دور القاضي الدستوري في تجديد الخطاب الديني.. الوكالات التجارية

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي

 

في الحادي عشر من أبريل سنة 2022م، صدر القانون المصري رقم 21 لسنة 2022 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 120 لسنة 1982م بإصدار قانون تنظيم أعمال الوكالة التجارية وبعض أعمال الوساطة التجارية والقانون المرافق. وطبقاً للمادة الأولى من قانون تنظيم أعمال الوكالة التجارية وبعض أعمال الوساطة التجارية، «الوكيل التجاري: كل شخص طبيعي أو اعتباري يقوم بصفة معتادة، دون أن يكون مرتبطاً بعقد عمل أو عقد تأجير خدمات، بتقديم العطاءات أو بإبرام عمليات الشراء أو البيع أو التأجير أو تقديم الخدمات باسم ولحساب المنتجين أو التجار أو الموزعين أو باسمه ولحساب أحد هؤلاء». وغالباً ما تكون هذه الوكالة حصرية، بحيث لا يجوز للمنتج أو التاجر أو الموزع تخويل شخص آخر حق بيع المنتجات الخاصة به، الأمر الذي قد يثير شبهة الاحتكار المنهي عنه شرعاً، ويمكن بالتالي أن يكون محلاً للطعن بعدم الدستورية. والواقع أن هذا الطعن قد أثير فعلاً في دولة الإمارات العربية المتحدة فيما يتعلق بقانون نظير للقانون المصري في شأن الوكالات التجارية.

 

ورداً على هذا الطعن، وفي الرابع عشر من أبريل سنة 1993م، حكمت المحكمة الاتحادية العليا بدولة الإمارات العربية المتحدة بدستورية أحكام القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981 المعدل بالقانون رقم 14 لسنة 1988 بشأن تنظيم الوكالات التجارية، رافضة بالتالي الدفع بعدم موافقته أحكام الشريعة الإسلامية، وذلك فيما تضمنه من النهي عن الاحتكار.

 

وقائع الحكم

تتحصل الوقائع في أن إحدى الشركات التي تمارس نشاطها في مجال التجارة والمقاولات أقامت الدعوى رقم 797 لسنة 1990 حقوق دبي على إحدى شركات تجارة الحاسب الآلي أو الكمبيوتر وآخر، طالبة الحكم بإلزامهما بأداء ما تستحقه من تعويض قبلها عما ألحقاه بها من خسارة وما فاتها من ربح نتيجة إدخالهما البلاد بقصد الاتجار أجهزة كمبيوتر موضوع وكالة مسجلة باسمها على خلاف أحكام قانون الوكالات التجارية.

 

ورداً على هذا الدفع، دفعت الشركة المدعي عليها بعدم دستورية القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981 بشأن تنظيم الوكالات التجارية، وتعديلاته، لعدم موافقته أحكام الشريعة الإسلامية، فقررت محكمة دبي وقف السير في الدعوى وحددت للشركة المذكورة أجلاً لرفع طعناً إلى المحكمة الاتحادية العليا، فكانت هذه الدعوى.

 

بيان القانون المطعون بعدم دستوريته

في الحادي عشر من شهر شوال 1401ه الموافق الحادي عشر من أغسطس 1981م، صدر القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981 بشأن تنظيم الوكالات التجارية، ونشر بالجريدة الرسمية في الرابع والعشرين من أغسطس 1981م، وبدأ العمل به بعد ستة أشهر من تاريخ نشره (راجع: الجريدة الرسمية لدولة الإمارات العربية المتحدة، العدد الرابع والتسعون، 24 أغسطس 1981م). وقد خضع هذا القانون للتعديل أكثر مرة، وذلك بموجب القانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1984م، والقانون الاتحادي رقم 13 لسنة 2006م، والقانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2010م، والقانون الاتحادي رقم 11 لسنة 2020م.

 

ومن مطالعة أحكام القانون، يبدو أن طعن الدستورية ينصب بوجه أساسي على المادة الخامسة من القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981م، معدلة بموجب القانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1984م، بنصها على أن «للموكل الأصلي أن يستعين بخدمات وكيل واحد في الدولة كمنطقة واحدة كما يجوز له أن يستعين بوكيل واحد في كل إمارة، أو في عدد من الإمارات، على أن يكون توزيع السلع والخدمات محل الوكالة مقصوراً عليه داخل منطقة الوكالة. وللوكيل أن يستعين بخدمات موزع في إمارة أو عدد من الإمارات التي تشملها وكالته».

 

أوجه النعي على القانون

تنعى الشركة المدعى عليها على القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981 المعدل بالقانون رقم 14 لسنة 1984 بشأن تنظيم الوكالات التجارية مخالفته أحكام الشريعة الإسلامية. وبياناً لذلك، تقول الشركة إن القانون المطعون بعدم دستوريته أباح الاحتكار المنهي عنه شرعاً وغلب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة بقصره توزيع السلع والخدمات داخل منطقة الوكالة، على الوكيل التجاري دون غيره، ومنعه إنهاء عقد الوكالة أو رفض تجديده، كما منع غير الوكيل من إدخال بضاعة أو منتجات أو مصنوعات أو مواد موضوع أي وكالة، وقطع الغيار والأدوات والمواد والملحقات والتوابع اللازمة لصيانة السلع، وهو نوع من الاحتكار الذي يساعد التاجر المحتكر على استغلال الناس ورفع السعر على المشتري.

 

الحكم بأن تنظيم الوكالات التجارية لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية

رداً على الدفع بعدم دستورية القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981 المعدل بالقانون رقم 14 لسنة 1984 بشأن تنظيم الوكالات التجارية، قالت المحكمة الاتحادية العليا: «حيث إن المادة السابعة من الدستور نصت صراحة على أن الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع.

 

وحيث إنه لا مراء في أن الإسلام يجب إلى التجار إرخاص الأسعار للتيسير على الناس، لما في ذلك من مراضاة الله والفوز بثوابه وتخفيف العبء على الناس ونشر ألوية السعادة فوق الجميع ونهى عن التغالي في الربح وعن الفحش في الكسب لأن عدالة الربح مع كثرة البيع تؤديان إلى وفرة الكسب مع التيسير على المسلمين بل وسائر الشارين والمشترين وحارب الاحتكار لما فيه من إهدار لحرية التجارة والصناعة والعمارة بل والزراعة وتحكم في الأسواق إذ يستطيع معه المحتكر أن يفرض ما شاء من أسعار على الناس يرهقهم بها، ويضرهم في معاشهم وكسبهم، ولضرر الاحتكار بالأمة نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهر بشاعة جريمته، فقال عليه الصلاة والسلام «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون».

 

وحيث إن المستقر في الفقه الإسلامي أن الاحتكار المحظور في الشريعة الإسلامية هو حبس شيء تشتد حاجة الناس إليه. ويستعملونه في حياتهم، ويتضررون من حبسه عنهم، يستوي في ذلك أن يكون الحبس نتيجة شراء أو اختزان، وأن يكون الشيء طعاماً أو غير طعام، ويشمل ذلك ما اشتراه في وقت الغلاء أو في وقت الرخص ليرفع سعره ويغليه على الناس عند الضيق والاحتياج.

 

وحيث إنه مع تطور التجارة وتشعب عملياتها ظهرت أهمية الوكالة التجارية، وكثيراً ما يلجأ التجار إلى وكلاء بالعمولة يحصلون لهم على البضائع أو المواد الأولية التي تستخدم في الصناعة خاصة في عمليات التصدير والاستيراد، إذ يكون هؤلاء الوكلاء متخصصين في دراسة الأسواق وتقلبات الأسعار فيها، كما أن الثقة في الوكيل بالعمولة قد تكون أكثر من الثقة من الموكل نفسه، ومن ثم يكون ائتمانه أقوى من ائتمان موكله، وبذلك يسهم الوكلاء التجاريون في تصريف السلع والبضائع ويؤدون دوراً هاماً في تداولها، ومن أجل ذلك أصدر المشرع القانون الاتحادي رقم 18 لسنة 1981 المعدل بالقانون الاتحادي رقم 14 لسنة 1988 بشأن تنظيم مزاولة أعمال الوكالة التجارية.

 

وحيث إنه يبين من استقراء ودراسة نصوص القانون المذكور وتمعن أحكامه أنه لا يؤدي بحال من الأحوال إلى حبس عروض التجارة موضوع الوكالات التجارية أو رفع أسعارها إذ جاءت هذه النصوص منظمة فقط للعلاقة الناشئة عن عقد الوكالة التجارية بين الوكيل التجاري وبين المنتج أو الصانع في الداخل أو الخارج أو المصدر أو الموزع الحصري المعتمد من المنتج، وقد اعتبر المشرع هذا العقد حاصلاً لمصلحة الطرفين المشتركة ولم يحظر إنهاءه أو عدم تجديده كما قالت الطاعنة وإنما أجاز في المادة الثامنة من القانون للموكل إنهاء عقد الوكالة وعدم تجديده إذا كانت هناك أسباباً تبرر ذلك وإذا كان قد حظر إدخال بضاعة أو منتجات أو مصنوعات أو مواد أو غيرها من أموال موضوع وكالة تجارية مسجلة بالدولة بقصد الاتجار عن غير طريق الوكيل، فإنه رخص في ذات الوقت للموكل الأصلي أن يستعين بخدمات وكيل واحد في الدولة كمنظمة واحدة أو في كل إمارة أو في عدد من الإمارات وأوجب على الوكلاء التجاريين توفير قطع الغيار والأدوات والمواد والملحقات والتوابع اللازمة والكافية لصيانة ما يستوردونه من السلع المعمرة، مما يساعد على توفير البضائع وقروض التجارة ويجعلها في متناول الجميع بمناطق متعددة ومتقاربة الأمر الذي يحول دون ارتفاع أسعارها، ولا يغير من ذلك ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من المادة الخامسة من هذا القانون من قصر توزيع السلع والخدمات محل الوكالة على الوكيل التجاري داخل منطقته، لأن هدف الوكيل دائماً هو تصريف هذه السلع والعمل على تداولها حتى يحصل على عمولته وهو ما يدفعه إلى تخفيض سعرها إلى أقصى ما يمكن والرضاء بالربح القليل حتى يتمكن من الوصول إلى هدفه والوقوف على قدم المساواة مع الشركات الأخرى التي تنتج سلعاً تؤدي ذات الغرض وتعرضها في مجال المنافسة بأسعار غير مرتفعة، إضافة إلى أن فشله في التوزيع أو محاولته حبس السلع لرفع سعرها قد يقوم سبباً يتخذه الموكل مبرراً لإنهاء عقد الوكالة أو عدم تجديده ومن ثم فإن أحكام هذا القانون لا تشجع على الاحتكار المنهي عنه شرعاً ولا تؤدي إليه وليس فيها ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية وبالتالي مع أحكام الدستور، وتكون دعوى الطاعنة على غير أساس متعيناً رفضها (حكم المحكمة الاتحادية العليا، 14 من أبريل سنة 1993م، الدعوى رقم 1 لسنة 20 دستورية).

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى