المفهوم التجاري للجنسية

بقلم:دكتور/ مصطفى حمدي محمود جمعه

لم يعرف العالم القديم معني الدولة بمفهومها وأسسها الحالية، فالدولة هو تنظيم اجتماعي بدأ التشكل والنمو منذ عام 1648م مع بداية ظهور الدولة المدنية ذات السيادة، فهو مصطلح اجتماعي سياسي لا نستطيع أن نقول إنه حديث العهد؛ لأنه ظهر حديثاً في ظل العولمة وذوبان الحدود الإقليمية بسبب ما أحدثته التجارة والاقتصاد الرقمي، والمجتمع المدني، والدولة العالمية.

كما أن هناك تصنيفات حديثة للمجتمعات كالمجتمع الرقمي، والمجتمع غير الرقمي. بل يمكن القول بأن هناك تنظيمات اجتماعية تناظر الدولة كالمنظمات الدولية، والشركات العالمية والمتعددة الجنسيات وغير ذلك، وإن لم يكن لها إقليم للسيادة لننتظر ما يفرضه تطور المجتمعات مع تطور وسائل الاتصال والتواصل والتجارة الرقمية؛ فهل ستبقي القوة هي المتحكمة في عنصر السيادة؟ أم سنتنقل إلي المال أم العلم والتكنولوجيا؟ لندخل في مضمار جديد نحو حدود لا نعرف صورها الآن.

نحن نعلم أن الدولة بمفهومها السابق الذي تعتمد في سيادتها علي القوة العسكرية بدأ يتلاشى لتظهر لنا القوة الناعمة التي تقوم علي سياسة البرمجة اللغوية، والعاطفة الرقمية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي علي الإنترنت لزيادة تماسك المجتمع، وإنماء ولائه تحت مفهوم الجنسية، الرابطة التي تربط عنصر الشعب بعنصر السيادة المتمثل في الحكومة والحاكم بعدما بدأت عولمة الإنترنت في ذوبان الحدود الإقليمية وإنشاء روابط اجتماعية بمجتمعات أخري.

إن أفضل تشبيه لعلاقة الدولة بالجنسية بعلاقة حب الرومان بالقشرة التي تمثل الإطار الذي يحكم الحب من الانفراط، وهذا التشبيه يعمق لنا المبرر من فكرة الجنسية، وهو خلق عمق عاطفي كرابط بين الفرد والدولة التي ينتمي إليها بحكم الواقع جبرياً بالميلاد أو الوراثة أو بإرادته باكتسابها بالمال عن طرق الشراء أو بالإقامة لمدة من الزمن أو بالزواج أو غير ذلك.

نظرة اقتصادية نحو تطور نشأة الدولة

لقد خلق الإنسان مفطوراً علي حب ذاته والسعي وراء حاجاته، وبالتالي استخدام كل ما حوله في سبيل ذلك وكان من الطبيعي أن يجد الإنسان مضطراً إلي استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً؛ لأنه لا يتمكن من إشباع حاجاته إلا عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين، فنشأت العلاقات الاجتماعية علي أساس تلك الحاجات ونموها خلال التجربة الحياتية الطويلة.

حيث أن المشكلة الاقتصادية هي الأساس الذي دفع الإنسان إلي تكوين علاقات اجتماعية كمحاولات دؤوبة نحو تقليص مشكلة الندرة النسبية ألا وهي عدم قدرة وسائل الإشباع لديه في إشباع حاجاته المتجددة والمتطورة.

فكلما كون الإنسان علاقات اجتماعية لتبادل المنافع لسد حاجاته ظهرت حاجات جديدة. لقد كان أول علاقات عمل اجتماعية للإنسان كانت من أجل الصيد ثم الزراعة التي كانت السبب في تكوين المجتمعات الزراعية.

أي أن نشاط الإنسان الاقتصادي هو من أوجد الحاجة إلي العلاقات الاجتماعية؛ ثم باتت الحاجة إلي مبادلة السلع والخدمات فظهر نظام المقايضة وتطور المجتمع الزراعي وأخرج لنا المجتمع التجاري، ولن ننسي أن خلال تكوين هذه المجتمعات كان من خلال الوحدات العائلية من العائلة ثم العشيرة أو القبيلة. فالأسرة هي أول تنظيم اجتماعي تكون من خلال ذرية أدم عليه السلام.

لقد بدأت المجتمعات البدائية في الاتساع وبدأ الاختلاط بين الأنساب وذابت البصمة العائلية وسيطرتها؛ لتظهر القوة في راعي وراعية، وحاكم ومحكوم، وتشكلت الدولة بمفهوم قوة تفرض حاكم علي محكومين لغاية تأمين وحماية ثرواتهم الاقتصادية من غزو الآخرين، وكلما زادت المعرفة والعلم لدي الإنسان كلما زاد نشاطه وتوسعاته فكانت كلما زادت قوة الإنتاج في الدولة توجه الحاكم إلي التوسع بالفتوحات وإخضاع الجوار للاستيلاء علي الفورات الاقتصادية فكانت الدول تتسع إلي إمبراطوريات، وتنكمش إلي بلدة عليها حاكم أو والي تحت وصاية وأمر الإمبراطور.

فالدافع من الغزو والحروب هو نهب ثروات واقتصاد الآخرين لإشباع حاجات الإنسان، فكان على هذا الأثر تتكون مفاهيم علم الاجتماع من لغة حرب ولغة سلام من أجل التعايش والحياة والمحافظة علي المقدرات الاقتصادية المكتسبة.

لما يكن للدولة في هذه العصور حدود إقليمية أو عنصر شعب محدد أو وثيقة تدخل بها تحت إمارة هذه الدولة ومن ثم سنطلق عليها شبة دولة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الرابطة التي جعلت الراعية ترتبط بالدولة؟، والحقيقة أن القوة العسكرية ونظام الإنتاج والحكم هو من جعل الفرد يرتبط بالدولة ونظامها من أجل تأمين وحماية مصالحه ونشاطه الاقتصادي.

أي أن نظام التعايش بتبادل المنفعة كان أساس قيام الدولة ونزعاتها الإنسانية. ولن ننسي أن ظروف الطبيعة هي من فرضت نفسها علي الإنسان لكي يطور نشاطه وسلوكه. فكلما قست الطبيعة عليه كلما حاول أن يتعلم الخلاص وكأنما ظروف الحياة وإجحافها للإنسان هي التي كانت تعلمه كيفية تعديل نشاطه الاقتصادي من خلال المحاولة والخطأ، وكأنما يسوق الله الإنسان لكي يتعلم فيقول (علم الإنسان ما لم يعلم).

والحقيقة لم تكن الدولة هو الشكل الوحيد فقد كان بجوارها المملكة، وكان هناك روابط معنوية لربط المجتمع بالملك أو الفرعون، وهي رابطة الألوهية حيث خضوع الشعب معنوياً للحاكم؛ لكونه إله يجب أن يعبد ويطاع كحال الدولة الفرعونية، وفي وجه لاحق تصدرت نظرية النشأة المقدسة للدولة التي تبنت فكرة أن الملك هو إرادة الله علي الأرض ويجب أن يطاع كحال المملكة البريطانية، والايرلندية، والاسكتلندية التي تم توحيد حكمها تحت اسم اتحاد التاج، لقد كانت الدولة الدينية تقوم علي رابطة الدين لانتماء الشعب وخضوعه للحاكم. ونري أن أسس  الدولة الدينية القديمة هي التي ساعدت علي بقاء الدول الصليبية تحت رعاية الكنيسة لفترة طويلة من الزمن، ثم الخلافة في الدولة الإسلامية تحت مسميات السلطنة، والولاية، والإمارة بالرغم من أن بذور مفهوم الديمقراطية في الدولة سبق أن وضعها الرومان؛ مما يتمخض عنه أن العاطفة الدينية هي التي شكلت الدولة؛ لأن الإنسان بطبعه يحتاج إلي رب يدعمه.

إن جميع الصور التي اتخذتها الدولة في صورها وأشكالها القديمة كانت الغاية هي إشباع حاجات الإنسان وحماية مقدراته الاقتصادية ومعتقداته الدينية التي يباشر من خلالها نشاطه الاقتصادي، ونري أننا في عالم الماديات حيث تشكل المادة جوهر فكرة التكوينات الاجتماعية وتطور شكل الدولة ونظام الحكم، وهي السبب في النزاعات العسكرية من أجل الاستحواذ علي ثروات الطبيعية الاقتصادية تارة تحت ستار الدين كالحروب الصليبية علي الدولة الإسلامية وتارة من أجل أمن الدولة وحماية مصالحها، وفي كل الأحوال نجد أن النزعة الإنسانية نحو الهيمنة تتضافر مع الأنا نحو تحقيق الرغبات الشخصية من خلال استغلال الجماعة والمجتمع لسد وإشباع الحاجات التي ما انفكت محاولات إشباعها للاستقرار والغني لكثرتها وتنوعها المستمر.

فهي السبب الأساسي في الحروب الاستعمارية لفرض النفوذ والسيطرة علي المادة، وفي وقتنا الحالي علي المعلومة التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي، ولكن الحرب هنا حرب رقمية.

نخلص من ذلك أن العالم نشأ وتكونت المجتمعات فيه بلا جنسية. فعدم الجنسية هو الأصل. إذ أن الجنسية ظاهرة سياسية حديثة النشأة وليدة الموجة الاستعمارية للغرب لمأرب اقتصادية وضعها من أجل التمييز واستغلال الشعوب الجاهلة كإتجار بالبشر مقنع.

فنجد جواز أمريكي له سيادة الدخول كافة الدول، وجواز مصري لا يكفل لصاحبه ما يسد حقوقه كإنسان، فصار التصنيف الإنساني طابعاً يدرس في تقسيم الدول إلي دول العالم المتقدم ودول العالم الثالث، ودول أولي بالرعاية، فالجنسية كمعيار حديث ليس له أساس، ولم تكن هي المعيار الوحيد الذي صنف الإنسان فالتاريخ يرصد تصنيفات منها سيد وعبد، و ملك ومملوك.

وبتمعن النظر نجد أن كلها تدور نحو الاستئثار في التحكم والتملك لعناصر الإنتاج بالسيطرة علي جهد العمل كعنصر أولي في الإنتاج لكافة العناصر الأخرى والذي يملكه الإنسان القادر عليه.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى