التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين (5)

 

بقلم: دكتور/ محمد عبد الكريم الحسيني

الحفاظ على “لغة القانون” هدف قومي استراتيجي

مسألة “التكوين اللغوي والتمكين المهاري للقانونيين تُعد –وبحقٍّ- من الأهداف القومية الاستراتيجية للدولة أجمع، فالتكوين والتمكين ليس قاصرا على فئة المحامين فحسب – وإن كانوا أبرز مَن يخاطبون به وألزمهم به – بل يجب تعميمه على سائر القانونيين من المختصين والمعنيين وسائر العاملين في هيئات القانون ودوائره، بداية من المشرعين في المجالس التشريعية في مجموعهم وعلى الأخص لجانهم ذات العلاقة المباشرة بالتشريعات، وأساتذة الجامعات مدرسي القانون وشُرَّاحِه، وأعضاء القضاء والنيابة ورجالات الضبط القضائي وجملة أعضاء السلطة العامة فضلا عن السادة المحامين، وكذلك العاملين في الهيئات والكيانات الدبلوماسية للدولة وكل المتحدثين باسم الدولة وممثليها .

وذلك لأسباب كثيرة أهمها المردود المباشر لعمليات التكوين المعرفي والتمكين المهاري اللغوي في الحفاظ على مقومات الدولة القانونية وهويتها وكيانها الحضاري :

المردود الأول: الحفاظ على مقومات الدولة القانوني.

مقومات الدولة القانونية تتحقق ابتداء من خلال صياغة الدستور أعظم وثيقة قانونية وما يلي ذلك من تشريع ما يلزم من القوانين، ثم تأتي الخطوة الثانية متمثلة في عملية توعوية مجتمعية لتهيئة المجتمع معرفيا ونفسيا على قبول هذه القوانين والالتزام بها، انتهاء إلى تطبيق القانون وإنفاذه على الجميع دون استثناء – مع ملاحظة ضرورة تطبيق القانون بالقانون، والتزام العدالة في بسط سلطانه لتحقيق المرجو من وراء تطبيق القانون-.

ولتحقيق ما سبق من المراحل الثلاث على الوجه الأكمل ينبغي القيام بعملية تكوين لغوي وتمكين مهاري عام وشامل لا يُستثني منه أحد، على أن يكون هذا التكوينُ وذلك التمكين في أعلى درجاته بالنسبة للخاصة من القانونيين المعنيين بالقانون إصداراً وتثقيفا وتطبيقا، ويكون التثقيف اللغوي حسب المستطاع مع عامة أفراد الشعب ولو في حده الأدنى، وذلك لضمان تحقيق نتائج واقعية من وراء إصدار القوانين، ويمكن في هذا السياق القول بأنه :”على قدر التكوين اللغوي والتمكين المهاري على قدر تحقيق القوانين لنتائجها، وعلى قدر ضعف التكوين وسوء التمكين على قدر ارتكاس نتائجها…. علاقة طردية والعكس بالعكس.

أولا: مرحلة إنشاء واستصدار القوانين

تعدُّ مرحلة التأسيس القانوني من أهم المراحل في تحقيق المقومات القانونية للدولة فعليها ينبني ما بعدها، وفي حال القصور عن صياغة القوانين أو التباس صياغتها وضعف تركيبها وانحلال دلالاتها… فإن ذلك يُنذر بخلافات ونزاعات وجدالات لا تكاد تنتهي حول نصوص القوانين، بما يؤدي إلى عدم فاعليتها وإلى تأخير العدالة بل واختلالها بالجملة.

ولتجنب هذه الآثار لابد من التأسيس لهذه المرحلة من خلال تأسيس وتنمية القائمين عليها بشتى المعارف والمهارات المطلوبة وعلى رأسها معارف اللغة العربية ومهاراتها ، فهي أداتهم في التركيب والبناء والصياغة النهائية للقوانين الأساسية، وهي وسيلتهم في فهمه وإفهامه وتفسيره وغيرها من المهام ، ومن ثم ينبغي العمل على إلمام القائمين على القانون بلغة القانون وبمعارفه ومهاراته بما يكفي للقيام بمهام أعمالهم التشريعية تبعا لقواعد لغة القانون وضوابطها، ولإتمام مهام ما بعد الصياغة من استصدار التشريعات ونشرها بلغة قانونية قوامها الدقة والوضوح والإحكام بما يسمح بتداول القانون بين القانونيين وبين جميع أفراد المجتمع بسلاسة ويسر .

ثانيا مرحلة تعريف المجتمع بالقانون (نشر الثقافة القانونية المجتمعية)

تتجلى أهمية التكوين المعرفي والتمكن المهاري بعد إصدار القوانين في : القيام بمهمة تعريف المجتمع بالقانون “تثقيف المجتمع قانونيا” من خلال مخاطبة الكافة في جميع وسائل الإعلام وغيرها من جميع الوسائل الأخرى المتاحة والممكنة .

ومقتضى ما سبق أمران:

أولهما: ضمان إلمام القائمين على التثقيف المجتمعي بمعارف ومهارات لغة القانون جيدا.

ثانيهما: ضمان توافر –ولو- الحد الأدنى من معارف اللغة ومهاراتها لدى المخاطبين بالقانون من كافة رعايا الدولة، بما يؤدي إلى نشر المعرفة القانونية وتحقيق الغاية من التعريف بالقوانين وتبسيط قواعده وتقريبها لكي يلتزم الكافة بها

أ- تحقيقا لمبدأ “الوقائية القانونية” أي توقي تجاوز قواعد القانون دفعا للمساءلة الجنائية أو المدنية.

ب- تطبيقا للغاية من “مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات” والذي يعني أنه لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بنص، وهو من أهم المبادئ الدستورية الحديثة، [ د. أمال عثمان: النموذج القانوني للجريمة ص15 ، ط دار نهضة مصر2018م.] وهو ما يعني بالضرورة الحفاظ على الحريات ونشر الطمأنينة بين الأفراد لمعرفتهم السابقة بحدود القانون وتوقيهم تجاوزها، وإلا وقعوا تحت طائلة التجريم، وفي هذا تحقيق للردع الوقائي والنذر الاستباقي لئلا يتجاوز أحدٌ خطوطَ القانون، ودفعا للاعتذار بالجهل بالقانون، إذ لا مجال للعذر بالجهل في القوانين.

ثالثا: مرحلة إعمال القوانين وتطبيقها

وهي تبدأ بمجرد وقوع الجرائم، وتقع الجرائم حال ارتكاب سلوكيات مخالفة تطابق النموذج القانوني للجريمة، حينئذٍ تقع هذه السلوكيات تحت طائلة التجريم وتنشأ سلطة الدولة في العقاب، وتبرز حينئذٍ أهمية اللغة القانونية في جميع مراحل تطبيق القانون بداية من عمليات جمع الأدلة فالتحقيق وانتهاء بالمحاكمة، فجميع الأعمال القانونية تتأبط لغة القانون بلا انفكاك عنها نظرا لكونها الأداة الوحيدة والوسيلة الفريدة للتداول القانوني بداية من اتصال مأمور الضبط القضائي بالواقعة وانتهاء بتنفيذ الحكم ، فتلزم لغة القانون في وصف الوقائع وفي صياغة المحاضر والشكاوى بالأقسام والنيابات وفي محاضر التحريات والضبط والإحضار، وفي كتابة شهادة الشهود، وفي استصدار وصدور أذونات النيابة وسائر الإجراءات القانونية الشفاهية والكتابية حتى البدء في مرحلة المحاكمة.

ثم تعظم الحاجة للغة القانون بمهاراتها وإمكانياتها وبتعدد مصادرها في حالة المحاكمة بأشد ما يكون؛ لأنها أداة جميع سلطات الاتهام والدفاع والحسم والعقاب (إن تمت الإدانة) ، حيث تجمعهم نصوص القانون وتحدد اختصاصهم وتحدد أعمالهم الإجرائية والموضوعية ، ومن ثم يتبارون في ممارسة أعمالهم بالقانون ويتدافعون بالقانون، ويتخاطبون بلغة القانون ، ويتخاصمون بنصوص القانون – غير أنهم خُصومٌ شرفاءً في خُصومةٍ شريفةٍ – مع حيدة القضاء وترفعه عن كل تحيز وخصومة إلا بالقانون، إذ إنه ممثل العدالة والجميع معه شركاء في تحقيقها كما نص الدستور- سعيا لاستظهار الحقائق وكشف الحقيقة وحماية الحق وإنفاذ العدالة وتحقيق الردعين العام والخاص.

ولا يفوتنا الإشارة -نظرا لأهمية اللغة القانونية في المراحل السابقة – إلى أن هناك خطة مفصلة لتفعيل المعارف اللغوية ومهاراتها وبرنامج عملي وضعناه لتحقيق عملية التكوين المعرفي والتمكين المعاري في المراحل الثلاث:

الأولى: مرحلة إنشاء واستصدار القوانين.

الثانية: مرحلة تعريف المجتمع بالقانون (الثقافة القانونية المجتمعية).

الثالثة: مرحلة إعمال القوانين وتطبيقها.

المردود الثاني: الحفاظ على هوية الدولة (اللغوية والوطنية والحضارية)

الحديث يطول عن عظم دور اللغة باعتبارها مُقَوِّمًا رئيسا من مُقَوِّمات الدولة، والأهم من ذلك أن اللغة ليست الوعاء الحامل للنظام القانون الوطني فحسب، ولكنها وعاء نصوص الدين وتعاليمه – وما أدراك ما الدين وأدواره في تحقيق الأمنين الوطني والمجتمعي بل والأمن الفردي ؟! وكذلك اللغة هي وعاء القيم العامة للدولة ولأعراف المجتمع على تنوعه وتعدده ووعاء لمجموع التاريخ الوطني.

أضف إلى ما سبق أنها وعاء لكل ما يتعلق بعمليات التفكير والفهم والتحليل والتعبير والتأثير وهي العمليات الذهنية، وهي الوعاء الجامع كذلك لجميع ما يعبر عن القيم الجمعية والذاتية، حيث عمليات التقييم والتفضيل والانتماء والميل والاستحسان… وسائر العمليات الاجتماعية والدينية والحضارية.. فهي وبحق مُقَوِّم وطني جامع تقوم عليه مقومات أخرى، وهي “شعار ودِثار الوطن “شعار عام للوطن يعبر عن ظاهره وظواهره ودِثار يعبر عن مخابره وجواهره، بل إنَّ عزة اللغة ورفعتها هي من عزة الأوطان ورفعتها… وعلى النقيض كثيرا ما يهون الوطن بهوان لغته؛ فينتكب بنكبتها ويخضع بخضوعها ويستكين باستكانتها .ولله شاعر النيل حافظ إبراهم لما قال :

أرى لرجالِ الغــــَـــــــــربِ عـــــزاً ومنْعةً وكــــــــــــــــــــــــــــم عـــــــــــــــــــــــــزَّ أقـــــــــــــــــوام بعـــــــــزِّ لغاتِ

أنا البحرُ في أحشائه الدُّرُّ كامنٌ فهل ساءَلوا الغواصَ عن صَدفاتِي

وفي الأخير نقول بأن الإلمام الواسع بلغة القانون وتملك معارفها والتمكن من مهاراتها يمنع السادة القانونيين خصوصا وغيرهم عموما عما يمكن أن نسميه بظاهرة “التيه القانوني” أو “الوهم القانوني” وهو المتمثل في :

أ- التيه المعنوي وهو: تيه في الفهم وقد يسمى “الضلال في الفهم”، والعجز عن الاستيعاب واختلاط الدلالات القانونية واستغلاقها على الوعي ونفورها عن التقارب والتماسك… فهي مبعثرة نافرة تناقض سابقها وتخالف لاحقها من القواعد ويصعب النظم بينها بحال .

ب- التيه المادي وهو تيه يستشعره القانوي فيشعر بغياب الوعي بالكلمات القانونية واستغلاق الجمل والعبارات، فيصعب عليه التنظيم بينها ويلتبس عليه نطقها ويعجز عن التأليف بين أطرافها في جمل متماسكة وأن يسبكها في أسلوب منسجم.. وهو من أشد التيه!! وهو يطال الغريب عن اللغة بالكلية كما هو حال أحدنا إن طلب منه قراءة نص قانوني باللغة اليابانية من سطر واحد!.

ج- التيه في افتراض المطلوب وهو من “التيه المعنوي” ، حيث إن اللغة القانونية الركيكة غير المستوفية لأركانها تعبر عن ضعف صائغها وركاكته وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إنها تفتح أبواب الجحيم في التخمين لدلالاتها وفي قراءة مقاصدها، فتشعل التصارع بين القانونيين أنفسهم فضلا عن إشعاله بين فئات القانونيين من القضاة ووكلاء النيابة ومأموري الضبط؛ فيستعر التنازع ما بين سلطة الاتهام وسلطة الدفاع بما يؤدي إلى تنازعات متطاولات… بل إنه يستطيل إلى حزازات في النفوس قد تنقلب إلى عدوات وسِباب في السرِّ وغيبة ونميمة واسعة تسوِئ الوضع ما بين الفرقاء وتزيد الشقاق بين الأصدقاء.

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى