الجريمة المستحيلة في القانون المصري

بقلم أحمد مصطفى قاعود

 

أراد شاب في فرنسا أن يقتل أباه فأعد لذلك بندقية جاهزة، ومحشوة بالرصاص، وأسندها على الجدار، في الوقت الذي كان فيه أبوه خارج المنزل، وعند عودة الأب إلى المنزل رأى البندقية؛ فراوده الشك حول نية إبنه، فتناول البندقية وأفرغها من الرصاص وأعادها إلى مكانها، فأحس الإبن بعودة الأب، فأخذ البندقية، وصوبها نحوه وضغط على الزناد، لكن الرصاص لم ينطلق، فقام الأب برفع دعوي لدي المحكمة، فقضت له وأدانت إبنه بالشروع في القتل.

فظهرت من وقتها في ساحة الفقه القانوني مصطلح الجريمة المستحيلة.

فما هي تلك الجريمة؟ وما صورها؟ وعقوبتها في القانون المصري؟

وقبل أن ندخل في الموضوع يستوجب أن نمهد له بالآتي

تمر الجريمة قبل وقوعها بثلاث مراحل:
1- مرحلة التفكير والتصميم
2- مرحلة الإعداد والتحضير
3- مرحلة البدء بالتنفيذ

الجاني في مرحلة التنفيذ، قد يتعامل عن قرب مع محل الجريمة، كما لوضع سمًا في طعام المجني عليه، أو يأخذ حبلًا ويتسلق ليدخل بيت المجني عليه لسرقته، أو قد يتعامل بشكل مباشر مع محل الجريمة، كما لو أطلق النار على المجني عليه، أو السارق الذي يضع يده على المال المسروق، وقد يصل إلى النتيجة التي يريدها، أو تفلت النتيجة، فلا يصل إلى ما يريده، وعلى ذلك نكون أمام احتمالين -:

الأول: أن يكمل الجاني نشاطه الإجرامي، وتتحقق تبعًا لذلك النتيجة المقصودة، وهذه الجريمة التامة.

الثاني: أن يتخلف أهم عنصر في الجريمة، ألا وهو عنصر النتيجة، فنكون أمام الشروع في الجريمة، أو الجريمة الناقصة.

وبما أن للشروع حد أدنى ويسمى الشروع الناقص، وحد أقصى، وهو الشروع التام، لذلك نكون أمام صورتين للشروع -:

الأولى: أن عدم تمام الجريمة وفق هذه الصورة، عائد إلى عدم إتمام الفاعل لنشاطه الإجرامي، وتوقف الجاني عن إتمام نشاطه الإجرامي يعود لأسباب خارجية لا دخل لإرادته فيها، فيكون الفاعل قد مُنع عن إتمام فعله بفعل فاعل آخر لا دخل لإرادة الجاني فيه، وهذه حالة الشروع الناقص، أو الجريمة الموقوفة.
وفي الجريمة الناقصة يمكن تصور عدول الجاني عن إتمام فعله، وعدم إكمال جريمته بإرادته ورغبته، كما لو حاول شخص قتل آخر وصوب المسدس نحوه ثم يمتنع عن إطلاق النار عليه رأفة من الجاني بالمجني عليه، أو حالة السارق الذي يمتنع عن سرقة الأموال، لأنها تعود إلى أيتام، وطالما أن العدول تم بإرادة، ورغبة الجاني لا بسبب خارجي فيسمى بالعدول الإختياري.

الثانية: وهي إذا ما قام الجاني بكل الأفعال المادية المكونة للجريمة حتى نهايتها، ولم تبق خطوة تفصل بين الجاني والنتيجة، ومع ذلك تفلت النتيجة التي قصدها الجاني من سلوكه لسبب لا دخل لإرادته فيه، والنتيجة في هذه الحالة تكون ممكنة الوقوع في ظروف النشاط الإجرامي الذي قام به الجاني، كما لو أطلق النار من مسدسه على خصمه فلم يصبه، أو أصابه في غير مقتل، أو تم إسعافه في المستشفى، ويسمى فعل الفاعل هذا بالشروع التام، لأنه أتم كل نشاطه الإجرامي ما عدى النتيجة؛ حيث يعتبر تخلفها من طبيعة الشروع، وتسمى بالجريمة الخائبة.

وعلى عكس الصورة الأولى، ففي هذه الصورة الثانية، لا يُتصور عدول الجاني بإختياره عن إتمام جريمته، لأن العدول الإختياري يتحقق في الغالب في الجريمة الموقوفة، ولا يمكن تصوره في الجريمة الخائبة، إلا في حالة كون عمل الجاني مما يمكن تداركه بعد وقوعه، وقبل أن ينتج أثره كما لو حاول شخص قتل خصمه بإغراقه فألقاه بالنهر، وبعد ذلك يعدل بإختياره، ولم يشاء أن يتم جريمته، فيمد له يد المساعدة فينقذه من الغرق، وعلى العكس إذا كان فعل الجاني مما لا يمكن تداركه، وكان وحده كافيا لإتمام الجريمة، إلا أن سبباً خارجيًا، لا دخل لإرادة الجاني به حال دون وقوع النتيجة ، فإن الفاعل يعد شارعاً في الجريمة، كما لو اطلق شخص النار على خصمه بقصد قتله فأخطأه ثم عدل عن اتمام قصده فلم يطلق رصاصة اخرى، يعتبر في هذه الحالة مرتكبا لجريمة الشروع في القتل ويعاقب على فعله.

تتفرع عن الصورة الثانية جريمة آخرى تتشابه معها من ناحية سلوك الجاني ومن حيث النتيجة، إلا أنها تختلف عنها في أن النتيجة إذا كانت ممكنة الحدوث في ظل ظروف النشاط الإجرامي في الأولى، فهي في الثانية لم ولن تتحقق مهما بذل الجاني من جهد في سبيل اتمامها.

كما لو أطلق أحدهم النار على خصمه النائم على السرير، فإذا به فارق الحياة قبل إطلاق النار، أو كمن يمد يده في جيب المجني عليه فيجده خاليا من المحفظة، أو من يكسر خزانة النقود فيجدها فارغة، وهذه هي الجريمة المستحيلة، ومن هنا يتبين ان الجريمة المستحيلة هي صورة من الشروع التام .

فما هو تعريف الجريمة المستحيلة:-

هي الجريمة التي يُمتنع تحققها مهما بذل الجاني من جهد في سبيل ذلك، وكما لو أطلق أحدهم النار على خصمه النائم على السرير، فتبين أنه فارق الحياة قبل إطلاق النار عليه، أو من كسر خزانة النقود فوجدها خالية.

وقد اختلف الفقه الجنائي الدولي، في تلك الجريمة، وتفرع عنه مذاهب متعددة، لا أجد سبيلا لسردها ويراجع فيها  كلا من :

د. محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات المصري.

– القاضي خليل عفت ثابت ، الجريمة المستحيلة ، مجلة المحاماة العدد التاسع السنة الثالثة  .

–  محمد صبري أبو علم ، بحث في الجريمة المستحيلة مجلة المحاماة عدد الخامس ، السنة العاشرة.

– د.سمير شناوي ، الشروع في الجريمة ،دراسة مقارنة .

ولكن ما يهمنا هو موقف الفقه والقضاء المصري من تلك الجريمة

تأرجح القضاء المصري بين النظرية التي اخذت بها المحكمة العليا في المانيا اي المعاقبة على الجريمة المستحيلة ايا كانت فروض الاستحالة. ويظهر ذلك في قرار محكمة النقض المصرية الصادر في 12 ديسمبر 1913 حيث اعتبرت فيه ان تقديم شخص جواهر غير مضرة معتقدا بتسببها الموت لخصمه لجهله المقدار الكافي الذي يحدث الوفاة شروعا في جريمة القتل لأن النتيجة لم تتحقق بسبب لا ارادي فقد جاء في حيثيات الحكم ( ان الشروع في القتل بواسطة السم يتكون بمجرد اعطاء شخص عمدا مادة في امكانها احداث الموت ، او يظن الفاعل انها تحدث الوفاة وذلك توصلا لقتل المجني عليه ، واما اذا اعطى السم بكمية خفيفة جدا واذا كانت الجواهر المستعملة غير مضرة وذلك بدون علم الفاعل ولكنها اعطيت بقصد قتل المجني عليه فان هذه الوقائع لا تكون جريمة مستحيلة بل شروعا في القتل عمدا قد خاب اثره لأسباب خارجة عن ارادة الفاعل ، وفي الواقع فان جريمة الشروع في القتل عمدا بواسطة السم توجد قانونا متى اظهر الفاعل نية ارتكابها بأفعال مقاربة للجناية ومع جميع الظروف المكونة لها ، اما كون السم قد اعطي بكمية خفيفة جدا او ان المادة المستعملة كانت بدون علم الفاعل غير مضرة بدلا من ان تكون قاتله فان هذه ظروف قهرية تجعل الفعل شروعا بدلا من قتل تام )

بينما في حكم آخر لنفس المحكمة المذكورة صدر ونشر في المجموعة الرسمية سنة 1915 نمرة 19 تبنت فكرة تقسيم الاستحالة الى استحالة مطلقة واخرى نسبية مقتفيه اثر محكمة النقض الفرنسية ، حيث ورد في الحيثيات للحكم آنف الذكر (وحيث انه لا يصح القول هنا بوجود (جنحة مستحيلة ) لأن مسألة هذه الاستحالة لا يمكن التمسك بها الا في حالة وجود مانع مادي ومطلق لا بسبب وجود مانع نسبي ناشئ عن قوة ادراك المجني عليه وبالفعل فان هذه الاخير قد جعل المتهم يخيب عن عمله بسبب ظرف قهري لا دخل فيه لنفس الواقعة ولولا وجود هذا الظرف لكان من الممكن ان الجريمة يتم ارتكابها فعلا)

وقد استقرت محكمة النقض المصرية على المذهب المذكور في احكامها الاخيرة واكدت ذلك في حكم لها صدر في 3 نوفمبر 1924 يشير الى هذا التقسيم للاستحالة (الجريمة المستحيلة نوعان: جريمة مستحيلة استحالة مطلقة، كمن اطلق عيارا ناريا على جثة وهذه لا عقاب عليها، وجريمة مستحيلة استحالة نسبية كمن وضع يده في جيب شخص بقصد سرقة ماله فلم يجد في الجيب شيئا وهذه جريمة معاقب عليه).

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى