يفرض في هذا المجال مع الهدف المطلوب بلوغه. وينطبق هذا المبدأ في مجال العقيدة الدينية، بحيث لا يكون النقد في حد ذاته هو المستهدف، النقد الذي لا يكون أحد بمنأى عنه، وإنما تجاوزاته؛ «فالذين يختارون ممارسة حرية إظهار عقيدتهم الدينية لا بد من أن يتحملوا ويقبلوا رفض الغير لعقائدهم الدينية وحتى قيام الآخرين بنشر معتقدات معادية لما يؤمنون به». ومن الطبيعي في نظام قانونى يسوده مبدأ العلمانية أن تكون القاعدة العامة هي الحيادية، وبالتالي المساواة بين كافة التطلعات الدينية، وأن يستتبع ذلك أن يعترف بالخصوصيات الدينية الفردية والشعور بالهوية المترتبة على ذلك، وفى المقابل يكون من العسير قبول تطبيق معاهدة جماعية تقوم على الانتماء إلى طائفة لأنه سينجم عن ذلك انحرافات خطيرة، من بينها الانغلاق على الذات الذي يكون مصدر الرقى فيه هو الأيديولوجية التي تتبناها هذه الطائفة.

  1. Francillon, Infractions relevant du droit de l’information et de la communication, op. cit, p. 625.

وفي حكم ثالث، حديث نسبياً، صادر في الخامس والعشرين من أكتوبر 2018م، قضت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بأن الإساءة للنبي محمد لا يمكن إدراجها ضمن حرية التعبير عن الرأي، وذلك بعد أن قيّمت المحكمة بشكل شامل النطاق الأوسع لتصريحات سيّدة نمساوية الأصل في إحدى ندواتها ووازنت بحرص بين حقها في التعبير عن الرأي وحق الآخرين في حماية معتقداتهم الدينية، بالإضافة إلى الهدف المشروع في توفير السلام الديني.

Cour EDH, l’arrêt E.S/ Autriche, du 25 octobre 2018, dans lequel la Cour retient un constat de non-violation de l’article 10 de la Convention européenne des droits de l’homme qui protège la liberté d’expression. L’affaire concernait la condamnation de la requérante pour dénigrement de doctrines religieuses, l’intéressée ayant accusé le prophète Mahomet de pédophilie. Selon ses détracteurs, la Cour aurait, ce faisant, reconnu l’existence du délit de blasphème, introduit une différence de traitement entre les critiques à l’égard de l’islam et celles visant la religion chrétienne, aurait opté pour une conception musulmane de la liberté d’expression conforme à la Charia…. En somme, elle ne serait pas «Charlie».

التوازن بين حرية التعبير وحماية المشاعر الدينية في القضاء الفرنسي

في الجمهورية الفرنسية، حدثت العديد من الوقائع التي تثير موضوع التوازن بين حرية التعبير وحماية المشاعر الدينية، والتي كانت محلاً لملاحقات قضائية. وهذه الوقائع لا تتعلق فقط بالدين الإسلامي، وإنما بعضها يتعلق بالدين المسيحي. وللتدليل على ذلك، يكفي الإشارة إلى بعض هذه الوقائع، ومنها على سبيل المثال: مجموعة قصائد شعرية للشاعر «تشارلز بودلير»، والصادرة تحت عنوان «أزهار الشر»، أو «مدام بوفاري». ولا يفوتنا أيضاً أن نشير إلى فيلم «الإغراء الأخير للمسيح»، وهو فيلم أمريكي ظهر إلى النور في العام 1988م، ويُظهر السيد المسيح فريسة لإغراءات شهوانية حسية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أثارت أفيشات بعض الأفلام ملاحقات قضائية تحت عنوان الإساءة إلى المشاعر الدينية. وفي هذا الصدد، يمكن أن نشير إلى أفيشات فيلم «أحييك يا ماري»، وأفيشات فيلم «إيفا ماريا» سنة 1984م، وأفيشات الفيلم الأمريكي (The People vs. Larry Flynt)، والذي عرض لأول مرة عام 1997م. ويمكن أن نذكر كذلك أفيشات الفيلم التاريخي الدرامي «آمين» (Amen)، والذي تم عرضه لأول مرة سنة 2002م، ويمثل الأفيش صليباً معقوفاً على خلفية باللون الأحمر والأبيض والأسود موضوعاً فوق الصليب. وهذا الأفيش مستوحى من قصة الفيلم، والذي يلقي الضوء على العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الفاتيكان وألمانيا النازية خلال العرب العالمية الثانية. وقد أثار هذا الأفيش نزاعاً، حيث رأت الأسقفية الفرنسية أنه غير مقبول لأنه يجرح المشاعر الدينية ويمس كرامة كل مسيحي. ولا يفوتنا أيضاً الإشارة إلى أفيشات فيلم (Mila Frman Harry Flimt)، والذي يصور امرأة عارية ملتصقة بالنبي.

وللوقوف على موقف القاضي الجنائي في هذا الشأن، نرى من الضروري أن نلفت النظر إلى إحدى القضايا التي تم نظرها أمام القضاء الفرنسي، وتتلخص وقائعها في قيام إحدى الجمعيات بتوزيع منشور في إطار حملة للوقاية من مرض نقص المناعة «الإيدز» عبارة عن رسم كاريكاتيري يحمل عنوان «ليلة قوية – الواقي الذكري». ويتضمن المنشور رسماً عبارة عن النصف العلوي لراهبة وملاك صغير يحمل قوساً وسهماً وواقيين ذكريين، واقترن هذا الرسم بعبارة «احمينا أيتها القديسة الواقية» نسبة إلى الواقي الذكري. وترتب على هذا أن تقدمت الرابطة العامة لمناهضة العنصرية واحترام الهوية الفرنسية والمسيحية (AGRIF) بشكوى ضد الشخصين اللذين رسما هذا الكاريكاتير الساخر، مع ادعاء بالحق المدني لتوجيه الإهانة علناً إلى الطائفة الكاثوليكية. وبعد نظر القضية، قضت محكمة الاستئناف بإدانة هذين الشخصين على سند إهانتهما مجموعة من الأشخاص بسبب انتمائهم إلى عقيدة معينة، وهي جريمة تنص عليها المادة 33/ 3 من قانون 29 يوليو سنة 1881م. وجاء في حيثيات هذا الحكم أن الرسم محل النزاع يثير «إيماءً مستفزاً وينم عن فساد في الذوق، ويمكن أن تستشعر منه الإهانة للطائفة الكاثوليكية في عقيدتها وشعائرها». إلا أن محكمة النقض الفرنسية ذهبت إلى أن هذا الرسم يبرره الهدف الذي أعد من أجله، وهو إطلاق «الحملة للوقاية من مرض الإيدز» وأنه لا يتجاوز حدود حرية التعبير، بل راعى ما درج عليه العرف. وأبرز أيضاً أن هذا الرسم لم يكن يتسم بأي طابع مسيء أو مزدر للعقيدة، وأنه يندرج في إطار حرية الجدل السياسي، وأن «الحكم على الذوق» الذي ساقه الحكم موضع النقد يشكل انتهاكاً لمبدأ التفسير الدقيق لقانون العقوبات. وبناء على ذلك، أنصفت الدائرة الجنائية المتهم، فأصدرت حكماً أشارت فيه إلى أن القضاة أساءوا تقدير الموقف، وحتى لو أنها قبلت بأن حساسية بعض الكاثوليك قد جرحت، فإنها ترى مع ذلك أن الأمر لم يتجاوز «الحدود المقبولة» لحرية التعبير. وعلى هذا النحو، ذهبت محكمة النقض في اتجاه تغليب حرية التعبير على مبدأ الاحترام المتصل بالمعتقدات.

وتعليقاً على هذا الحكم، يرى بعض الفقه أن هذا الحكم يتفق مع أحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في هذا الشأن، والتي تنحي جانباً مسألة المشاعر الدينية عندما يكون التعبير في إطار النقاش العام الديمقراطي للأفكار التي تتناول مسائل تهم المجتمع، وترى أنه يجب أن يسود روح التسامح وأن يتقبل رفض البعض لمعتقدات الآخرين (د. طارق سرور، جرائم النشر والإعلام، الكتاب الأول، الأحكام الموضوعية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2008م، رقم 290، ص 523).

التوازن بين حرية التعبير وحماية المشاعر الدينية في التشريعات العربية

تحرص الدساتير المصرية المتعاقبة على حماية حرية العقيدة. فعلى سبيل المثال، ووفقاً للمادة الرابعة والستين الفقرة الأولى من الدستور المصري لعام 2014م «حرية الاعتقاد مطلقة». ولهذا الحكم نظير في دساتير الدول العربية الأخرى. وتحرص الدساتير المصرية المتعاقبة على كفالة حرية التعبير. فوفقاً للمادة الخامسة والستين من الدستور المصري الحالي، «حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو بالكتابة، أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر». ويمكن أن نجد نظيراً لهذا الحكم في معظم دساتير الدول العربية الأخرى.

ومع ذلك، وإذا كانت الدساتير الوطنية تكفلان حرية الاعتقاد وحرية التعبير، فإن هذه الحرية أو تلك لا تسمح بالتعدي على الأديان الأخرى. وتطبيقاً لذلك، وفى حكمها الصادر في 27 يناير 1941م، قضت محكمة النقض المصرية بأنه «وإن كانت حرية الاعتقاد مكفولة بمقتضى الدستور فإن هذا لا يبيح لمن يجادل في أصل دين من الأديان أن يمتهن حرمته أو يحط من قدره أو يزدريه عن عمد منه. فإذا ما تبين أنه إنما كان يبتغى بالجدل الذي أثاره المساس بحرمة الدين والسخرية منه، فليس له أن يحتمى من ذلك بحرية الاعتقاد» (نقض مصري، 27 يناير سنة 1941م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠـ 5، رقم 197، ص 376). كذلك، قضى بأن «الحد الذي يجب أن نقف عنده عند المساجلة والنقاش في المسائل الدينية هو ما دون الامتهان والازدراء، وكل ما من شأنه أن يحط قدر الدين ويسقط من كرامته وكل ما يتسع له لفظ التعدي الذي استعمله المشرع. وليست الإهانة جزءاً لا يتجزأ من حرية المناقشة العلمية أو الفلسفية، إذ إن ميزة هذه المناقشة التي تتميز بها وطابعها الذي تعرف به هو أن تكون رزينة محتشمة، أما السباب والتحقير واللدد والشطط في الخصومة فلا تتصل بالمناقشة الكريمة ولا تؤدى لها أي خدمة بل على العكس تعقد سبيلها وتقلبها من وسيلة إقناع واقتناع إلى ساحة خصومة وذريعة هياج وسبب لإثارة الخواطر. فليس إذاً لمن توسل بما وصل إلى حد التعدي أن يتذرع بتلك الحرية ولا أن يتحمل بالرغبة في البحث العلمي لأن التعدي يثير المسائل ولا يقدم البحث خطوة بل هو يجعل طريقه مظلماً بما يثيره في النفوس من نار الغضب والتعصب. فإذا كان الكاتب قد ألقى على الشريعة الإسلامية تبعة الفوضى الأخلاقية من خلاعة ومجون وتغزل بالغلمان وتسابق على انتهاك الحرمات وشرب الخمر وأنها أباحت الزنا، وادعى أن الإسلام كان سبباً في انحطاط الشرق، كان متعدياً على الدين الإسلامي خليقاً بالعقاب عملاً بالمادتين 160 و161 من قانون العقوبات» (حكم محكمة جنايات مصر، 10 مايو سنة 1939م، المجموعة الرسمية، س 40، رقم 2).

وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة الثالثة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (2) لسنة 2015 في شأن مكافحة التمييز والكراهية على أن «لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأي والتعبير لإتيان أي قول أو عمل من شأنه التحريض على ازدراء الأديان أو المساس بها، بما يخالف أحكام هذا المرسوم بقانون».

عبدالعال فتحي

صحفي بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين؛ عمل في العديد من إصدارات الصحف والمواقع المصرية، عمل بالملف السياسي لأكثر من عامين، عمل كمندوب صحفي لدى وزارتي النقل والصحة، عمل بمدينة الإنتاج الإعلامي كمعد للبرامج التلفزيونية.
زر الذهاب إلى الأعلى