استقلال القضاء بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

بقلم: مجدي محمد عباس

نعلم جميعا ان السلطات في الدولة ثلاث سلطات, السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية, ولكل سلطة منهم عمل منوط بها, لا تتدخل سلطة في عمل الاخرى- الا في حدود ضيقة جدا وهي ظروف استثنائية نص عليها القانون ووضع لها شروطا معينة- مثل التفويض التشريعي.
وهذا العزل القائم بين السلطات إنما هو لتحقيق العدالة قدر المستطاع, ومحاولة الي الوصل بالحكم الي الحق, ويعتبر من اهم واعظم ضمانات الخصوم.
ويتأكد العزل في السلطة القضائية خاصة, لم لها من خصوصية, وهي محل الحديث معنا هنا, وهوما يسمى باستقلال القضاء.
وقد نصت الدساتير قديما وحديثا على هذه الاستقلالية, وكذلك الدساتير السماوية, وعلى راسها الاسلام, لم لها من يد قوية في ضمانات الخصوم وكفالة الحكم بالعدل, وسوف نعرض نظرة سريعة على موقف استقلال القضاء في الشريعة الاسلامية والدساتير الوضعية.
استقلال القضاء في الشريعة الاسلامية.
لقد دل القراءان الكريم والسنة النبوية الشريفة والاثار المروية عن الصحب الكرام على وجوب استقلال القضاء, ومنها قوله تعالى{ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} {سورة ص اية 26}.
قال القرطبي في تفسيره قال ابن عباس: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلج على صاحبه، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي.
فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع ، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة ، أو غيرهما{تفسير القرطبي}.
وكذلك ما روي عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها أن قريشاً أهمهم شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ ؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامةُ بن زيد حب رسول الله ﷺ؟ فكلمه أسامةُ؛ فقال رسول الله ﷺ: أتشفع في حد من حُدودِ الله تعالى؟! ” ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريف تركوهُ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وايم الله، لو أن فاطمة بنت مُحمدٍ سرقت لقطعتُ يدها) متفقٌ عليه.
وهذا الحديث واضح الدلالة على وجوب استقلال القضاء.
واما الاثار فكثيرة منها على سبيل المثال ما روى ان عمر بن الخطاب وابي ابن كعب تقاضيا الي زيد بن ثابت في محاكمة بينهما, فقصداه في داره, فقال زيد لعمر-وكان اميرا للمؤمنين- لو ارسلت الي لجئتك, فقال عمر: {في بيته ياتى الحكم} فاخذ زيد وسادته ليجلس عليها عمر, فقال عمر: هذا اول جورك, سو بيننا في المجلس..{ السنن الكبرى للبيهقي-باب القاضي لا يحكم لنفسه- واداب القاضي للماوردي- كتاب ضمانات الخصوم للدكتور حسن بودي}.
وقد ذكر المؤرخون ان محمد بن صالح بن ام شيبان الهاشمي-قاضى قضاة بغداد- كان يتفقه لمالك, ولما ولي القضاء ببغداد سنة 363هجريا, اشترط عند توليته شروطا منها, الا يتناول على القضاء اجرا ولا يقبل شفاعة في فعل ما لا يجوز, ولا في اثبات حق- اي في اثبات باطل على انه حق-{الولاة وكتاب القضاه- تاريخ بغداد- كتاب ضمانات الخصوم الدكتور حسن بودي}.
فدلت كل هذه الادلة على وجوب استقلال القضاء عن اي ضاغط او مؤثرات.
واخذت الدساتير الوضعية هذا النهج, وان كان لا يطبق كما هو المراد, ولكن وجود النص يتيح لمن عنده امانة وضمير ودين وموضوعية وشرف, ويعلم ما هو مقبل عليه من حساب, ان يطبقه ويعمل به جاهد لتحقيق الغاية المنشودة وهي العدالة المطلقة.
استقلال القضاء في الدساتير الوضعية.
نصت المادة 166 من دستور المصري (1971م) على انه “القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون, ولا يجوز لاية سلطة التدخل في القضايا او في شئون الدولة”
وتقريبا ظلت هذه المادة في الدستور المصري منذ عام 1923 الى اخر دستور 2014
وجاء قانون استقلال القضاء الصادر عام 2014م, في المادة الثالثة منه الاتي:-
أ‌. القضاء مستقل والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون .
ب‌. يحظر على أي ترخيص أو سلطة المساس باستقلال القضاء والتدخل في شؤونه.
وهناك بعض المبادئ الهامة في استقلال السلطة القضائية منها الاتي:-
1. تكفل الدولة استقلال السلطة القضائية وينص عليه دستور البلد أو قوانينه. ومن واجب جميع المؤسسات الحكومية وغيرها من المؤسسات احترام ومراعاة استقلال السلطة القضائية.
2. تفضل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز، على أساس الوقائع ووفقا للقانون، ودون أية تقييدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات، مباشرة كانت أو غير مباشرة، من أي جهة أو لأي سبب.
3. تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي كما تنفرد بسلطة البت فيما إذا كانت أية مسألة معروضة عليها للفصل فيها تدخل في نطاق اختصاصها حسب التعريف الوارد في القانون.
4. لا يجوز أن تحدث أية تدخلات غير لائقة، أو لا مبرر لها، في الإجراءات القضائية ولا تخضع الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم لإعادة النظر. ولا يخل هذا المبدأ بإعادة النظر القضائية أو بقيام السلطات المختصة، وفقا للقانون، بتخفيف أو تعديل الأحكام التي تصدرها السلطة القضائية.
5. لكل فرد الحق في أن يحاكم أمام المحاكم العادية أو الهيئات القضائية التي تطبق الإجراءات القانونية المقررة. ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية، لا تطبق الإجراءات القانونية المقررة حسب الأصول والخاصة بالتدابير القضائية، لتنتزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية أو الهيئات القضائية.
6. يكفل مبدأ استقلال السلطة القضائية لهذه السلطة ويتطلب منها أن تضمن سير الإجراءات القضائية بعدالة، واحترام حقوق الأطراف.
7. من واجب كل دولة عضو أن توفر الموارد الكافية لتمكين السلطة القضائية من أداء مهامها بطريقة سليمة.
(وهذه المبادئ اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين
المعقود في ميلانو من 26 آب/أغسطس إلى 6 أيلول/ديسمبر 1985)
ولكن كل هذا الكلام والنصوص والقرارات والمبادئ لابد أن تكون واقعا ملموسا , فهل هي كذلك؟!
خاصة في ظل ما حدث قريبا من تعديلات في القانون المصري؟
فقد ورد مقال تم نشره في موقع منظمة العفو الدولية بعنوان “قانون جديد يهدد استقلال القضاء في مصر”27 نيسان / أبريل 2017
وقالت فيه نجية بو نعيم، مديرة الحملات لشمال إفريقيا في مكتب تونس الإقليمي لمنظمة العفو الدولية، “إن من شأن هذا القانون أن يقوِّض استقلال القضاء، الذي يتعرض بالفعل لحصار، في مصر. وإذا ما صدق عليه رئيس الجمهورية، فسوف يكون عقبة كبيرة للعدالة في مصر، حيث سيمنح هذا القانون الرئيس المصري صلاحية اختيار رؤساء الهيئات القضائية الرئيسية في البلاد، وقد يضعف إجراءات الرقابة والتوازنات في نظام يتسم بالجور أصلاً”.
ومضت نجية بو نعيم قائلةً: “تسعى الدولة، من خلال هذا القانون، إلى تشديد قبضتها على السلطة، وتحييد اثنتين من أعلى المحاكم كان لهما دور أحياناً في الرقابة على السلطة التنفيذية”.
وهذا التعديل جرى كالاتي:-
النص قبل التعديل “تقوم كل جهة، أو هيئة قضائية على شئونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة، يناقشها مجلس النواب بكامل عناصرها، وتدرج بعد إقرارها في الموازنة العامة للدولة رقماً واحداً، ويؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المنظمة لشئونها”
النص بعد التعديل “تقوم كل جهة، أو هيئة قضائية على شئونها، ويُؤخذ رأيها في مشروعات القوانين المنظمة لشئونها, ويعين رئيس الجمهورية رؤساء الجهات والهيئات القضائية من بين خمسة ترشحهم مجالسهم العليا من بين أقدم سبعة من نوابهم، وذلك لمدة أربع سنوات، أو للمدة الباقية حتى بلوغه سن التقاعد، أيهما أقرب، ولمرة واحدة طوال مدة عملة، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون, ويقوم على شئونها المُشتركة مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية يرأسه رئيس الجمهورية وعند غيابه يحل محله وزير العدل ويختص بالنظر في شروط تعيين أعضاء الجهات والهيئات القضائية وترقيتهم وندبهم ويُؤخذ رأيه في مشروعات القوانين المنظمة لشئون هذه الجهات والهيئات ويُبين القانون تشكيل المجلس واختصاصاته الأخرى وقواعد سير العمل به”
وتعلل هذا التعديل بالاتي:-
اولا
وضع آلية مُوحدة لتعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية، بدلًا من أن يكون لكل هيئة طريقة تختلف عن الأخرى.
ثانيا
تشكيل مجلس أعلى يضم الجهات والهيئات القضائية، ينظر في الشئون الإدارية المشتركة بينهم، حيث أثبتت التجارب أن الجهات منفصلة عن بعضها، وتحتاج إلى مجلس أعلى يضمهم للنظر في الأمور الإدارية كالترقيات والندب وغير ذلك.
وقد عبر بعض فقهاء القانون والقضاة في مصر عن ترحيبهم بهذه التعديلات منهم:-
المستشار محمد الشناوي، نائب رئيس المحكمة الدستورية السابق، وعضو لجنة الخبراء والصياغة النهائية لدستور 2014:عملت لسنوات طويلة على منصة القضاء، وكان لدي ومازالت، رغبة ملحة في أن يتم تشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية، وتفعيل دوره في التنسيق بين الجهات والهيئات القضائية المختلفة.
لا شُبهة في تولي رئيس الجمهورية رئاسة المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، فهو يترأس المجلس هنا باعتباره رئيس الدولة، فهو يرأس السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
المجلس دوره إداري، ينظر في الأمور والشئون الإدارية المتعلقة بالتعيينات والندب، وغير ذلك، وليس له أية علاقة بالعمل القضائي.
الدكتور محمد باهي أبو يونس أستاذ القانون الدستوري، وعميد كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية السابق:
لا غضاضة في أن يعين رئيس الجمهورية رؤساء الجهات والهيئات القضائية، وهذا دوره الحقيقي والفعلي باعتباره حكمًا بين السلطات.
الدكتور علي عبد العال، رئيس مجلس النواب:
استقلال القضاء ضمانة للحكام والمحكوم، ولا يمكن أن يمس استقلال القضاء طبقًا للمعايير العالمية.
المستشار أحمد حسن بنداري، مستشار بمحكمة استئناف الإسكندرية:
المجلس الأعلى للهيئات القضائي سيقوم بدور محمود، فبدلا من أن تكون الهيئات القضائية منعزلة، يجب توحيد الأمر بيننا، وعلى ضوء ذلك نستطيع اتخاذ قرارات سليمة.(نقلا عن اليوم السابع بتاريخ السبت، 06 أبريل 2019 12:29 ص)
ونحن نامل في ان نرى هذه الاستقلالية واقعا ملموسا بيننا.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى