صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير.. زنا المحارم

بقلم/ الدكتور أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

نسمع ونقرأ من وقت لآخر في وسائل الإعلام عن جرائم «زنا المحارم»، حيث يحدث في بعض الأحيان أن يتعدى الأب علي بناته جنسياً أو يعتدى الأخ جنسياً على شقيقته أو تمارس الخالة الجنس مع ابن شقيقتها أو ابن شقيقها، وقد يمارس الخال أو العم الجنس مع طفل من عائلته صغير السن تربطه به صلة دم. وهكذا، بدأنا مؤخراً نسمع في مجتمعاتنا العربية عن حالات ترتعد لها الأبدان وتشمئز منها الأنفس. وأحياناً تكون برضا الطرفين، وفي كثير من الأحيان يكون الرجل هو المغتصب الذي يقهر الفريسة الرافضة لهذه العلاقة، وقد يبقى لفترة يخطط للإيقاع بها حتى تأتي اللحظة المناسبة لاقتناص فريسته.

ومع بداية العام الميلادي 2021م، بدأت دور السينما في مصر عرض فيلم «حظر تجوّل». وتدور أحداث هذا الفيلم حول سيدة قضت عشرين سنة من عمرها في السجن عقوبة على قتل زوجها، وبعد خروجها من محبسها واجهت ابنتها التي أصبحت شابة تطاردها بالأسئلة حول سبب قتلها أباها وحرمانها منه في سن مبكرة. ولا تستطيع الأم إخبار ابنتها بالحقيقة، نظراً الى حساسية السبب، وخوفاً على صحتها النفسية، ويتبين في نهاية المطاف أن السبب هو اعتداء الأب على ابنته الطفلة جنسياً. وعلى حد قول بعض الكتاب، بينما يعكس الفيلم جانباً من الواقع، خصوصاً فيما يتعلق بمدى حساسية الاعتراف بوقوع «زنا المحارم»، إلى الحد الذي دفع الأم الى أن تقبل بأن تبقى قاتلة ومذنبة في عين ابنتها، على أن تخبرها بحقيقة القصة، إلا أن ما طرحه الفيلم، يشكل مساحة صغيرة للغاية من مشهد كبير، تحيطه سرية شديدة، ولا تكشف معظم قصصه إلى العلن إلا بعد ارتكاب جريمة أو فضيحة مدوّية تكسر جدران الصمت، لتصبح مادة تتناولها وسائل الإعلام، بصورة مكررة، كل أيام أو بضعة أسابيع على الأكثر. ومع ذلك، فإن مما يحسب لهذا الفيلم هو أخذ زمام المبادرة في مناقشة قضية «زنا المحارم»، لاسيما وأن توقيت عرض الفيلم يأتي في وقت تؤكد فيه تقارير ومؤشرات عدة تزايد هذه العلاقات الجنسية غير المشروعة داخل إطار بعض الأسر المصرية، على نحو غير مسبوق، خصوصاً مع تفشي فيروس كورونا، وقضاء أوقات أكبر في المنزل. ورغم تناول الفيلم المشكلة على استحياء شديد، إلى حد يجعلها خارج السياق الدرامي معظم وقت، إلا أن طرحها في عمل سينمائي على نحو صريح، يعدّ خطوة مهمة، وغير معتادة.

ولعل من قبيل المصادفة أن يتزامن عرض الفيلم مع حدث ثقافي آخر على الشاطئ المقابل من البحر الأبيض المتوسط، أثار بدوره القضية ذاتها. ففي كتابها المنشور في الأسبوع الأول من شـــــهر يناير 2021م، والذي صدر عن دار النشر (Seuil) الباريسية، تحت عنوان «العـائلة الكبيرة» (La Familia Grande)، فجرت المحامية ومدرسة القانون الفرنسية «كاميّ كوشنير» (Camille Kouchner) موضوع «زنا المحارم» في فرنسا، وذلك من خلال الكشف عن جريمة اغتصاب شقيقها التوأم بواسطة زوج أمها. ويكشف الكتاب عن حقيقة مريرة ومخيفة، تتعلق بمدى انتشار زنا المحارم داخل المجتمع الفرنسي، وخصوصاً في محيط النخبة الفكرية اليسارية المعروفة بـاسم «يسار الكافيار». إذ أن مؤلفة الكتاب «كامي كوشنير» هي ابنة المناضلة النسوية وعالمة السياسة المعروفة «إيفلين بيزييه» (Evelyne Pisier) والوزير الفرنسي السابق وأحد مؤسسي جمعية «أطباء بلا حدود»، «برنار كوشنير» (Bernard Koushner). وفي سرديتها، وبعد فترة من الصمت، تجرأت أخيراً «كامي كوشنير» على سرد ما تستر عليه خلال فترة طويلة أفراد «العائلة الكبيرة» التي تنتمي إليها، وهو الاغتصاب المتكرر لشقيقها التوأم «فيكتور»، وكان ذلك في سن الرابعة عشرة، على يد زوج أمهما، «أوليفييه دوهامل» (Olivier Duhamel)، وهو نائب اشتراكي أوروبي سابق ورئيس «المؤسسة الوطنية للعلوم السياسية» ذات الشهرة العريضة. وقد دفعت هذه الجريمة المدعي العام في باريس إلى فتح تحقيق أولي ضد هذا الأخير بتهمة «اغتصاب واعتداء جنسي على قاصر من شخص له سلطة»، وذلك على الرغم من مرور ثلاثين سنة على حدوثها.
Camille kouchner, La Familia grande, Éditions du Seuil, Paris, Janvier 2021.

وفور عرضه في دور النشر، أحدث الكتاب زلزالاً كبيراً، وبحيث تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الجمهورية الفرنسية. واقتداءً بمؤلفة الكتاب، وقبل أن يمر أسبوعان على صدوره، توجه مئات الأشخاص إلى وسائل التواصل الاجتماعي لسرد قصصهم عن «زنا المحارم» أو ما يطلق عليه البعض «سفاح القربى». وبعد نشر الكتاب، وتحت تأثير الضجة المجتمعية التي أثارها، استقال «أوليفييه دوهامل» من منصبه كرئيس للمؤسسة الوطنية للعلوم السياسية (Science Po)، إحدى أفضل المؤسسات التعليمية الفرنسية. وقال «دوهامل» في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، منشورة في الرابع من يناير 2021م: «كوني هدفاً للهجمات الشخصية وأرغب في الحفاظ على المؤسسات التي أعمل فيها، فقد أنهيت مهامي». ويعزو البعض الوقائع المشينة التي كشف عنها الكتاب إلى سلوك الأم، ايفيلين بيزييه، والتي اشتهر عنها كثرة شرب الخمر وإهمال أطفالها.
Evelyne Pisier «buvait beaucoup et ne s’intéressait pas aux enfants»: ce témoignage édifiant, Gala, le jeu. 14 janvier 2021.

وعقب الضجة التي أثارها الكتاب، وفي سلسلة من التغريدات منشورة على حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» يوم السبت الموافق الثالث والعشرين من يناير 2021م، تطرق الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» إلى قضية زنا المحارم، مشيداً بشجاعة الضحايا، ومؤكداً: سوف نلاحق المعتدين، وفرنسا ستشدد قوانينها بشأن سفاح القربى. وقال الرئيس الفرنسي ماكرون إن فرنسا بحاجة إلى تعديل قوانينها لحماية الأطفال بشكل أفضل من العنف الجنسي، طالباً من وزير العدل تشكيل لجنة لإجراء الاستشارات الرامية إلى تقديم مقترحات تشريعية بسرعة. وقال ماكرون إن فرنسا رفعت بالفعل قانون التقادم على سفاح القربى إلى 30 عاماً، بدءاً من بلوغ الضحية سن الرشد القانونية، وشددت الضوابط على الأشخاص الذين يعملون مع الأطفال، مستدركاً أن هناك الكثير مما يتعين القيام به. وقال إنه كجزء من الفحوصات الطبية الروتينية الحالية للأطفال، ستقدم فرنسا جلسات حول «سفاح القربى» في المدارس الابتدائية والثانوية، من أجل إعطاء الأطفال فرصة للحديث عن هذه القضية. وقال أيضاً إنه سيتم توفير مساعدة نفسية أفضل لضحايا سفاح القربى وسيتم تعويضهم من خلال الضمان الاجتماعي.
‘We will go after the aggressors’: Macron says France will tighten legislation on incest, The Hindu, JANUARY 24, 2021.

وإذا كان الرئيس الفرنسي قد رأى أن فرنسا بحاجة إلى تشديد تشريعاتها لمواجهة جرائم زنا المحارم، وحتى يتسن لنا تبيان الحقيقة في هذا الشأن، وصولاً إلى اختيار الحل المناسب لمجتمعاتنا، فإن الحاجة تقتضي أولاً بيان خطة التشريعات المقارنة في شأن هذه الجرائم، ممهدين لذلك ببيان مفهوم زنا المحارم والحالات التي يشملها هذا المفهوم، وكذا بيان مدى خطورة الظاهرة وصولاً إلى الوقوف على مدى ضرورة وإلحاح التدخل التشريعي لمواجهتها، وبيان الأسباب والعوامل التي تقف وراءها بما يكفل رؤية أوضح لها، توطئة لوضع معالجة شاملة لها، بحيث تشكل المواجهة الجنائية أحد أركانها دون أن تكون هي الشكل الوحيد لهذه المواجهة.

مدلول زنا المحارم والحالات المشمولة بهذا الاصطلاح

يرى البعض أن تسمية (زنا المحارم) تحتاج للمراجعة، لأن لفظ «الزنا» في الأصل الاصطلاحي له يدل على سلوك رضائي من الطرفين. ولكن هذا النوع من الجرائم من الأفضل أن نسميه (اعتداء المحارم) لأنه يكون غالباً ناتجاً من الإجبار، والإجبار له أشكال عدة. قد يكون الإجبار جسدياً، أو نفسياً (بالتهديد على سبيل المثال)، أو عاطفياً، والنوع الأخير قليل جداً، ومن بين قصصه: بعدما توفيت الأم، دخل الأب إلى ابنته من باب استجداء عطفها، حيث بكى وقال لها إنه يحتاج لمشاعر افتقدها بعد فقدان أمها، وطلب منها أن تحتضنه، ومرة تلو الأخرى تطور الأمر، حاولت الفتاة أن ترفض، لكنها لم تستطع، إلى أن دخلا في (زنا المحارم).

وتستخدم بعض التشريعات مصطلح «السفاح بين المحارم» أو «سفاح القربى» للدلالة على هذه الجرائم، ومثال ذلك هو قانون عقوبات دبي لسنة 1970م. وتستخدم بعض التشريعات تعبير «مواقعة المحارم»، كما هو الشأن في قانون جزاء الكويت رقم 16 لسنة 1960م.

وفي اللغة الفرنسية، المصطلح المستخدم للدلالة على الجريمة التي نحن بصددها هو (inceste)، والمراد به هو «العلاقة الجنسية بين شخصين تتوافر بينهما علاقة قرابة، بحيث لا يكون الزواج بينهما جائزاً».
L’inceste, c’est-à-dire le rapport sexuel entre deux personnes qui sont parents à un degré où le mariage est interdit.

ويمكن القول إن مصطلح «زنا المحارم» أو «سفاح القربي» يشمل صوراً مختلفة من العلاقات الجنسية، بعضها يكون برضا الطرفين، متى كان هذا الرضا صادراً عن إرادة معتبرة قانوناً. وتقترب هذه الصورة من النموذج القانوني العام لجريمة الزنا. ولذلك، ومع تركيز الضوء على هذه الصورة، وربما لأنها تشكل النموذج الأكثر شيوعاً لهذه الجريمة، يبدو مستساغاً إطلاق مصطلح «الزنا بين المحارم» عليها. ولكن، ثمة صور أخرى يتم تناولها تحت مصطلح «زنا المحارم»، دون أن يكون ذلك برضا الطرفين أو يكون أحد الطرفين لم يبلغ السن المحددة قانوناً للاعتداد برضا الشخص. ومن ثم، يمكن القول بأن الحديث عن جريمة زنا المحارم يتطرق في العادة إلى صور ثلاث: أولاها، العلاقة الجنسية الرضائية. وثانيتها، اغتصاب أحد المحارم ممن بلغوا السن المحدد قانوناً للاعتداد بالرضا. أما الصورة الثالثة، فهي الاعتداء على قاصر لم يبلغ السن المحدد قانوناً للاعتداد بالرضا، متي كان هذا القاصر من المحارم.

ومن ناحية أخرى، فإن مصطلح «زنا المحارم» مكون من لفظين، هما: لفظ «زنا» ولفظ «المحارم». ولفظ الزنا لا يثير أدنى لبس من حيث تحديد المراد به، إذ لا يختلف معناه في خصوص هذه الجريمة عن المعنى العام له. أما لفظ المحارم، فيشير إلى الحالات التي يكون فيها الزواج محرماً بين شخصين، أي المحرمات من النساء. والمحرمات من النساء قد يكن على سبيل التأبيد، مثل الأم والخالة والعمة وزوجة الأب، وقد يكن على سبيل التأقيت، مثل أخت الزوجة. ومن ثم، فإن التساؤل يثور عما إذا كان مدلول زنا المحارم يشمل كل حالات الاتصال الجنسي بالمحرمات من النساء، سواء كان التحريم مؤبداً أو مؤقتاً، أم يقتصر فقط على حالات التحريم المؤبد.

مدى خطورة الظاهرة وضرورة التدخل التشريعي لمواجهتها

زنا المحارم بين الماضي والحاضر
«زنا المحارم» قضية قديمة غير مستحدثة، حيث شهدت الخليقة منذ الأزل وقائع إقامة العلاقات الجنسية بين المحارم. وعلى حد قول أحد استشاريي الطب النفسي، فإن «زنا المحارم موجود عبر التاريخ، لكن الزيادة التي نلحظها في عياداتنا النفسية، تجعلنا نقول إن هناك زيادة ملحوظة عما سبق، وهي أحد تجليات الانهيار الثقافي الذي بتنا نعاني منه في مصر والمنطقة العربية».

وللتدليل على تزايد حجم الظاهرة، وبالنظر لعدم وجود إحصائيات رسمية في هذا الشأن، يبدو من المفيد القول إن بيانات «جوجل تريندز»، خلال الفترة بين عامي 2004 -2020م، تشير إلى أن عمليات البحث عن كلمات متعلقة ﺑــ «زنا المحارم» شهدت ارتفاعاً ملحوظاً، فيما لم تكن هناك عمليات بحث تذكر تقريباً قبل عام 2004م. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إحدى المنصات الإباحية الإلكترونية، التي تحتل الرقم 36 بين المواقع الأكثر زيارة في مصر، حالياً، وفق ترتيب شركة «إليكسا»، تكشف عن أن من بين التصنيفات الأكثر إقبالاً من زوارها في مصر، هو «زنا محارم» وكلمات ذات صلة، لذا فهو يضعها في صدارة الاقتراحات للزائرين للموقع من هذا البلد.

زنا المحارم بين الإنكار والإقرار
على الرغم من الأخبار المنشورة في وسائل الإعلام المكتوب والسمعي والمرئي عن جرائم زنا المحارم، والتي تقرع آذاننا من آن لآخر، ورغم تزايد وتيرة هذه الأخبار في الآونة الأخيرة، فإن هذه القضية مسكوت عنها في المجتمعات العربية. إذ يميل المجتمع إلى السكوت والامتناع عن إثارة وقائع زنا المحارم أو ملاحقتها جنائياً تحت مظلة الستر وحجب الفضائح. وأحياناً في المجتمعات التي يسمح بها بالتسويات العشائرية يُنصح دائماً المشتكي في زنا المحارم بالبعد عن القضاء واللجوء لتسويات بينهم.

وفي الإطار ذاته، وتعليقاً على التناول الخجول لزنا المحارم في فيلم «حظر تجوّل»، يقول بعض الكتاب: «ما زلنا نخشى من الحديث أو التفكير في شيء اسمه (زنا المحارم)، لقد تطرّق الفيلم على استحياء الى فكرة زنا المحارم، لكنه لم يناقشها بالشكل المفروض أن يتم تناولها به… لماذا؟ لأن صناع الفيلم قد يكون لديهم خوف رد فعل المجتمع». ومن ثم، يتساءل هؤلاء: «متى سنرى الدراما، والسينما تحديداً، تناقش هذا الموضوع؟ الإجابة هي: حين يقتنع المجتمع بأن الفن يعكس ما يحدث في داخله بالفعل، لا العكس. الناس تخاف دائماً من أن ترى الكوارث التي تسببها من خلال السينما، أو حتى من خلال نص مكتوب». ويضيف هؤلاء: «أعتقد أن المشتغلين في صناعة السينما، وخصوصاً المؤلفين، يجب أن يعملوا على هذا الموضوع جيداً حتى يقتنع الناس بأن هذه المشكلة موجودة بالفعل في المجتمع، وأن الناس هي التي لا تريد تصديق ذلك».

والواقع أن ثقافة الصمت والإنكار لا تقتصر فقط على المجتمعات العربية، وإنما توجد أيضاً في بعض المجتمعات الغربية، وإن كان ذلك بدرجة أقل مما يحدث في المجتمعات الشرقية. ويمكن تفهم إقدام الضحايا مؤخراً على الحديث عن الجرائم التي وقعت إضراراً بهم وانتهاكاً لحياتهم الجنسية، وذلك في إطار الرغبة في التحرر من عبء هذه المأساة التي قضت مضاجعهم سنين طويلة. ولعل هذا المعنى يبدو جلياً في كتاب «العائلة الكبيرة»، حيث حرصت «كامي كوشنير» على التأكيد على أنها بسرد ما حدث مع شقيقها ومعها، تتحدث أيضاً باسم جميع الأشخاص الذين اختبروا زنا المحارم واضطروا إلى ملازمة الصمت لأسباب مختلفة. وفي هذا المعنى، تقول «كامي كوشنير»، وذلك في شكل خطاب تصوري موجه إلى أمها: «انظري، يا أمي، أنا أكتب من أجل جميع الضحايا – وما أكثرهم! الذين لا نذكرهم أبداً لأننا لا نعرف كيف ننظر إليهم». ويرى البعض في هذا السلوك جانباً علاجياً من دون شك، يكون الضحايا في أشد الحاجة إليه في سبيل التعافي من الآثار النفسية المدمرة للجرائم المرتكبة عليهم.

وبالنظر لشيوع ثقافة الصمت والإنكار فيما يتعلق بجرائم زنا المحارم، لذا يبدو من الطبيعي تصور ارتفاع ظاهرة الرقم الأسود بالنسبة لهذه الجرائم. والمراد بمصطلح الرقم الأسود هو عدد الجرائم التي ترتكب فعلاً على أرض الواقع، دون أن تصل إلى علم السلطات العامة أو الجهات المعنية بملاحقة الجريمة. وفي هذا السياق، وعلى حد قول البعض، «لو عدنا الى الإحصائيات فسنكتشف أنها غير دقيقة، لأن الضحايا غالباً لا تتحدث، فالمجتمع ما زال ينظر إلى الضحية على أنها تحمل العار، وأنها المسؤولة عما حدث. غالبية الضحايا لا يتكلمون إذا كان المعتدي شخصاً غريباً، فما بالنا إذا كان أحد الأقرباء أو أفراد الأسرة الصغيرة. كما أن الأسر، غالباً، تجبر الضحايا على الصمت».

وكدليل آخر على حالة السكوت المجتمعي عن مناقشتها وإخراجها إلى العلن، وعلى حد علمنا، لا توجد إحصاءات رسمية تكشف عن حجم هذه الظاهرة. كذلك، لم نقف على أي أحكام صادرة عن محكمة النقض المصرية في شأن هذه الجريمة، الأمر الذي يشكل دليلاً آخر على تفضيل المجتمع نهج السكوت والصمت وعدم ملاحقة الجناة درءاً للفضيحة. وما قد يصل إلى علم السلطات العامة إنما يكون في الغالب بمناسبة ارتكاب جريمة أخرى، كأن يرتكب المجني عليه جريمة قتل إزاء الشخص الذي مارس معه أو أجبره على ارتكاب جريمة زنا المحارم. أو أن يقوم الابن بقتل القريب الذي شارك أمه جريمة زنا المحارم، الأمر الذي يندرج تحت ما يطلق عليه «جرائم الشرف». وهكذا، فإن الكشف عن جرائم زنا المحارم يحدث غالباً بشكل عارض غير مقصود، ويكون في الأغلب الأعم من الأحوال بمناسبة التحقيق في جريمة أخرى، وبما يشكل الباعث الدافع إلى ارتكاب هذه الجريمة.

ومن ثم، يعتقد البعض أن بداية القضاء على هذه الظاهرة هي الإفصاح عنها وفضح الجاني، وليس أبدا السكوت عليها، وكشف أي انحراف داخل الأسرة ومقاومته بكل الطرق وليس إخفاءه أبدا (إيمان الدربي، كارثة زنا المحارم، موقع صدى البلد الإخباري، القاهرة، مقالات، الجمعة الموافق 2 أكتوبر 2020م). وإذا كان البعض يفضل الستر والتغطية على الموضوع، فإن هؤلاء يتجاهلون ويتغافلون ويتناسون ويهملون الضحية، وما يجب فعله معها. فالجاني إذا كانت لديه مشكلة نفسية أو بيولوجية أو غيرها، يمكن أن نعالجها، ولكن المهم هو الضحية، لأنها لا تنسى ويستمر معها لسنوات، وخصوصاً إذا كانت طفلة وتجاوز عمرها 3 سنوات، فإن هذا الأمر يستمر معها لسنوات، ويؤثر في علاقتها بأسرتها ومن حولها.

ويمكن القول إن الفترة الأخيرة قد شهدت تصاعداً لافتاً في تعامل المجتمعات مع ظاهرة زنا المحارم، وبحيث لم تعد الضحية تخشى من الحديث عما حدث معها، وغدت المجتمعات أكثر إيجابية في الاستماع إلى هذه الأحاديث، وبدأنا نشهد دوراً متعاظماً لمنظمات المجتمع المدني في دعم الضحايا بدلاً من إلقاء اللوم عليهم كما كان الحال في السابق. فعلى سبيل المثال، وفي الجمهورية الفرنسية، وعلى إثر نشر كتاب «العائلة الكبيرة»، استجاب عشرات الآلاف من الأشخاص لحملة أُطلقت على منصات التواصل الاجتماعي بهدف تسليط الضوء على مشكلة الاعتداء الجنسي داخل الأسرة. وهذه الحملة تم إطلاقها بواسطة إحدى المنظمات النسائية، اسمها «جميعنا» (NousToutes)، وهي منظمة هادفة إلى محاربة العنف الجنسي في فرنسا. وقد بدأت هذه الحملة خلال عطلة نهاية الأسبوع الثاني من شهر يناير 2021م، وحملت وسم «أنا أيضا ضحية اعتداء جنسي في الأسرة»، على غرار وسم حركة «أنا أيضاً» المناهضة للتحرش ضد المرأة. وكانت الحملة على تويتر قد بدأت أواخر الأسبوع الثاني من شهر يناير 2021م، برسالة من ناشطة تدعى «ماري شينفانس»، البالغة من العمر 67 عاما، وهي عضوة في منظمة «جميعنا». وقالت ماري: «حان وقت كسر حاجز الصمت بشأن هذه القضية». وأضافت أن النشطاء واجهوا خلال السنوات الماضية «جدارا من الصمت» عندما شاركوا بقصصهم عن اعتداءات داخل الأسرة. وتقول المنظمة إن أكثر من ثمانين ألف شخص استجابوا للحملة خلال ثلاثة أيام فقط. وكانت «مي كوهياما» واحدة من أولئك الذين شاركوا قصتها، مع رسم كانت رسمته عندما كانت في الخامسة من عمرها. ويظهر الرسم طفلة بلا فم، وكلمة «ساعدوني». كانت تلك هي طريقتها في الحديث عن الاعتداء في ذلك الوقت، على حد قولها، لكن أحداً لم يستمع إلى الرسالة. وقالت: «عندما نشرت هذه التغريدة، كانت غريبة، لكنني كنت فخورة بتلك الفتاة الصغيرة التي رسمت هذه الصورة». وأضافت: «أعتقد أن الناس يمكنهم الآن فهم هذا النوع من الرسوم. قبل أربعين عاما، لم يكن ذلك ممكنا». ويقول النشطاء إن جانبا من تأثير الاتهامات الموجهة إلى السياسي الفرنسي دوهامل يكمن في أن رواية ابنة زوجته «كامي كوشنر»، في كتابها الذي يحمل عنوان «العائلة الكبيرة»، لا تتحدث عن السلوك المنسوب إليه بحد ذاته، بل تهدف إلى إلقاء الضوء بشكل أساسي على ثقافة السرية التي تقول إنها تحيط بالأسرة. ويرى البعض أن القضايا التي أثارتها ابنة زوجة دوهامل، إلى جانب إطلاق وسم جديد على منصات التواصل الاجتماعي، هيأت ما يمكن أن نطلق عليه «مساحة آمنة» لإدلاء الضحايا بشهاداتهم بصراحة. ويضيف هؤلاء أنه، تاريخياً، كان هناك «إفلات شبه كامل من العقاب في فرنسا» لكل من مارس الاعتداء الجنسي داخل الأسرة، إذ لا يُكشف في المحاكم إلا عن أقل من واحد في المئة من قضايا الاغتصاب بحق القصّر. وعلى حد قولهم، فإن «الأرقام الخاصة بالعنف ضد الأطفال سيئة في معظم دول أوروبا. لكن في فرنسا يوجد تيار يتسامح مع العنف الجنسي ضد الأطفال». ويتسم القانون بالتعقيد في هذه القضية، فممارسة الجنس مع القاصرين غير قانوني، بيد أنه من أجل إثبات اتهامات أكثر خطورة تتعلق بالاغتصاب أو الاعتداء الجنسي، بما في ذلك الاتهامات بممارسات ضد الأطفال، يلزم إثبات استخدام العنف أو التهديد أو المفاجأة أو الإكراه. وإذا ثبت أن الجاني أكبر سناً من الضحية، أو يتمتع بسلطة، فيمكن اعتبار ذلك نوعا من الإكراه، بيد أنه ليس تلقائيا. ولطالما طالب نشطاء بتحديد السن القانونية للموافقة على ممارسة الجنس، بيد أن المحاولات المتكررة لتغيير القانون باءت بالفشل حتى الآن. وأظهر استطلاع رأي في نهاية العام 2020م أن واحداً من كل عشرة أشخاص في فرنسا تعرض لاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة داخل الأسرة. وقالت الناشطة الفرنسية ماري شينفانس إنها كانت تعلم أن عدداً كبيراً من الأشخاص سيتضررون من الحملة الجديدة، لكنها فوجئت بتدفق الشهادات. وأضافت: «القصص حزينة من ناحية، لكنها تؤدي إلى شعور بالرضا من ناحية أخرى، إنه تحرر».

زنا المحارم بين الشعور بالاشمئزاز والشعور بالتعاطف (تطور رد الفعل المجتمعي)
على حد قول أحد الكتاب، «هذه كتب ومواضيع لا أقرأها، ولا أقرأ عنها، ولا تتحمل نفسي الاطلاع عليها. لكن في الأسابيع الأخيرة، كلما تصفحت جريدة عالمية من الصحف التي اعتدت قراءتها، منذ عقود، صدمني عنوان آخر حول موضوع واحد: المشاهير والاستغلال الجنسي، والسلوك الوحشي بين الأقارب والأنساب، وخصوصاً بين المؤتمنين، مثل أزواج الأمهات» (سمير عطا الله، بين الحرية والوحشية، جريدة الشرق الأوسط، الرياض، الجمعة 21 رجب 1442ه الموافق 5 مارس 2021م، العدد 15438).

ويمكن القول إن ثمة تغيير حدث في رد الفعل المجتمعي تجاه جرائم زنا المحارم، بحيث أصبحت المجتمعات أكثر إيجابية وتعاطفاً وتضامناً مع الضحية، بعد أن سادت ثقافة الاشمئزاز من الجريمة ومن الجاني والضحية، الأمر الذي انعكس في السابق على رغبة الأفراد ودرجة تقبلهم للاستماع إلى شكاوى الضحايا. فعلى سبيل المثال، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي نيويورك تحديداً، صدر كتاب عن المخرج والممثل والكاتب السينمائي والمسرحي وعازف الجاز الأمريكي الفائز بجائزة الأوسكار أربع مرات في مجالات ثلاثة مختلفة، «وودي آلن» (Woody Allen)، الذي اعتدى على ابنة زوجته، الممثلة «ميا فارو» (Mia Farrow)، والتي كانت وقت الاعتداء عليها في السابعة من العمر. وقد أثار هذا الكتاب رد فعل مجتمعي غاضب من الممثل المذكور، وذلك على الرغم من النفي المتكرر من جانبه لهذا الاتهام. إذ تراجعت شركة أمازون عن تضمين أحدث أفلام وودي آلن «يوم ماطر في نيويورك» في محتواها السينمائي، الأمر الذي دفع المخرج إلى مقاضاة شركة الإنترنت العملاقة لإنهائها عقده قبل إطلاق الفيلم. وانتهت تلك المعركة القضائية في العام 2019م. وبالإضافة إلى ذلك، تراجعت دار «هاشيت» للنشر عن إصدار مذكراته التي تحمل عنوان «عن لا شيء» (Apropos of Nothing)، إثر رد فعل عنيف عليها، الأمر الذي دفع «وودي آلن» إلى الاعتراض بسبب تعامل الشركة مع كتابه وكأنه على حد تعبيره «سم نووي». وكانت فارو قد ذكرت سابقاً أنها شعرت بالتجاهل عندما وجهت اتهاماتها ضد وودي آلن. وقالت لبرنامج «ذيس مورنينج» على شبكة «سي بي أس» التلفزيونية، «كل ما أستطيع فعله هو قول الحقيقة التي أملكها والتمني أن يصدقني أحدهم عوض الاكتفاء بالاستماع إليها».

أسباب الظاهرة (زنا المحارم في دراسات علم الإجرام)
يرجع علماء الإجرام وعلماء الاجتماع هذه الجريمة إلى انحرافات داخلية تتعلق بالفرد، ومنها ضعف أو غياب الوازع الديني والأخلاقي وتعاطي المخدرات وتأخر الزواج لدي الرجال، كما يمكن إرجاعها إلى عوامل خارجية، أهمها الأسرة الفقيرة التي تسكن في مسكن صغير فتلغي الخصوصية وتصبح العلاقات الأسرية على المشاع، فيتم ممارسة العلاقات الحميمة الخاصة أمام بعضهم فتضعف الضوابط والحياء إلى درجة الوصول للجنوح.

وبينما لا توجد إحصاءات رسمية تكشف عن حجم هذه الظاهرة، نظراً الى عوامل متباينة، تؤكد دراسات اجتماعية أن نسبة كبيرة من «زنا المحارم» تحدث في المناطق الأكثر فقراً، والتي يعاني سكانها من التكدس، حيث تقيم الأسرة في شقة مكونة من غرفة أو اثنتين.

ويرى البعض أن زيادة هذا النوع من العلاقات الجنسية غير المشروعة، يرجع إلى عامل أساسي للغاية، وهو انتشار تعاطي المخدرات، خصوصاً (الابتريل) مع (الترامادول)، تخيل أن (الترامادول) يسبّب تهييجا للقدرة الجنسية، و(الابتريل) يتسبب في تغييب القدرة العقلية، المتعاطي يتحوّل شخصا لديه قدرة جنسية عالية وعقل مغيب، لذا يتصرف كالحيوان تماماً، وهو ما يجعله يبحث عن أي أنثى، سواء كانت أمه، أم أخته، أم جدته، فهو لا يستطيع التفريق.

وفي بعض الأحيان يكون السبب مرضاً عقلياً، خصوصاً الفصام، ولكن معدلات حدوث ذلك تكون منخفضة للغاية، أو إصابة عضوية في المخ مثل ورم أو جلطة قد يتسبب في التحرش، وهذا أيضاً قليلاً جداً ما يحدث.

ويشير بعض الأطباء النفسيين إلى أن «الشباب المراهق، يقع في زنا المحارم أحياناً، بسبب الهواتف المحمولة، وتصفح المواقع الإباحية، والقصص الجنسية التي يرويها له أصدقاؤه، فتحرك غرائزه.

ويؤكد البعض أن جرائم زنا المحارم قد زادت نسبتها في ظل تفشي وباء كورونا، وما صاحبه من إجراءات التباعد الاجتماعي وإجراءات الحجر الصحي.

ومن ثم، يعتقد البعض أن علينا تنشئة أولادنا على الوازع الديني والأخلاقي، مع عدم التغاضي عن أي خلل نفسي يظهر على أي فرد داخل الأسرة، ومحاولة عرضه على المختصين. أما أهم الأمور على الإطلاق لمواجهة هذه الظاهرة، فيكمن في الحفاظ على الخصوصية في العلاقات ومحاولة الحفاظ على الحياء بين أفراد الأسر» (إيمان الدربي، كارثة زنا المحارم، موقع صدى البلد الإخباري، القاهرة، مقالات، الجمعة الموافق 2 أكتوبر 2020م).

ويرى البعض الآخر أنه «ليس لدينا الكثير من الخيارات في الوقت الراهن، وحتى تتضح أفكار واقتراحات جديدة، يعدّ رفع الوعي هو العامل الأكثر أهمية. من المهم أن نرفع الوعي في قضايا تحديد النسل، لأنه يؤدي لخفض التكدس الأسري، وبالتالي تقليل الاحتكاك». وبعبارة أكثر تفصيلاً، فإن «نشر الوعي بشأن احترام الخصوصية أمر مهم للغاية، فأغلب الأسر لدينا لا تحترم الخصوصيات. أي فرد فيها يستطيع أن يدخل غرفة الآخر في أي وقت، وهذا يمحو الحدود الجسدية، وهو ما يسمح بإقامة هذه العلاقات». إن «الوعي سيجعل أي ضحية تستطيع الرفض بقوة، ومعرفة حقوقها، وأن المعتدي يتعدى حدوده، وإذا تمادى فسوف تبلغ عنه، وأن تكون لديها الجرأة لترك المكان والإبلاغ من دون الخوف من الفضيحة لأن العار على المعتدي لا عليها».

خلو قانون العقوبات المصري من نص في شأن زنا المحارم

يخلو قانون العقوبات المصري رقم 158 لسنة 1937م من النص بوجه خاص على جريمة زنا المحارم، الأمر الذي يعني خضوع هذه الجريمة للنصوص العامة بشأن الزنا، وذلك إذا تمت هذه الجريمة بالرضا التام بين الطرفين، أو النصوص العامة بشأن الاعتداء الجنسي على قاصر ومواقعة أنثى بغير رضاها. وفي اعتقادنا أن خلو قانون العقوبات المصري من نص خاص بشأن زنا المحارم يجد تفسيره وتبريره في ضوء ثقافة الإنكار المجتمعي السائدة في المجتمعات الشرقية في مواجهة هذه الجريمة.

كذلك، يمكن إرجاع سكوت قانون العقوبات المصري عن النص على جريمة «زنا المحارم» إلى خلو قانون العقوبات الفرنسي بدوره من نصوص خاصة بشأن هذه الجريمة. وغني عن البيان أن القانون الفرنسي يشكل المصدر التاريخي لقانون العقوبات المصري. ففي النظام القانوني الفرنسي، لا يوجد نص خاص بمسمى (Inceste)، أي زنا المحارم. ومن ثم، وإزاء خلو قانون العقوبات الفرنسي من نص خاص بشأن هذه الجريمة، يمكن القول إنه إذا كانت العلاقة الجنسية برضا الطرفين، وتتعلق بشخصين تجاوزا سن النضج الجنسي المحدد بخمسة عشر عاماً، فإن الفعل لا يشكل جريمة ولا يقع تحت طائلة التجريم. خلافاً لذلك، إذا حدثت العلاقة الجنسية بالإكراه أو العنف أو التهديد أو المفاجأة، فإن الفعل يشكل في هذه الجريمة جريمة اغتصاب أو مواقعة أنثى بالإكراه (Viol). وقد تشكل العلاقة الأسرية ظرفاً مشدداً للعقوبة، حيث يشدد المشرع العقوبة إذا كان الجاني أصلاً أو أباً، طبيعياً أو بالتبني، أو متولياً للتربية أو ذا سلطة على المجني عليه. كذلك، يشدد المشرع العقوبة إذا كان الاغتصاب أو الفعل الجنسي واقعاً على قاصر لم يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً.

خطة التشريعات العربية في شأن زنا المحارم

بالتمعن في خطة التشريعات الجنائية العربية في هذا الشأن، يبدو سائغاً التمييز بين اتجاهين؛ أولهما، يخلو من نص خاص بشأن زنا المحارم. أما ثانيهما، فيحرص على تكريس نص أو نصوصاً خاصة لزنا المحارم. وهذه الطائفة الثانية من التشريعات قد تقصر مفهوم زنا المحارم على المحرمات على التأبيد فقط، وقد تمد نطاق ومدلول زنا المحارم إلى كافة المحرمات، سواء كان ذلك على سبيل التأبيد أم على سبيل التأقيت.

اتجاه التشريعات الخالية من نص خاص بشأن زنا المحارم
على غرار الوضع في قانون العقوبات المصري، تخلو بعض التشريعات الجنائية العربية من نص خاص بشأن جريمة زنا المحارم. ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، يخلو قانون العقوبات الاتحادي رقم (3) لسنة 1987م يخلو من أدنى إشارة خاصة إلى جريمة زنا المحارم، مكتفياً بالنصوص العامة في شأن مواقعة أنثى بغير رضاها واللواط مع ذكر. فوفقاً للمادة الأولى من قانون العقوبات الاتحادي رقم (3) لسنة 1987م، معدلة بموجب المرسوم بقانون اتحادي رقم (15) لسنة 2020م، «تسري في شأن جرائم القصاص والدية أحكام الشريعة الإسلامية، وتحدد الجرائم الأخرى والعقوبات المقررة لها وفق أحكام هذا القانون والقوانين العقابية المعمول بها». وتنص المادة (367) من قانون العقوبات الاتحادي على أنه «إذا كان الجاني في الجرائم المنصوص عليها في المواد (363)، (364)، (366) من أصول المجني عليه أو من محارمه أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن لهم سلطة عليه أو خادمًا عنده أو عند أحد ممن تقدم ذكرهم عد ذلك ظرفاً مشدداً».

ورغم خلو قانون العقوبات الاتحادي من أي إشارة إلى جريمة زنا المحارم، فإن المرسوم بقانون اتحادي رقم (10) لسنة 2019 في شأن الحماية من العنف الأسري ينص على العنف الجنسي، باعتباره أحد أنواع العنف الأسري. فوفقاً للمادة الثالثة من المرسوم بقانون اتحادي المشار إليه، «لأغراض تطبيق هذا المرسوم بقانون، يقصد بالعنف الأسري كل فعل أو قول أو إساءة أو إيذاء أو تهديد، يرتكبه أحد أفراد الأسرة ضد فرد آخر منها متجاوزاً ما له من ولاية أو وصاية أو إعالة أو سلطة أو مسؤولية، وينتج عنه أذى أو ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي». وتحت عنوان «أنواع العنف الأسري»، تنص المادة الخامسة من المرسوم بقانون اتحادي ذاته على أن «تعد الأفعال التالية وفقاً لأحكام هذا المرسوم بقانون عنفاً أسرياً، وذلك بمراعاة أحكام التشريعات النافذة في الدولة: …. 3- الإيذاء الجنسي: ويقصد به أي فعل يشكل اعتداء أو تحرشاً جنسياً للمعتدى عليه، أو باستغلاله بأي وسيلة». وفيما يتعلق بالعقوبة المقررة لأفعال العنف الأسري، تنص المادة التاسعة على أنه «مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في أي قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبالغرامة التي لا تزيد على (5.000) خمسة آلاف درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب أياً من أفعال العنف الأسري المنصوص عليه في المادة (5) من هذا المرسوم بقانون».

ومن ناحية أخرى، ورغم خلو قانون العقوبات الاتحادي من نص خاص بشأن زنا المحارم، تجدر الإشارة إلى المادة 174 من قانون العقوبات لسنة 1970م في إمارة دبي، وعنوانها هو «السفاح بين المحارم»، تنص على أن «1- كل ذكر يواقع أي أنثى عالماً أنها أو لديه ما يحمله على الاعتقاد بأنها ابنته أو حفيدته ومن نزلن في النسب أو أمه ومن علاها في النسب أو أخته أو ابنة أخته أو ابنة أخيه أو عمته أو خالته، يعاقب ما لم يشكل فعله جرماً أشد بمقتضى أحكام هذا القانون، بالحبس مدة لا تزيد على ست سنوات. 2- كل أنثى متزوجة وكل أنثى بلغت الثامنة عشر أو أكثر وسمحت لرجل أن يواقعها جنسياً وهي عالمة أو لديها ما يحملها على الاعتقاد بأنه ابنها أو حفيدها ومن نزل منه في النسب أو والدها ومن علاه في النسب أو أخوها أو ابن أخيها أو ابن أختها أو عمها أو خالها، تعاقب بنفس العقوبة المحددة في الفقرة السابقة».

وفي مملكة البحرين، وطبقاً للمادة (345) من قانون العقوبات رقم (15) لسنة 1976م، «يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشرين سنة من واقع أنثى أتمت الرابعة عشرة ولم تتم السادسة عشرة برضاها. ويعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على عشر سنوات من واقع أنثى أتمت السادسة عشرة ولم تتم الحادية والعشرين برضاها». وتنص المادة (348) من القانون ذاته على أن «يعتبر ظرفاً مشدداً في الجرائم المنصوص عليها في المواد السابقة من هذا الفصل: 1- إذا كان الجاني من أصول المجني عليه أو المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن لهم سلطة عليه أو خادما عنده أو عند أحد ممن تقدم ذكرهم».

في المملكة العربية السعودية، صدر تعميم وزارة العدل رقم 13/ت/5281 وتاريخ 12/ 4/ 1435هـ بشأن قرار الهيئة العامة للمحكمة العليا رقم (3/م) وتاريخ 25/ 11/ 1434هـ بشأن قضايا اغتصاب الأطفال. وقد صدر هذا التعميم بناء على كتاب رئيس المحكمة العليا رقم 250386/ 35 في 23/ 1/ 1435هـ بشأن النظر في قضايا اغتصاب الأطفال من بنين وبنات من قبل أشخاص بعضهم متزوج وبعضهم أقارب للمجني عليهم، والمتضمن التأكيد على أن المحكمة العليا بهيئتها العامة قامت بدراسة الموضوع وأصدرت بشأنه القرار رقم (3/ م) في 25/ 11/ 1434هـ. ويتضمن قرار المحكمة العليا المشار إليه بندين، هما: (أولاً) إن ما أشير إليه من قضايا اغتصاب الأطفال المذكورة ما كان منها ينطبق عليه ضابط الحرابة فهو مشمول بقرار هيئة كبار العلماء رقم (85) وتاريخ 11/ 11/ 1401هـ المعتمد بأمر ولي الأمر رقم (1894/ 8) وتاريخ 13/ 8/ 1402هـ والعمل عليه، وما لا ينطبق عليها ضابط الحرابة أو درئ فيها الحد من تلك القضايا وعقوبتها تعزيرية فليس من الممكن وضع مبدأ للقتل فيها تعزيرًا بحيث يكون شاملاً لها، وذلك نظرًا لكثرتها وتنوعها واختلاف خطورتها وملابساتها بين الجاني والمجني عليه مما يحتاج الأمر معه إلى تقدير حاكم القضية للعقوبة المناسبة لكل قضية حسب خطورتها وبشاعتها وحسب حال الجاني والمجني عليه ومدى الثبوت من عدمه، ولأن العمل الجاري في المحاكم هو الحكم بالقتل تعزيراً إذا توفرت أسبابه وموجباته مما يحصل معه المقصود. (ثانياً) ما يقع من الزنا بذات محرم فمنصوص على عقوبته شرعاً.

كذلك، وفي المملكة العربية السعودية أيضاً، ثمة تعميم سابق متصل بموضوع زنا المحارم، وهو تعميم وزارة العدل رقم 3/ 1365 وتاريخ 21/ 3/ 1383هـ بشأن ضرورة تطبيق العقوبات الشرعية على مرتكبي جرائم اللواط والزنا. وينص التعميم على أنه (نظراً لما تحدثه جرائم اللواط والزنا من مفاسد وما تجره من انحطاط ديني وخلقي، فإنه ينبغي تطبيق العقوبات الشرعية على مرتكبي هذه الأفعال الشنيعة وتعزير من تثبت في حقه التهمة تعزيراً بليغاً رادعاً وتقرير الجزاء على من يقدم على هذه الأفعال الشنيعة بأقصى العقوبات وأغلظها تمشياً مع ما تجيزه الشريعة في كل جريمة على حسب ما أحيط بها من ملابسات واتهامات… إلخ).

اتجاه التشريعات التي تتناول زنا المحارم بنصوص خاصة
في دولة الكويت، وطبقاً للمادة (189) من قانون الجزاء رقم (16) لسنة 1960م، معدلة بموجب الأمر الأميري بالقانون رقم (62) لسنة 1976م، «من واقع أنثى محرم منه، وهو عالم بذلك، بغير إكراه أو تهديد أو حيلة وكانت تبلغ الحادية والعشرين، يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز خمس عشر سنة. فإذا كان المجني عليها لم تتم الحادية والعشرين من عمرها وبلغت الخامسة عشرة، كانت العقوبة بالحبس المؤبد. ويحكم بالعقوبات السابقة على من كان ولياً أو وصياً أو قيماً أو حاضناً لأنثى أو كان موكلاً بتربيتها أو برعايتها أو بمراقبة أمورها، وواقعها بغير إكراه أو تهديد أو حيلة».

وفي دولة قطر، ووفقاً للمادة (282) من قانون العقوبات رقم (11) لسنة 2004م، «يُعاقب بالحبس مدة لا تجاوز خمس عشرة سنة، كل من واقعَ أنثى بغير إكراه، أو تهديد أو حيلة وكانت قد أتمت السادسة عشرة من عمرها، متى كانت محرمة عليه على سبيل التأقيت، أو التأبيد، مع علمه بذلك. وتعاقب، بذات العقوبة، الأنثى التي قبلت أن يواقعها محرم عليها، مع علمها بذلك. ويحكم بالحبس المؤبد أو الحبس الذي لا تجاوز مدته خمس عشرة سنة، إذا كان الجاني ممن نص عليهم في الفقرة الثانية من المادة (279) من هذا القانون».

وفي سلطنة عمان، تنص المادة (260) من قانون الجزاء الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (7/ 2018) على أنه «إذا وقعت الجريمة الواردة في المادتين (257 و259) من هذا القانون بين المحارم حرمة مؤبدة فتكون العقوبة الإعدام». وجدير بالذكر أن المادة (259) من القانون ذاته تنص على أن «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن (6) ستة أشهر، ولا تزيد على (3) ثلاث سنوات كل من واقع أنثى برضاها دون أن يكون بينهما عقد زواج، وتعاقب الأنثى بالعقوبة ذاتها. ولا تقل عقوبة كل منهما عن (2) سنتين إذا كان أحدهما متزوجا، ويفترض العلم بقيام الزوجية إلا إذا ثبت غير ذلك».

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى