الخطاب القانوني.. والخطاب الإرهاربي (ضدان .. متنافيان) [3]

بقلم الدكتور : محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

نتابع سلسلة “الخطاب القانوني ودوره في تعزيز الأمن المجتمعي والازدهار الاقتصادي ” ، ذلك أنَّ الخطابَ القانوني المستوفي شرائطه يهيئ حتما بيئةَ  ازدهارٍ اقتصاديٍّ،  ويُنتِجُ بالضرورة  أمنًا مجتمعيًّا بل وأمنا قوميًّا … وهذا من وجوه: أهمها أنه خطاب مانع دامغ للخطاب الإرهابي ، داحض له في زيفه ومُوئِداً له في مَهْدِه ، فهو يضادُّه وينافيه وينفيه ويُقصيه ويُلغيه  .

فلا يجتمعُ ولن يجتمعَ خطابٌ قانونيٌّ رشيدٌ يبيِّنُ المستحقَ ويضمنُ الحقَّ وينظِّمُ المراكزَ القانونية ويعزِّز السكينة العامة ويضمن الاستقرار مع خطاب إرهابي قِوامه الإِرْجاف وأساسه الكراهية ومَنْبته الفكرُ السقيمُ بما يخالفُ وسطيةَ الدين وبما يصادمُ صريحَ المنقول وصحيحَ العقول …. وهذه حقيقةٌ راسخةٌ لا تقبل الإبدال ولا الاستبدال ، ولا الإِخلاف  أو الارتحال.

ولئن سأل سائل:

(1) ماذا لو كان هناك خطاب قانوني وعلى رغم ذلك لا يزال هناك خطاب إرهابي يستقطب فئات وفئات كثيرة من كافة أعضاء المجتمع ؟؟؟

(2) وربَّ سائلٍ آخر يصيحُ في وجهي قائلا : معظم الدول العربية وليست مصر وحدها لديها خطاب قانوني متنوع ومتعدد وعلى رغم ذلك فهناك خطاب إرهابي متسع ومتمدد…فما مدى صحة كلامك..؟؟!!

لعلك تحلم أو لعل سياق الكلام أذهب بك بعيدا يا دكتور…!!!

ولعلك تبني على تنظيرات منبتَّة عن الواقع أو أن كتاباتك معيارية أكثر منها واقعية مجتمعية …!!!

أقول – وهذا كلام على مسئوليتي العلمية – أنني أؤكد بناء على الدرس النظري والسبر الواقعي بأن الخطاب القانوني الصحيح المستوفي شرائطه والمستكمل أركانه حتما جزما قولا فصلا – هو من دوامغ ومصدِعات الخطاب الإرهابي ، وهو ضمنَ عدةِ عوامل من أهم الأسباب وأعظمها في سحق ومحق الخطاب الإرهابي، ومن ثم اجتثاث هذا الفكر وتجفيف منابعه ، كما وأؤكد أن العلاقة ما بين الخطاب القانوني والخطاب الإرهابي إنما هي علاقة تعاكسية مطردة بالمخالفة والمناوأة والتباعد والتنافر فيما بينهما مطلقا.

وأكرر قولي بأن هذا الكلام ليس مرسلا هكذا من وحي خاطري ، بل إنه كلام مسئول بناء على درس نظريٍّ منهجي  وعلى استقراء للواقع العملي ،  ولعله مما يشفع لي لدى القارئ … أنني منذ عام 2006 أقوم علميا على مشروع متسع في التأسيس والتأصيل “لنظرية الوسط والاعتدال والقصد” ولتلك النظرية المقابلة لها رديفها العكسي  ومضادها التخالفي حيث ” نظرية الغلو والتطرف والتشدد…” وقد أنجزنا في ذلك سبعة عشر جزءا معتمدة ، وذلك في بعض الدول العربية الشقيقة وهي للعلم دولة يقل فيها الخطاب الإرهابي وتضعف فيها الظواهر الخارجة عن حد الوسط على رغم تنوعها المذهبي … وتعددها القبلي ، بل إنها تتسم في خطابيها القانوني والديني الكفاءة والاعتدال… لذلك تفصيل ليس هذا سياقه ـ

هذا بالإضافة إلى أن بحثي التكميلي للماجستير في القانون الجنائي كان اتجاهات المشرع المصري وسياسته في “قانون جمعيات النفع العام” وكيف حاول الجمع بين حمايتها من الإرهاب وانفتاحها على مشاريع وأعمال النفع المجتمعي ؟!! بإشراف معالي الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور ، هذا مع مع بعض الأعمال العلمية في التوسط والغلو والقصد والإرهاب …ليس هذا سياق سردها .

وما قصدت بذكر ما سبق إلا تدعيم مسئوليتي العلمية عن أطروحة هذا المقال بأن “الخطاب القانوني لا يتعايش معه خطاب إرهابي ” وأنهما متنافيان لا يجتمعان ألبتة في مجتمع واحد أو قطر واحد .

 

إذن ما تفسير وجود خطاب  إرهابي رعم وجود خطاب بل خطابات قانونية …!!  وسوف يستطرد السائل بذكر تلك الظواهر ( المزعوم)  أن خطابها قانوني وأنها تشكو من وجود الخطاب الإرهابي وبأن هذا ملحوظ ومشاهد ….!!

سوف أتريث قليلا لينهي السائل سؤاله والمجادل جداله وأشرع بعدها في تبسيط وتفسير تساؤلاته  بإيجاز في الآتي :

أولا: إن الخطاب القانوني الموجود بين ظهرانينا والذي يكثر اصطناعه وتوليده وترداده وتعديده والحديث عنه ليل نهار إنما هو خطاب لو صج تسميته قانونيا فهو (خطاب قانوني منقوص) أو بلا معنى ، أو فيه من التناقضات ما يمتنع علينا تسميته بالخطاب القانوني … !!! وجماع ما سبق  أنه لو عُدَّ من ضمن الخطاب القانوني فهو على الأقل خطاب شبه قانوني غير مكتمل الشرائط ولا مستوفيا الأركان ، تلك التي تجعل منه خطابا قانونيا مكتملا ومن ثم خطابا قانونيا منافيا وممانعا للخطاب الإرهابي ، وهذه الأركان وتلك الشرائط هي التي تضمن له منازعة الخطاب الإرهابي ومقارعته ، ودحضه بل وسحقه وحقه .

والسؤال هنا عن الآتي :

ما تلك الشرائط وما هذه الأركان التي تزعم أن وجودها وتوافرها على وجهها يجعل من الخطاب القانوني خطابا قانونيا فاعلا في أمن المجتمع وفي دحض الخطاب الإرهابي … ؟؟!!

هذا سؤال جوهري وهو غاية تلك السلسلة عن الخطاب القانوني وأثره في تعزيز الأمن المجتمعي وفي الازدهار الاقتصادي ، وليسمح لي القارئ الكريم فضلا وتفضلا أن أرجئ الحديث عن هذه الشرائط وتلك الاركان التي لا قيام للخطاب القانوني إلا بها إلى مقالة مستقلة من أولها؛ نظرا لأهمية وجلالة هذا الموضوع وتلك المسألة خاصة ، على أنه قد سبقت الإشارة إلى بعضها في المقال السابق .

ثانيا: هناك خلط فكري واسع ، واختلاط تصوري متسع ما بين “لغات القانون” وما بين “الخطاب القانوني” .

وقد ذكرنا هذا تفصيلا في المقال الأول وقلنا إن هناك لعات خمسة جامعة للقانون ومؤسساته وهيئاته ، تعبر عن ذويه والمشتغلين به… ، وتمثل كل لغة مستوى من مستويات القانون أو طريقة من طرائقه في التعبير والتواصل القانوني .

فاللغة الأولى هي لغة النص القانوني ، وتمثل المستوى الأول وقوامها ” النص القانوني ذاته ” وهو نص صارم في لغته ، متميز في أسلوبه ، متكامل في بنيانه ، ذو خصائص وسمات في مفرداته وفي تراكيبه وفي روابطه بداية من وحداته الصغرى إلى وحداته الكبرى انتهاء بروابط تلك الوحدات ….

واللغة الثانية هي : لغة فقه القانون ، وتمثل المستوى الثاني وهي لغة تتعلق بالنص القانوني السابق أيا كان ذلك النص من حيث مدلولاته ودلالاته ومقاصده ومراماته المباشرة والضمنية واللزومية … وهي مَعنيّة بشرح ذلك النص وتفسيره وتأويله وتوجيهه والتعليق عليه واستخراج مؤداه والوقوف على مغزاه وسائر متعلقات ذلك ….

اللغة الثالثة هي لغة الحكم أو لغة الحكم والقضاء ، وتمثل المستوى الثالث من مستويات لغات القانون وهي : تلك اللغة الحاسمة ، لغة الفصل والقضاء ، وهي الموقِّعةُ عن العدالة ، وهي لسانها الناطق ، وهي لغة في جملتها تعنى بمطابقة النص لوقائعه وإسقاطه على متعلقه والوقوف على نماذجه من حيث إثبات التأثيم والتجريم ( النموذج القانوني للجريمة) أو رفع ذلك التجريم ورد الفرع إلى أصله في الإباحة والبراءة لأنها قرينة أصلية لا تثبت بشك ولا تقوم بريبة ولا تَحِيق بمظنَّة ، إلا أن يقطع ذلك علمٌ قائمٌ ودليلٌ ثابتٌ يتبينُ للقاضي بيانا لا يقبل الرِّيبةَ ولا يظاهره شكٌ …. ولغة الحكم هي عنوان الحقيقة ما استوفت شروطها واستتمت أركانها .

اللغة الرابعة : لغة الدَّفع والدِّفاع وتمثل المستوى الرابع من لغات القانون ، وهي لغة قانونية تتسم بالمرونة وتمتاز بالليونة والتوسع، فهي تجمع ما بين لغة الحسم في دقتها وما بين لغة النص في صرامتها وما بين التمثيل والتشبيه والتفريع بهدف التقرير والإحاطة بعناصر الدفاع ، ثم التأثير وهي من غاياتها أن تحدث تأثيرا في التصورات وفي المدركات ، انتهاء إلى التغيير ، حيث تغيير القناعات وتوجيه المسارات في صالح الدفع والدفاع بما يستهدفه المدافع وما يتوخى تحقيقه في قضيته .

أما اللغة الخامسة : فهي لغة الخطاب القانوني وهي محل التناول ، وهي لغة تتمايز عن جميع اللغات القانونية السابقة لها عناصرها وأركانها وشرائطها ، وما أن تستوفى -كما قلنا – حتى تكون فاعلة في دحض الخطاب الإرهابي وفي تعزيز الأمن المجتمعي ومن ثم الازدهار الاقتصادي .

 

ثالثا: هناك خلط لا يقل عن سابقه بل إنه خلط مًغِيظٌ ومثير …!!،  لأنه يصدر غالبا عن الدوائر الرسمية أو من الهيئات والمؤسسات القانونية … خلط ما بين “لغة النص القانوني” وما بين “لغة الخطاب القانوني” … !!!

 

حتى ليذهب بعضهم إلى القول بأنه يكفي النص القانوني لنخاطب به الكافة….!!! ، وأن النصوص القانونية تنظم كل مجالات الحياة …!!، وقد سعينا لمحاصرة الإرهاب في وسائل الاتصالات الحديثة وفي وسائل التواصل الاجتماعي ، ومن خلال حزمة قوانين مكافحة الإرهاب خاصة القانون الجديد قانون رقم (94) لسنة 2015م.وبقانون رقم ١٧ لسنة ٢٠٢٠م ، وبتعديل بعض أحكام قانون مكافحة غسل الأموال الصادر بالقانون رقم ٨٠ لسنة ٢٠٠٢م ، و بالتدابير الاحترازية الرادعة للإرهابيين …وبكذا وكذا من القوانين  ….!!!

ألا تكفي هذه الترسانة القانونية ؟؟!!

ألا يمكن الاستعاضة بها عن الخطاب القانوني ، وعما تزعمه من شرائط وعناصر كفيلة عند توافرها أن تدحض  الخطاب الإرهابي ؟؟؟!!

أقول لا تكفي القوانين ولا لغة القانون …لا تكفي … لاتكفي!! …ولو ملأنا مساحة أكبر استاد في مصر بمجلدات ومذكرات ومدونات نصوص القانون  ولو كانت مؤصلة ومفصلة تتبع  كل حراك يمكن تصوره لهؤلاء الإرهابيين ….لن تكفي لن تكفي …!!!!!!!!!!!!!!

 

وسبب هذا أن هناك تمايز جوهري ما بين “النص القانوني ” وما بين “الخطاب القانوني” ، وأنه لا داعي للخلط بينهما أبدا ، فالنص القانوني هو نص جامد معياري ملزم يتضمن تقريرات لها حكم الإلزام ، وقواعد لها حكم التطبيق،  ومقتضيات لها صفة العموم، ومعاني لها سمة التجرد ….

وهذا يُسبك من مفردات وإن كان لها أصل لغوي ابتداء فهي تنتهي إلى معان قانونية متفقة مع معانيها اللغوية الأصلية أو انزاحت عنها ، ثم تتراكب هذه الكلمات في جمل نصوصية،  أي :جمل تعبر عن النص القانوني،  وهي جمل ذات سمات خاصة جدا في صياغتها ، فهي جمل تقريرية جافة لا يعنيها جمال العبارة ولا التفنن في البيان ، بل يعنيها في المقام الأول البيان والتنصيص على الدلالة القانونية المراد وتقريرها على الكافة .

وهي جملة لا يعنيها الإطناب أو الإيجاز وإنما يعنيها استكمال المعنى وإتمام الدلالة القانونية المقصود إيرادها ، ومن ثم فلا اطراد فيها بإيجاز ولا تتابع فيها ببسط . ثم إنها “جملة عبارية” بمعنى أنها جمل متصلة المعنى لا يمكن فصل بعضها عن بعض ، وهذا معنى قولنا “جمل عبارية” أو أنه تحددها العبارة، أو هي جمل “بَنْدية أو مادية” ( يعني تفهم بحسب البند القانوني أو المادة القانونية محل التناول .

 

بينما الخطاب القانوني يخالف ذلك وإن اتفق مع لغة النص القانوني في المورد وفي المستهدف بالإيراد ، إلا أنه يخالفه في لغته شكلا ومضمونا وفي تنوع المخاطب المستهدف  وفي اشتباك الرسالة والمعنى القانوني  المراد إيصاله من حيث التحامه وتراكبه مع وقائع المخاطب وسياقاته ويتخالف مع لغة القانون في مجموعة الملطفات والاعتبارات الخاصة التي تتضمنها رسالته القانونية ( خلافا للأمر القانوني الذي تُعنى به لغة النص القانوني )….إلى عير ذلك مما سنأتي على ذكره تفصيلا .

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى