لا ابرح حتي أبلغ

البدايات القوية مهمة، ولكن استمرار المهمة أهم، فأحب الأعمال إلى الله أدومها، لذلك جمع موسى عليه السلام في هذه الجملة بين البداية القوية والعزيمة على الاستمرار فقال : {لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، فهو يُخبر أنه على استعداد أن يستمر في السير لطلب العلم حتى يصل إلى غايته أو يظل يسير ولو لسنين {حُقُبًا}.

لذلك جاءت الآيات بعدها كلها معطوفة بحرف الفاء الذي يدل على السرعة والمتابعة : {فَلَمَّا بَلَغَا…}، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ…}، {فَلَمَّا جَاوَزَا…}، {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا…} وقد حذرنا الله عز وجل من النموذج الأبتر الذي ينقطع دائما مع أي عارض، فقال تعالي : {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ؛ وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ}[النجم:33-34].

هذا الشخص كان على الطريق ثم تولى ولم يكمل لسببين : الأول : ضعف البداية {أَعْطَىٰ قَلِيلًا} لاحظ كلمة قليلا، عطاء ضعيف من البداية.

الثاني : عدم مجاهدة النفس على الاستمرار عند العوارض {أَكْدَىٰ} ومعنى أَكْدَى أي توقف لما بلغ الكُدية، والكُدية أي الحجر الصلب الذي يقابل من يحفر بحثاً عن الماء، فيقال لمن طلب شيئاً ولم يدرك آخره وأعطى شيئاً ولم يتم أنه أكدى، هذه الصخرة حتما ستقابلك في طريقك فإياك أن تتوقف.

أدعو الله تعالى أن تجد بين ثنايا هذا المقال ما يُدخل السعادة إلى نفسك، ويبدد أي يحزن قد سكن بها إما بسبب فشل، أو إخفاق أمطرت غيومه السوداء فوق رياضك الجميلة ذات يوم.

وتذكر أن لا شيء يستحق أن تتوقف عنده طويلا، أو أن تعلن انهزامك واستسلامك من أجله، لأن الفاشلين فقط هم من يفعلون.

انفض عنك غبار اليأس، وتعلم أن تنهض دائما كلما كبوت !

يقول ابن الجوزي :
” ومن الذي حصل له غرض ثم لم يُكَدَّر؟! “.

هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأُخرج منها.
ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده
والخليل ابتلي بالنار
وإسحاق بالذبح
ويعقوب بفقد الولد
ويوسف بالسجن ومجاهدة الهوي
وأيوب بالبلاء
وداود وسليمان بالفتنة
وجميع الأنبياء على هذا
وأما ما لقي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من الجوع والأذى وكدر العيش، فمعلوم.

الدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار، مطبوعة على المشاق والأهوال، والعوارض والمحن، هي كالحر والبرد لا بُد للعبد منهما.

“وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” [البقرة : 155].

والقواطع محن يتبين بها الصادق من الكاذب، ” أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ” [العنكبوت:2].

والنفس لا تزكو إلا بالتمحيص، والبلايا تظهر الرجال، يقول ابن الجوزي: (من أراد أن تدوم له السلامة والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف ولا أدرك التسليم)، ولا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت؟، والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار ولا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم، والمرء يتقلب في زمانه في تحول النعم واستقبال المحن.

اعلم انه حين تشتد الأزمات وتتفاقم، يأتي اليسر والفرج، أرأيت كيف فرج الله للأمة بعد الهجرة وقد عاشت قبلها أحلك الظروف وأصعبها حين كان النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه يؤذون في مكة وبين شعابها؟
وفي الأحزاب حين بلغت القلوب الحناجر وظن الناس بعدها بالله الظنون، بعد ذلك كانت مقولة النبي – صلى الله عليه وسلم- وهي مقولة صدق: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا».

وحين مات النبي – صلى الله عليه وسلم – وضاقت البلاد بأصحابه، وارتد العرب، وأحدق الخطر وما هي إلا أيام وزال الكرب، وتحول المسلمون إلى فاتحين لبلاد فارس والروم، وصار المرتدون بإذن الله بعد ذلك جنودًا في صفوف المؤمنين.

والعبر في التاريخ لا تنتهي ..

والأمر قد يكون في ظاهره شرًا، ثم تكون العاقبة خيرًا بإذن الله، أرأيت حادثة الإفك وفيها من الشناعة والبشاعة ما فيها، ومع ذلك هي بنص القرآن : ” لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ” [النور:11].

وها هو سراقة بن مالك (رضي الله عنه) يلحق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – فكان أول النهار عازما على قتله، وأصبح في آخره من جنوده المؤمنين !

فلننظر إلى الأمور بعين التفاؤل وإن بدت في ظاهرها على عكس ذلك، ولندع اليأس والتخذيل ألم يقل حبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم «تفاءلوا بالخير تجدوه» فالنفوس المتفائلة وحدها هي التي تمضي نحو مرادها بثباتٍ ويقين وهدوء وسكينة، فالمتفائل ينتظر الفرج قبل النظر إلى المصيبة، ويعلم أن اليسر في طي العسر، وأن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا، فتراه دائمًا يغلب الأمل على اليأس، والتفاؤل على التشاؤم، والرجاء على القنوط، ويرى قرب الفرج كقرب ضوء النهار آخر الليل.

الان ردد معي وقل ”  لا أبرح .. حتى أبلغ ”

وصمم على بلوغ هدفك حتى لو كان الثمن أن ” تمضي حُقبًا ” و كانت كل حُقبة أربعين عامًا فإن اجتمعت كانت أمدًا طويلًا ..

” لا تبرح .. حتى تبلغ ” غايتك و لو كانت بعيدة بُعد ” مجمع البحرين ” .. ولربما لقيت من سعيك هذا “نصبًا” ولربما أخطأت فعدت على آثارك “قصصا ” .. لكن لا تبرح .

قل إن وهبني الله قلمًا فلن أبرح حتى أبلغ به روعة التأثير .. ولئن وهبني الله ريشة فلن أبرح حتى أبلغ بها لوحة خالدة .. ولئن وهبني خطوة فلن أبرح حتى أبلغ بها القمة.

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى