المصطلح القانوني اللغوي في الدساتير والتشريعات العربية

[ فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 15) ]

الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]

 

يعبر هذا المقال وتاليه عن موضوع جوهري هو: “الاصطلاح القانوني اللغوي” إذ لا يخفى ما “للغة القانونية” ومصطلحاتها ومدلولاتها من أهمية وفعالية قِبل المشرعين والقضاة والمحامين… وقبل سلطات الدولة الثلاثة وقبل مؤسساتها القانونية والرسمية.. فهو أحد أهم مواضيع “اللغة القانونية” في النهوض بالواقع القانوني ودعمه وتعزيز سلطة القانون وتحقيق غاية المشرع ومقاصده.

وقد أسلفنا بالتفصيل أن اللغة القانونية في أدنى درجاتها وفي ذروة سقوطها إذ لا علم لها ولا منهجا معتمدا فيها، وليس من جهة رسمية ولا خاصة تقوم عليها، بل غاية ما في الأمر عناوين براقة في مواضيع محدودة جدا مثل الصياغة وكتابة العقود قليل منها جدا الذي يستند إلى معطيات واقعية تطبيقه، وجلها يحتاج إلى الاستيثاق العلمي من مادتها العلمية للوقوف على صحتها وعلى سلامة مرتكزاتها.

ثم هذا القليل كله من الموضوعات اللغوية المطروحة لا تحكمه نظرية عامة ولا علم راسخ للخلوص عنه بأدوات عملية تطبيقية سديدة … !!

فانظر في كل ما يطرح بشأن اللغة القانونية ستجده قليلا أولا …!!

ثم هذا القليل منه المترجم الذي يعالج لغة غير اللغة العربية ذات الخصائص والاختصاصات التي تعرف بها دون غيرها..!!!

ثم أقل القليل يتحدث عن ظواهر لغوية محدودة … !!

فمتى تنعقد للغة العربية القانونية نظرية عامة تسمح أن يبنى عليها ؟؟

وأن ينظر لها في مشهد كلي يربط بين نتائجها ومبادئها ..؟!!

وأن تُجمع تلك المبادئ العامة ومتعلقاتها في إطار واحد… وأن تصنف هذه المبادئ أيضا بحسبانها معيارية حاكمة وواقعية ضابطة..! كما هو الشأن في نظريات العلوم الاجتماعية ؟؟! هذا هو ما تأتي الدراسة للإجابة عنه ولتحقيقه بإذن الله تعالى.

وبالرجوع إلى نقطة العناية التشريعية العربية باللغة القانونية، وهي بناء على مراجعة الدساتير والقوانين العربية عناية محدودة جدا وليست مباشرة تمام المباشرة ..!!

إذ كان يتوجب أن تنص على “اللغة القانونية”..! أو على “اللغة العربية القانونية” ..! ، أو على اللغة العربية المناسبة للقانون ووظائفه وعلومه..!!

وبأنها اللغة التي ينبغي أن تقوم بها وعليها السلطات والمؤسسات والكيانات القانونية فضلا عن مؤسسات الدولة الرسمية ..!!

ثم كان يجب النص على وجوب احترام هذه اللغة وعلى تقديرها وإلزام القانونيين بها … !!

ثم تأتي المذكرات الشارحة والقرارات التنفيذية لتبني على تلك النصوص وتفصل موجباتها وطرائق تنفيذها …!!

عمو جاء النص على اللغة العربية في دساتير الدولة العربية باسم “اللغة العربية” وبأنها لغة الدولة الرسمية، وجاء قانون السلطة القضائية بالنص عليها لغة رسمية في المحاكم، فيما أسست عليه محكمة النقض وجوب التعامل بها فقالت:”مما يوجب على الجماعة بأسرها حكومة وشعبا بحسب الأصل الالتزام بها دون أيه لغة أخرى كوسيلة للخطاب والتعبير في جميع المعاملات وشتى المجالات على اختلافها” [[محكمة النقض، الطعن 2333 لسنة 59 ق جلسة 16 / 1 / 1994 مكتب فني 45 ج 1 ق 34 ص 158]ٍ

ويمكن اعتبار هذا القليل مما يكفي ويفي في هذه المرحلة – على الأقل – واعتباره الأساس الدستوري والقانوني للغة العربية في المجال القانوني أو اللغة العربية القانونية ، وهذا تناول لطبيعة هذه العناية وأوجهها وآثارها، مع مقدمة تأسيسية في أهم المصطلحات المعبرة عن اللغة القانونية.. وذلك في الفروع الآتية :

الفرع الأول : المصطلح القانوني المتعلق باللغة العربية في التشريع العربي (الدستوري والتشريع العادي)

نرى جدارة التنبيه -في هذا السياق- على أهم المصطلحات المتعلقة باللغة العربية والقانونية مع نبذة عن تعريفاتها الإجرائية ، على أن نأتي بتفاصيل ما يلزمه التفصيل منها لاحقا

لدينا على سبيل الإجمال عدة مصطلحات رئيسة تتعلق باللغة العربية واللغة القانونية ذكرناها مفصلة في الفصل الثالث من الدراسة وهذا ذكر جامع لها: ونقسمها في طائفتين:

 

الطائفة الأولى من المصطلحات : الأساسية

المصطلح الأول : اللغة العربية (المصطلح الأصلي الذي استخدمه المشرع)

مصطلح ” اللغة العربية “، هو المصطلح الاصلي الذي استخدمه المشرعان الدستوري والقانوني وكونه أصليا أنه المجمع عليه في التراث وفي الحضارة الإسلامية ليعبر عن لغة العرب في الجاهلية ولغة القرآن والسنة ولغة الحكم والإدارة والقضاء في الدولة الإسلامية، ثم إنه المصطلح الذي عبرت به الدساتير العربية عن اللغة العربية وعن لغة قوانينها ونظامها القانوني .

وبنظرة واقعية نقدية يمكننا التساؤل:

1-هل كل ما جاء في اللغة العربية من ألفاظ وتراكيب ومصوغات الجمل ومنظوم العبارات مع الأساليب وطرائق الإيراد والبيان يصلح لتشكيل بنيان القاعدة القانونية ونصوصها ولإقامة بنيان لغاته الرسمية وتلك البيانية أو للقيام بوظائف القانون وتحقيق أهدافه جميعا؟

2-هل الأضداد والغريب والحوشي من الألفاظ يصلح لبنيان قواعد القانون ولغاته ولتحقيق الخطاب القانوني اللفظي والمكتوب على حسب مراد المشرع ؟

3-هل المجازات والكنايات والاستعارات على تعددها وتنوعها والتشبيهات التمثيلية والتورية وغيرها من الطرائق البيانية تصلح لبناء قواعد القانون ولغاته ومكتوباته الرسمية ؟

4-هل الأجناس الأدبية الشعرية من قصائد ومطولات وملاحم أو منظومات وأرجوزات تناسب الإيراد القانوني والنهوض بالخطاب القانوني وبغايات القانون وبمبدئه وعلى راسها مبدأ “شرعية الجرائم العقوبات” على وجه الخصوص ؟!

5- هل أجناس النثر من مقامات وقصص وروايات وحكم وأمثال ومصكوكات لفظية وغيرها تقوم على تكوين بنيان القواعد القانونية ولغات القانون وعلى تفسيرها واستكناه المعاني التي أرادها المشرع منها؟

بالطبع ستكون الإجابة حتمية وهي لا، ليست كل مكنات اللغة وطرائقها في التعبير والإيراد والبيان صالحة لصياغة القاعدة القانونية ونظمها ولا لصياغة لغات القانون الرسمية وتلك البيانية.

بل لابد من اختيار وانتقاء ما يتناسب مع الغايات القانونية العامة والخاصة ومع وظائف القانون وأدواره وبما تلاءم مع طرائق بناء القاعدة القانونية ونصوصها ومع كيفيات تكوين لغات القانون الرسمية والبيانية وأغراضها.

وهذا الاختيار وذلك الانتقاء هو ما نسميه يكون اللغة المتخصصة المقصودة وهي “اللغة القانونية” ،

فهي خلاصة هذه الُمكنات وتلك الأساليب والطرائق مع قواعد أخرى أصولية ومنطقية وقانونية ووظيفية تأثيرية وهذا اللفيف الخماسي هو ما يشكل أصول اللغة القانونية ومصادرها وما يشكل لها ذاتيها وخصوصيتها

وقد سبق الأصوليون إلى ذلك فخصصوا من مكونات اللغة العربية ومن قواعدها وعلومها وفقهها وسننها وطرائقها أبواب ومباحث معينة مجمع عليها بين اللغويين ليستخلصوا منها منظومة من المبادئ والقواعد الدلالية التي تساعدهم في فهم النصوص الشرعية وفي تفسيرها وفي استنباط الأحكام منها وفق مقاصد الشارع ومراداته منها … وهو الأمر نفسه مع اللغة القانونية تلك اللغة المتخصصة التي تنتقي من اللغة العربية التراثية ما يناسبها ويلزمها لتحقيق غايات القانون على نحو ما أراده المشرع الوضعي، فهي تنهل منها ما يناسبها وهي تأخذ كذلك من اللغة الأصولية جل قواعدها وطرائقها- وإن بطرائق أخرى- بما يتناسب مع نصوصها الوضعية وواقعها ومرادات مشرعها الوضعي منها، ثم إنها تبدأ الشوط من أوله لتحقيق شقها البنائي ولاستصناع قواعد أصولية بنائية على شاكلة القواعد الأصولية اللغوية الدلالية … لتعينها على تكوين وبناء لغة قواعد القانون الوضعي ولغاته الرسمية وتلك البيانية ، وهو ذلك الجديد الذي لم تسبق إليه، وليس ثم دليل لها حتى الآن.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى