قوة الداخل

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 30 /3 / 2020

بقلم الأستاذ : رجائى عطية

تختلف وتتباين قدرات الناس فى كل شىء ، فى الايجابيات وفى السلبيات ، وفى كل عناصر القدرة البشرية .. كما تتباين أيضًا فى القدرة على احتمال الفشل أو الاخفاق ، وفى مقاومة الشعور بالإحباط .. منهم من يتماسك ويصمد ، ومنهم من يستطيع أن يعبر الأزمة ويتجاوزها ويمضى ، ومنهم من يتهاوى وينهار ويقعد وربما يسقط . ومنهم من يقع فريسة لعقد نفسية ولمركبات نقص تتمكن منه وتنضح فى سلوكه ومعاملاته ، وتشده إلى أسفل إن لم ينتبه إليها ويروضها ويداويها .
وكما تختلف وتتباين هذه القدرات ، تختلف وتتباين أيضًا العقد النفسية ومركبات النقص ، ما ظهر منها وما توارى واستبطنته النفس دون أن تظهره .. والوقوع فى وهدة هذه العقد أو مركبات النقص صدى فى الواقع لضعف داخلى يقترن غالبًا بقلة الثقة فى النفس ، مع الاهتمام أحيانًا بمواراتها وربما بإدعاء العكس !
وكما تتعدد أسباب العاهات الجسدية أو العضوية ، تتعدد أيضًا أسباب العاهات والأمراض والعقد النفسية أو مركبات النقص .
الفارق بينهما أن العاهات الجسدية تتلقى مواجهة جسدية تلقائية وتعويضية من الأعضاء الأخرى .. وقد يستعان تعويضًا لها بأجهزة صناعية تعويضية كالأطراف الصناعية والنظارات والسماعات الطبية ، وأجهزة تنظيم أو تقوية نبضات القلب أو تركيب دعامات لتوسيع الشرايين ومساعدة الدماء على التدفق الطبيعى من وإلى القلب وعبر الصمامات .
أما العاهات النفسية والعقد ومركبات النفس ، فإنها قد تكون خفية عزيزة الاكتشاف حتى على الخبراء ، ومحال أن يتعرف عليها الواقع في وهدتها ، ومن ثم فإن علاجها يحتاج إلى جوار الخبرة التحليلية والعلاجية النفسية ، يحتاج إلى تيقظ وتعاون إرادى وواع ومتفطن من المصاب بعللها وأسقامها .. وأول مقومات العلاج الذى لا يجرى إلاَّ بالتعاون بين الأخصائى والمريض ، أنه لابد أساساً من معرفة جذورها ومركباتها وتراكماتها .. ودور الأخصائى النفسى هنا لازم وبلا بديل .. هناك مثلا من لديهم عقدة أو خوف من الارتفاعات ، وهناك من لديهم عقدة أو خوف من المياه ، ومنهم من يعانون من رهاب مواجهة الحياة أو ضعف الثقة بالنفس !
وصاحب العاهة الجسدية ، يعوضها تلقائيا بنمو الأعضاء التعويضية ، كاشتداد قوة إبصار إحدى العينين أو قوة سمع إحدى الإذنين إذا أصيبت أو وهنت الأخرى ، أو بقوة أحد الساعدين لتعويض الساعد الآخر .. وهكذا .. أما العاهة أو العقدة النفسية أو مركبات النقص ، فلا تواجه إلاّ بعمل إرادى متفطن إلى مكمن العلة أو الداء .. وهذه المواجهة الإرادية ليست ميسورة المنال لدى الضعاف أو الذين تمكنت منهم العقد النفسية .. بل قد يكونون غافلين عنها ناهيك عن أن يتفطنوا لمقاومتها أو علاجها وذلك على خلاف العلل البدنية !
لقد أدرك الأستاذ العقاد بذكائه وقوة إرادته أن برئتيه ضعفاً فكان حريصا على جفاف المحيط ، سواء فى سكنه الذى اختاره علـى مشارف الصحراء ، أو فى رحلاته إلى أسوان ، أو فى الصبر على حمامات الدفن فى الرمال .. وكانت ثقته فى نفسه أقوى من كل ما واجهه من صعاب .. باع مكتبته لضيق الحال أكثر من مرة ، وحاصرته الحاجة فى كثير من الأحيان ، لا سيما فى البدايات ، فلم يتزعزع إيمانه بقامته وقدراته .. لم يهتز حين خسر انتخابات مجلس النواب ، وكذلك الزعيم الكبير مصطفى النحاس الذى خسر الانتخابات البرلمانية فى دائرته سمنود .. فلا نَقَصَ العقاد أو اهتز ، ولا نَقَصَ النحاس أو أحس بالعار ! وواجه العقاد الأمر بثقة ماضية وحكمة بالغة حين قال : « قيمتك فى نفسك ، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك » .. أو حين قال : « إذا أحبك الناس مخدوعين فلا تفرح ، وإذا كرهك الناس مخدوعين فلا تحزن .. بعض الكراهات خير لك من بعض المحبات » !
قيمة الإنسان فيه ، لا فى مرايا الآخرين .. مستوية كانت أو محدبة أو مقعرة ، ولكن تنشب الأزمة حين تتغلغل التفاهة وقلة القيمة وهوان الشأن إلى داخل الإنسان .. وكثيرا ما يكون لهذا الهوان مقدمات قد لا يمسك بها الواقع فى وهدتها ، ولكنها تتحكم فى مسارات حياته .. أحيانا بالوعى وأحيانا باللاوعى .. كشأن الجازع من العمل الحر الهارب منه إلى حماية وأمان الوظيفة العامة على نظام : « إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه » ! .. فإن فاته الميرى طلب الأمان فى الوظيفة الخاصة ، حتى وإن دفع فيها من كرامته !!
والخوف من مواجهة الحياة خوف من المجهول يزيده ضعف الثقة بالنفس أو الإحساس بقلة الحيلة ، وقد يغذيه استسهال الحلول الموصلة للثراء أو اليسار أو مراقى السلطة أو المجتمع ، باللجوء أحيانا إلى الوساطات أو الرشوات ، أو الإقدام على الزيجات الأكثر حسبا أو الأكثر مالا ! وأمثال هذه الحلول تتضافر مع العقد النفسية ومركبات النقص فتزيد كُمُونها وتمكنها من الشخصية التى لا تشعر بحكم العادة ـ بحقيقة ما يعتمل ويتراكم فى داخلها من عقد نفسية ومركبات نقص تنضح فى سلوكيات وتصرفات لا يستطيع الواقع فى وهدتها أن يلتفت إليها ناهيك عن أن يتفطن إلى علتها ويشرع فى مداواتها !
أمثال هؤلاء لا يصمدون للفشل وهو قدر على جميع الناس ، ويسرع إليهم الإحباط فلا يتماسكون كما يتماسك الأقوياء ، وقد يعتريهم الاكتئاب والمزيد من مركبات النقص لمجرد التقدم فى السن أو الإحالة إلى المعاش .. وتسيطر عليهم العقد الكامنة التى تؤدى إلى المزيد من فقدان الثقة بالنفس مقترنة بالرغبة فى التعويض بالمظاهر ظنا أنها سوف تستر خواء الداخل !
أقوياء الداخل هم الأقوى على الإخلاص والوفاء والمحافظة على الصداقات .. لا يصمد الضعيف للإخلاص ولا يقوى على الوفاء ولا على الصبر .. ولا تجد له صديقا تدوم صداقته وإياه .. أخطر ما يصيب الآدمى خواء وضعف الداخل ، قوة الداخل هى الصمام الواقى من تداعيات العقد النفسية ومركبات النقص ، وهى الواقى أيضا من الخوف أو الجزع أو الإحباط أو فقدان الثقة بالنفس لدى من لا يتحملون ما قد يصادفهم من ملمات أو إخفاقات ! .. قوة النفس متانة داخلية ومضمون خصب ، وتربيتها غاية كبيرة تحتاج إلى عزيمة ماضية وهمّة صادقة !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى