فن التفسير القانوني (بين التنظير والتطبيق ) (3)

بقلم: الدكتور/ محمد عبد الكريم أحمد الحسيني ـ أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.

لكي يقومَ التفسيرُ القانوني بأدواره في استخراج الأحكام من نصوصِها، ولِيدْرِكَ المفسرُ بفهمه مقاصدَ مشرِّعها، وليُصيبَ القاضي بقضائه وتطبيقه غايةَ تشريعها؛ كان لابدَّ من قيام (عملية تفسير النصوص التشريعية) على تنظيمات قانونيَّة محكمة، تنظيمات تجمعُ بين العلمية والتطبيقية معا، فما أكثرَ التنظيرات وما أوفر التأصيلات..!!

 وما يحتاجه القانوني وبحقٍّ هو عمليات محددة وخطوات معينة تمكِّنُ من تناول النص القانوني للوقوف على دلالاته الظاهرة، ثم دلالاته السياقية، ثم دلالاته العميقة التي تجلِّي مقاصدَ المشرع في تشريعه ويمكن اعتبارها بمثابة (خريطة الطريق الدلالي) للقاضي والفقيه القانوني والمحامي ولكافة القانونيين لإنفا ذ القانون وحماية الحقوق وبسط العدالة.

دعونا نقطع التأصيل قليلا ونبتدر مقالنا ببعض القواعد التي وضعتها محكمة النقض المصرية للدلالة على قواعد التفسير القانوني الصحيح بما يتفق ومقاصدَ المشرع .

بالنظر إلى المكانة السامقة لمحكمة النقض في النظام القضائي حيث إنها –أصالة- محكمةُ قانونٍ وإن غدت بعد تعديل قانونها في الآونة الأخيرة محكمة موضوع أيضا [راجع تعديل بعض أحكام قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض بالقانون 7 لسنة 2016م والقانون 11 لسنة 2017،]، فقد عنت عناية ظاهرة بالتفسير الصحيح للقانون إذ إنها –ابتداء- محكمة قانون لها حق الرقابة على العامة على محاكم الموضوع في تطبيق صحيح القانون وفي تفسير نصوصه على الوجه الصحيح الموافق لمقاصد المشرع، وقد أرست المحكمة في هذا الصدد مبدأ قيما يمكننا التعبير عنه بالصياغة التالية:

مبدأ التفسير القانوني الصحيح:

“التئامُ النصوص التشريعية في غير تعارض بينها ولا إقصاء لبعضها من أمارات التفسير القانوني الصَّحيحِ الموافق لما أراده الشَّارعُ”.

أرست محكمة النقض هذا المبدأ في التفسير القانوني الصحيح وجعلته دالَّةً على صواب التفسير وقرينةً قاطعة على صحته وموافقته لمراد المشرع ومقاصده.

ويمكننا من خلال تتبع عديد أقْضية النقض سردَ مراحل التفسير القانوني الصحيح في خمس خطوات على هذا النحو:

الخطوة الأولى: انطلاق التفسير القانوني من مادة النص ذات الاتصال المباشر بالواقعة.

الخطوة الثانية: مراعاة المفادات المضافة من تفسير النصوص التشريعية الأخرى ذات الصلة.

الخطوة الثالثة: التماس القرائن والدلائل على التوفيق بين النصوص التشريعية وتكاملها.

الخطوة الرابعة: التأكد أن المفسر لم يترك العمل بأي من النصوص في مقابل النصوص الأخرى.

الخطوة الخامسة: التناسب والملاءمة بين جميع التفسيرات في غير تعارض ولا تناقض.

وهذا تبيان موجز وبيان مكثف مع تطبيق عملي لمحكة النقض على هذا المبدأ من خلال خطواته الخمسة

الخطوة الأولى: انطلاق التفسير القانوني من مادة النص ذات الاتصال المباشر بالواقعة.

ومن المعلوم أن قاضي الموضوع هو من يكيِّف الواقعة وهو من يُعيِّنُ النصَّ المتعلق بها، وله في ذلك أن يأخذ بتكييف النيابة العامة أو أن يغير من هذا التكييف في حدود معينة،  والأمر على ما ذكرته محكمة النقض بأن محكمة الموضوع تلتزم ببيان طبيعة الواقعة وإسباغ الوصف القانوني الصحيح الذي يرتب آثاره القانونية، وفي هذا أرست ما يلي: ” التزام قاضى الموضوع بإعطاء الدعوى وصفها الحق وتكييفها القانوني الصحيح في حدود سببها عدم تقيده بتكييف الخصوم لها. اعتبار ذلك من سُبل تحديد الاختصاص [لطعن رقم ٣١٠٨ لسنة ٨٣ قضائية، الصادر بجلسة ٢٠٢١/٠٦/١٦ ].

الخطوة الثانية: مراعاة المفادات المضافة من تفسير النصوص التشريعية الأخرى ذات الصلة.

من المعلوم أن الواقعة القانونية قد تعالجها مادة واحدة أو أكثر من مادة في القانون الواحد، وقد تعالجها عدة مواد في أكثر من قانون، وعليه يتوجب استتباع جملة المواد في كافة القوانين ذات الصلة بالواقعة وعدم الاكتفاء ببعضها دون البعض الآخر وهو ما يقتضي تعدد التفسيرات بتعدد مواد القوانين.

وفي هذه الحالة ينبغي على المفسر أن يراعي المفادات والدلالات كافَّة من المادة ذات الاتصال المباشر بالواقعة ومن غيرها من المواد ات الصلة”.

الخطوة الثالثة: التماس القرائن والدلائل على التوفيق بين النصوص وتكاملها.

من الطبيعي أن يثور تباين بين التفسيرات بحسب مواد القانون الواحد أو بحسب مواد القوانين المتعددة، وهذا يقتضي توفيقا بينها والعمل على التئامها والخروج عنها بتصور قانوني متساند يساعد على الانتقال منه إلى الحكم، إذا صح التصور صح الحكم فم الحكم إلا فرع عن تصوره.

وأمارة هذا الالتئام أن تكون النصوص متساعدة متساندة يكمل بعضها بعضا في ترسيم الصورة الصحيحة للواقعة ونموذجها القانوني بما يساعد على المطابقة ويهيئ لإيقاع الحكم على صواب مراد المشرع.

الخطوة الرابعة: التأكد أنه لم يترك العمل بأي من النصوص في مقابل النصوص الأخرى.

ترك نص دون نص آخر يعني خللا في التفسير وتقصير في استقصاء صحيح حكم المشرع على الوقائع، ولا يسوغ أبدا أن يؤخذ ببعض الأحكام دون بعضها الآخر، أو يلغي بعضها البعض الآخر، بل يتوجب أن يجمع بينها معا في التئام وتكامل.

الخطوة الخامسة: التناسب والملاءمة بين التفسيرات في غير تعارض ولا تناقض

هذه هي الخطوة الخاتمة وهي تعبر عن سداد التفسير وعن صحة إجراءاته في الخطوات السابقة، فإذا كانت محصلة جهود المفسر في تفسيره أن وصل إلى بنيان دلالي متكامل يتساند بعضه مع بعض ويؤدي بعضه إلى بعض في وحدة موضوعية وفكرية لا تناقض فيها ولا تضارب بينها، فهذه أمارة قاطعة على صحة التفسير وفقا لما أراده المشرع.

نموذج عملي من أحكام النقض:

في قضائها حيث الطعن رقم (١٠٧٢٢ ) لسنة ٨٤ قضائية- الدوائر التجارية – جلسة ٢٠١٩/٠٤/٢٣ مكتب فنى ( سنة ٧٠ – قاعدة ٨٠ – صفحة ٥٩٠) وتحت عنوان شركات “شركات الأموال : شركة المساهمة – إدارة الشركة- الجمعية العامة للمساهمين- مجلس الإدارة ” .

تذكر المحكمة أن: ” مفاد المادتين ٧٩، ٨٥ من القانون رقم ١٥٩ لسنة ١٩٨١ أن المشرع منح مجلس إدارة شركات المساهمة حق تعيين رئيس المجلس من بين أعضائه وأجاز له تعيين نائباً للرئيس يحل محل الرئيس حال غيابه، وأن يعهد للرئيس بأعمال العضو المنتدب، كما يوزع المجلس العمل بين أعضائه ويندب عضواً أو أكثر لأعمال الإدارة الفعلية، وهذا كله لا يتعارض مع ما قرره القانون ذاته للجمعية العامة من اختصاصات في المواد من ٥٩ إلى ٧٦ منه …”

ثم تعقب على ذلك بقولها ” وهو ما يتفق مع التفسير الصحيح للأحكام الواردة بالقانون المشار إليه بشأن اختصاص كل من الجمعية العامة ومجلس الإدارة والتي يجب أن تؤخذ في مجموعها للوصول إلى قصد الشارع منها دون أن يؤدى إعمال حكم منها إلى إلغاء الأحكام الأخرى أو تعطيل آثارها”.

تنص على مؤيدات ما سبق بقولها: “ويؤيد هذا النظر – أن مجلس إدارة الشركة المساهمة هو صاحب السلطة في تعيين رئيسه ونائبه من بين أعضائه وتنحية أي منها عن منصبه – أن اللائحة التنفيذية للقانون رقم ١٥٩ لسنة ١٩٨١ الصادرة بقرار وزير الاستثمار والتعاون الدولي رقم ١٦ لسنة ١٩٨٢ نصت في المادة (٢٤٦) منها على أنه “يعين مجلس الإدارة من بين أعضائه رئيساً، كما يجوز له أن يعين نائباً للرئيس يحل محل الرئيس حال غيابه، ويكون التعيين في منصب رئيس المجلس أو نائب الرئيس لمدة لا تجاوز مدة عضويته بالمجلس ويجوز تجديد التعيين في تلك المناصب كما يجوز للمجلس أن ينحى أيهما عن منصبه في أي وقت”.

ثم خلصت إلى تأسيس حكمها وفقا للتفسير القانوني الصحيح بناء على المبدأ العام في التفسير سابق الذكر فانتهت إلى أنه :” لما كان ذلك، وكان الحكــــــــــــــــــــم المطعون فيه قد التزم هذا النظر وقضى بصحة قــــــــرار مجلس إدارة الشركة … المعقود بتاریخ ٢٠ / ١٠ / ٢٠٠٨ الذي عين رئيس مجلس إدارة جديد بدلاً من الطاعن مع بقاء الطاعن بصفته عضواً بالمجلس استناداً إلى أن الدعوة إلى الاجتماع تمت من ثلث أعضاء المجلس وموافقة الهيئة العامة للاستثمار عليه واعتماده، فإذ انتهى إلى رفض دعوى الطاعن رقم … لسنة ١ ق القاهرة الاقتصادية فإنه يكون قد أصاب صحيح القانون ويكون النعي عليه بما ورد بهذا الوجه على غير أساس.”

[ راجع الطعن رقم ١٢١٠٣ لسنة ٨٢ قضائية، الصادر بجلسة ٢٠٢٠/٠٣/٠٤ ، مكتب فنى ( سنة ٧١ – قاعدة ٣٢ – صفحة ٢٦٠ ]

 

 

عبدالعال فتحي

صحفي بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين؛ عمل في العديد من إصدارات الصحف والمواقع المصرية، عمل بالملف السياسي لأكثر من عامين، عمل كمندوب صحفي لدى وزارتي النقل والصحة، عمل بمدينة الإنتاج الإعلامي كمعد للبرامج التلفزيونية.
زر الذهاب إلى الأعلى