“الفهم” روح العمل القضائي

بقلم : أ/ محـمد شعبان

دلت لغة العرب على أن الفهم هو العلم بالشئ والدراية به؛ والعلم بالأشياء يتم عبر عملية ذهنية يتوجه فيها الشخص بحواسه نحو ما يُعرض عليه، لاستنتاج عدد من المعاني، ليتسنى له التعامل مع هذه الأشياء على ضوء ما يستنتجه بفهمه.

ويلعبُ ” الفهم ” دوراً بالغ الأهمية في العمل القضائي؛ فالقاضي الذي تعرض عليه الأقضية والمنازعات لا يمكنه القضاء فيها إلا إذا فَهِم أبعاد هذه المنازعات وظروفها وملابساتها بحثاً عن الوجه الذي يتسنى له عن طريقه تطبيق أحكام التشريع عليها. ولهذا فمن القواعد المعروفة في مجال الفقه وأصوله ” الحكم على الشئ فرع عن تصوره” فلا يتسنى للقاضي أن يحكم في منازعة قبل أن يتصورها تصوراً تاماً وذلك عبر تحصيله لواقعاتها لإمكان البحث في التكييف التشريعي أو القانوني لها وإنزاله عليها، وبدون هذا التصور لن يتسنى له الإلمام بالواقع، وهو ما سيؤدي إلى اختلال صورة الواقعة في ذهنه اختلالا يسلس إلى خلل في تطبيق القانون على هذا الواقع بما يعرض المراكز القانونية المشمولة بالحماية القانونية للخطر.

ولأهمية ” الفهم ” في العمل القضائي حرصت عليه تعاليم الشريعة الإسلامية في آداب القضاء. ففي رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما – أوصاه عدة وصايا عند قيامه بوظيفة القضاء بين الناس، وكان من بين ما أوصاه به “الفهم” حيث قال له ” .. ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ..” وهذه الوصية يوصيه فيها بأن يعي على نحو دقيق ما يُدلى به إليه من الخصوم من وقائع لكي يتسنى له أن يختار ما ينطبق عليها من أحكام التشريع المنصوص عليها في الكتاب والسنة، أنه إذا ما خلا القرآن والسنة من نصوص مباشرة، فيتولى عن طريق ” الفهم ” البحث عن حكم شرعي لانطباقه على الواقعة المعروضة عليه وذلك عبر القياس ” .. ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال والأشباه ، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله فيما ترى، وأشبهها بالحق ..” .

ولم يقف أمر الإهتمام بـ ” الفهم ” عند الشريعة الإسلامية، بل إن القانون الوضعي احتفى كذلك بهذا الأدب القضائي الرفيع، لكونه الوسيلة الرئيسية التي يتسنى للقاضي من خلالها أن ينفذ إلى التشريع لاختيار حكم القانون الصحيح لإنزاله على واقع النزاع المعروض عليه. إذ لم يجز المشرع بمقتضى نص المادة (167) قانون المرافعات لغير القضاة الذين سمعوا المرافعة أن يشتركوا في المداولة، وما ذلك إلا تأكيداً على حقيقة مفادها أن القضاة الذين لم يحضروا المرافعات ولم يقفوا على ما أدلى به خصوم الدعوى أمام المحكمة لن يسنى لهم أن يتداولوا ولا أن يصدروا حكماً لعدم إمكانية تصورهم لواقع النزاع، ولهذا رتب المشرع على مخالفة ذلك بطلان الحكم. كما أن المشرع في المادة (168) من ذات القانون لم يجز للمحكمة أثناء المداولة أن تسمع أحد الخصوم أو وكيله أو أن تقبل منه أوراقاً أو مذكرات، بغير حضور خصمه ودون إطلاعه عليها، لما في ذلك من تأثير على فهم المحكمة لواقع النزاع وإهدار لمبدأ المواجهة بين الخصوم الذي هو مناط عملية الموازنة والترجيح الذي ستقوم بها المحكمة وهي بصدد تكوين تصورها عن واقع النزاع، ولهذا أيضاً رتب المشرع البطلان على مخالفة هذا الحكم. ومن بين الأحكام التي أكد عليها المشرع في قانون المرافعات ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (178) منه من وجوب اشتمال الحكم على عرض مجمل لوقائع الدعوى، ثم طلبات الخصوم، وخلاصة موجزة لدفوعهم ودفاعهم الجوهري، ورأي النيابة، ثم تذكر بعد ذلك أسباب الحكم ومنطوقه. ولعل الحكمة من إيجاب إيراد الحكم لهذه العناصر قبل أسباب الحكم ومنطوقه، هو ضمان التحقق من اكتمال “الفهم” لدى عدالة المحكمة عن واقع النزاع وحقيقة واقعه وطلبات الخصوم في الدعوى وما أدلى به كل منهم، قبل إنزال حكم القانون على هذا الواقع والنطق به.

وترسيخاً لقاعدة ” الفهم ” كأحد القواعد الأصولية التي تقوم عليها وظيفة القضاء، جاءت مبادئ محكمة النقض المصرية مؤكدة لأهمية وجوهرية هذه القاعدة في عمل القضاء، وذلك بما استقرت عليه هذه المبادئ من “وجوب أن تبنى الأحكام على أسباب واضحة تنم عن تحصيل المحكمة فهم الواقع في الدعوى، وأن الحقيقة التى استخلصتها واقتنعت بها قد قام دليلها الذى يتطلبه القانون، ويؤدى إلى النتيجة التى انتهت إليها في قضائها”. ومن “وجوب أن يكون الحكم فيه بذاته ما يطمئن المطلع عليه إلى أن المحكمة قد محصت الأدلة التي قدمت إليها وحصلت منها ما تؤدي إليه وذلك باستعراض هذه الأدلة، وتعليقه عليها بما ينبئ عن بحث ودراسة أوراق الدعوى عن بصر وبصيرة بحيث لا يجوز لها أن تطرح ما يقدم إليها من أدلة مؤثرة في النزاع دون أن تبين في حكمها ما يبرر هذا الاطراح وإلاّ كان حكمها قاصراً” ( يراجع على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 1020 لسنة 55 قضائية جلسة 06/09/1992 والطعن رقم 14566 لسنة 79 قضائية جلسة 16/05/2017 والطعن رقم 5141 لسنة 88 قضائية جلسة 16/01/2019 ) .

وإذا كان فهم الواقع في الدعوى له هذه المكانة والأهمية، إلا أن أمره موكول إلى سلطة المحكمة وقضاتها الذين لهم – وفق ما استقر عليه قضاء محكمة النقض – السلطة التامة في فهم الواقع في الدعوى وبحث الأدلة والمستندات المقدمة فيها وموازنة بعضها البعض الآخر وترجيح ما تطمئن نفسه إلى ترجيحه وهو غير ملزم بالرد على كل ما يقدمه الخصوم من مستندات وحسبه أن يبين الحقيقة التى اقتنع بها وأن يقيم قضاءه على أسباب سائغة لها أصلها الثابت في الأوراق وتكفى لحمله ولا عليه أن يتتبع الخصوم في مختلف أقوالهم وحججهم وطلباتهم ويرد استقلالاً على كل قول أو حجة أو دليل أو طلب أثاروه ما دام في قيام الحقيقة التى اقتنع بها وأورد دليلها الرد الضمنى المسقط لتلك الأقوال والحجج والطلبات. ( يراجع على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 13321 لسنة 85 قضائية جلسة 11/06/2019 و الطعن رقم 10196 لسنة 79 قضائية جلسة 11/04/2019 )

ولم تترك محكمة النقض أمر ” الفهم ” لواقع الدعوى وأدلتها ومستنداتها وطلبات الخصوم فيها لإطلاقات سلطة محكمة الموضوع دون قيد، وإنما أوردت استثناءات على هذه السلطة تمثلت في إيجاب بيان محكمة الموضوع للحقيقة التي اقتنعت بها وهي بصدد تحصيلها لواقع الدعوى مأخوذة من دليل معتبر، وحظرت عليها اللجوء إلى التعسف في “فهم هذه الحقيقة” سواء كان ذلك عن طريق الاستخلاص أو الاستنتاج غير السائغ لواقع الدعوى أو لمؤدى الأدلة المقدمة من الخصوم فيها وعلى النحو الذي يتنافر مع العقل والمنطق، أو بمخالفة الثابت في الأوراق، كما أخضعت فهم محكمة الموضوع لواقع الدعوى لرقابتها على أساس أن هذا الفهم هو المدخل للتطبيق القانوني الصحيح على هذا الواقع. حيث استقر قضائها على أن سلطة قاضى الموضوع في فهم واقع الدعوى ليست سلطة مطلقة ورأيه في هذا الصدد ليس رأياً قطعياً وإنما يجد حده في صحة المصدر الذى استقى منه الدليل على وجود ذلك الواقع بأن يكون دليلاً حقيقياً له أصله الثابت في الأوراق وليس دليلاً وهمياً لا وجود له إلا في مخيلة القاضى وفى سلامة استخلاص النتيجة من هذا المصدر بأن يكون هذا الاستخلاص سائغاً غير مناقض لما أثبته” ( يراجع في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 6001 لسنة 85 قضائية جلسة 03/05/2017 ). وأنه “ولئن كان لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تحصيل فهم الواقع في الدعوى واستخلاص ما تقتنع به وما يطمئن إليه وجدانها إلا أن ذلك مشروط بأن يكون استخلاصها سائغاً ولا مخالفة فيه للثابت في الأوراق” ( يراجع على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 10890 لسنة 87 قضائية جلسة 03/07/ 2018 والطعن رقم 10217 لسنة 87 قضائية جلسة 06/05/2018 و الطعن رقم 213 لسنة 72 قضائية جلسة 04/04/2018 والطعن رقم 2379 لسنة 73 قضائية جلسة 20/11/2016 ). كما استقر قضائها كذلك على أنه ” ولئن كان لمحكمة الموضوع السلطة التامة في تحصيل فهم الواقع في الدعوى من الأدلة المقدمة فيها وترجيح بعضها على البعض الأخر، إلا أنها تخضع لرقابة محكمة النقض في تكييفها لهذا الفهم وفى تطبيق ما ينبغي عليه في أحكام القانون ( يراجع على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 3392 لسنة 87 قضائية ، جلسة 12/05/2018 والطعن رقم 8563 لسنة 83 قضائية جلسة 21/04/2018 والطعن رقم 109 لسنة 81 قضائية جلسة 14/04/2018 ).

وقد رتبت محكمة النقض البطلان على مخالفة الحكم القضائي لهذه الأصول لقواعد الفهم. فالحكم الذي يأتي على نحو قاصر في عرض واقع الدعوى أو طلبات الخصوم فيها وما قد يكون جوهرياً من دفاعهم ودفوعهم يكون مشوباً بالقصور المبطل. ( يراجع في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 8563 لسنة 83 قضائية جلسة 21/04/2018 ). كما أن الحكم الذي تلجأ فيه المحكمة إلى إستنباط واقعها من دليل غير صالح من الناحية الموضوعية للإقتناع به، أو استخلاص هذا الواقع من مصدر لا وجود له أو موجود لكنه مناقض لما أثبته، أو وقع تناقض بين هذه العناصر كما في حالة عدم اللزوم المنطقي للنتيجة التي انتهت إليها المحكمة بناء على تلك العناصر التي ثبتت لديها، يكون مشوباً بعيب الفساد في الاستدلال، وكذلك أيضاً الحكم الذي لا ينبى على القطع واليقين وإنما يبنى على مجرد الظن والتخمين (يراجع في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: نقض مدني، الطعن رقم 9461 لسنة 77 قضائية جلسة 08/05/2018 والطعن رقم 2495 لسنة 86 قضائية جلسة 06/06/2017 ) . كما أن الحكم الذي يبنى على تحصيل خاطئ لما هو ثابت بالأوراق أو على تحريف الثابت مادياً ببعض هذه الأوراق يكون مشوباً بالبطلان لمخالفته الثابت بالأوراق. ( يراجع في ذلك على سبيل المثال لا الحصر : نقض مدني، الطعن رقم 15262 لسنة 78 قضائية جلسة 02/10/2017 والطعن رقم 13663 لسنة 86 قضائية جلسة 22/05/2017 ) .

وبعد هذا السرد ننتهي إلى القول أن عنصر ” لفهم” يبقى الأهم في وظيفة القضاء، فبدونه لا يستقيم الميزان، ويضل القاضي طريقه إلى الحقيقة، وينحرف عن التطبيق القانوني الصحيح. ولعل ذلك ما يوجب عليه أن يتأنى في بحث ما يُدلي به الخصوم إليه، ويضعه موضع الفحص والدرس على نحو مستفيض، عن بصر (أي ينظر فيما يُدلى به إليه نظرة دقيقة متفحصة ليطلع على ألفاظ ومباني الطلبات والدفوع ) وعن بصيرة (عن طريق سبر أغوار ما يعرض عليه ليتعرف على المقاصد والمعاني لا أن يكتفي بالوقوف على الألفاظ والمباني)، ليتسنى له على إثر ذلك أن يعطي الدعوى وصفها الحق، وأن يسبغ عليها التكييف القانوني السليم، على النحو الذي يتحقق به العدل، وتنجلي معه الحقيقة، ويعم معه السلام الإجتماعي بين الناس.

والله من وراء القصد،،

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى