إبداع البيئة القانونية في الأزمات … الوساطة نموذجاً

بقلم: محمد محمود عبد الحميد – المحامي بالاستئناف

تحفل البيئة القانونية بحلول وأفكار بل وأعراف وتقاليد، وإن كانت غير مكتوبة، فلا غنى لأي ممارس للقانون عنها وعن معرفتها وعن إتقانها، فهي في حكم المهارات، وبعض هذه التقاليد تعتبر من أصول المهنة وأساسياتها التي تضمن لمهنة المحاماة رسالتها السامية النبيلة .. بل إن البيئة القانونية ما تلبث أن تفرز حلولاً إبداعية كي يُقتبس العمل بها فيتحقق الهدف من حسم منازعة المتنازعين وفض خصومة المتخاصمين .. ومما أبدعته البيئة القانونية، وعرفته الأمم منذ عهد بعيد، هو الوساطة كأسلوب لتسوية المنازعات ورد الحقوق لأصحابها بعيداً عن ساحات القضاء، وبعيداً عن تغريم كل طرف رسوماً ومصاريف، وبعيداً عن ما قد يسود أجواء الخصومة من عنت ولدد ونزاعات شخصية يحاول أطرافها ترجمتها إلى نزاعات قانونية، وهو ما قد يلقي على عاتق القضاه والمحامين عبئاً كبيراً وجهداً جهيداً، في الوقت الذي يمكن فيه حسم تلك الخلافات، وتبديد أجواء النزاعات، وفض ما قد يُثار من إشكاليات بأسلوب الوساطة.

والوساطة هي عملية رضائية في مجملها لتسوية المنازعات، يتولاها وسيط أو أكثر، يتباحث مع الخصوم بشأن كافة جوانب المنازعة، ويخلص من واقع تبادل وجهات النظر أو إبداء المقترحات بين أطراف المنازعة إلى تبني حل وسيط يحظى بموافقة أطراف المنازعة، فتُحسم المنازعة بإبرام عقد تسوية أو عقد صلح يقوم بصياغته الوسيط في ضوء ما أقرّه ووافق عليه أطراف المنازعة، ثم يقوم الأطراف والوسيط بالتوقيع على ذلك العقد، إقراراً من الأطراف وتعهداً منهم بتنفيذ ما انتهى إليه عقد التسوية أو عقد الصلح من بنود.

أما ما تحققه الوساطة من مزايا، فهي تحسم كافة أواصر النزاع، الذي قد يتشعب بين أطرافه، وقد يقع في إختصاص أكثر من محكمة ولائياً أو نوعياً أو قيمياً .. كما أن الوساطة قد تكون الحل الأمثل في حال رغبة أطراف النزاع في استمرار تعاملاتهم، واستمرار علاقتهم سواء كانت علاقة شخصية أو تجارية أو ذات طابع اقتصادي جوهري بالنسبة لهم… وفضلاً عن ذلك، فالوساطة تكفل تسوية النزاعات في قالب سرّي، وهي ميزة جوهرية لهؤلاء الراغبين في النأي بخلافاتهم عن العلانية التي تُعد الأصل في عقد جلسات المحاكم وإبداء المرافعات وفق نص المادة (101) من قانون المرافعات المدنية والتجارية؛ ذلك أن المشرع قرر علانية جلسات المحاكم وعلانية سماع مرافعات الخصوم، ولكنه خرج عن ذلك الأصل العام متى رأت المحكمة المختصة أن تقوم بنظر الدعوى وسماع مرافعات الخصوم بغير علانية، سواء قررت المحكمة ذلك من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب من أحد الخصوم … ولكن ذلك – أي عقد الجلسات بدون علانية – مشروط باستهداف الحفاظ على النظام العام، أو مراعاة الآداب، أو حرمة الأسرة؛ ولا يخفى على القارئ الكريم أن ذلك الاستثناء المقرر للحفاظ على النظام العام، أو مراعاة الآداب، أو حرمة الأسرة، هو استثناء ضيق، لا يُتوسع فيه أو يُقاس عليه؛ ولا يشمل الحفاظ على الأسرار التجارية أو التعاملات الاقتصادية لمتنازعين أمام ساحات القضاء؛ مالم تكن تلك الأسرار التجارية أو التعاملات الاقتصادية تمس النظام العام، كأن تتعلق تلك الأسرار التجارية بجهات أو كيانات أو مشروعات استراتيجية تساهم فيها الدولة، أو تكون تلك الأسرار التجارية متصلة بمعلومات تقنية أو تكنولوجية ذات حساسية معينة، أو تكون متصلة بمشروعات ذات طبيعة خدمية أو ذات أهمية اقتصادية حيوية كأن تتعلق بموارد وثروات البلاد، أو يكون من شأن علانية المنازعة الإضرار بموقف شركة ما والإضرار كذلك بموقف الشركات التابعة أو الحليفة لها في سوق الأوراق المالية، بما قد ينعكس بالسلب على أداء الأسهم المصرية في البورصة بشكل عام والمساس باستثمارات المستثمرين في سوق الأوراق المالية، ولا شك أن الحفاظ على ثبات واستقرار الإقتصاد القومي إنما يصب في صالح النظام العام، ذلك أن إقتصاد الأمم هو حجر الزاوية في تطورها وإزدهارها … الجدير بالذكر أن المادة (101) من قانون المرافعات المدنية والتجارية إنما تمنح المحكمة سلطة تقديرية في عقد الجلسات بدون علانية، فالمحكمة غير ملزمة بإجابة الخصوم إلى ما يطلبون، وتقدير متى اتصال المنازعة بالنظام العام إنما يخضع لمطلق تقدير المحكمة المختصة بنظر الدعوى.

ومن هنا، لجأت بعض الكيانات الاقتصادية إلى التحكيم لتسوية وحسم منازعاتها بعيداً عن ساحات القضاء، وللحفاظ على سرية تعاملاتها التجارية، ورغم أن قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 لم ينص صراحة على سرية إجراءات التحكيم، فإن المادة (44/2) قد نصت على أنه “لا يجوز نشر حكم التحكيم أو نشر أجزاء منه إلا بموافقة طرفي التحكيم.” وهذا النص لا ينبغي تفسيره تفسيراً ضيقاً مقتصراً على حكم التحكيم المنهي للخصومة وحسب، بل يتسع من ناحية ليشمل أحكام التحكيم التمهيدية أو الوقتية أو تلك المنهية للخصومة.
ومن ناحية أخرى فإن الفقه يرى أن سرية إجراءات التحكيم إنما يتفق مع التنظيم القانوني للتحكيم في القانون المصري، كما يتفق مع آلية مباشرة التحكيم من الناحية العملية والتي لا يُسمح فيها بحضور أحد إلا هيئة التحكيم وأطراف المنازعة أو محاميهم فقط. – التحكيم التجاري الداخلي والدولي دراسة قانونية مقارنة، الأستاذ الدكتور/ محمود سمير الشرقاوي، دار النهضة العربية، طبعة 2016، صفحة (269، 282، 283، 433)
على أي حال فإن سرية حكم التحكيم وإجراءاته مهددة إذا أقام أحد أطراف القضية التحكيمية دعوى بإبطال حكم التحكيم وفقاً لنص المادتين (53)، (54) من قانون التحكيم رقم 27 لسنة 1994، فدعوى البطلان تتداولها المحاكم المختصة وفقاً لنص المادة (101) من قانون المرافعات المدنية والتجارية.

إن الظروف الحالية التي أسفر عنها تفشي وباء فيروس كورونا المستجد، ألقى بتحديات على المتقاضين وعلى الأطراف المتنازعة .. ولقد بذل القائمون على المراكز التحكيمية – وحسناً فعلوا – جهداً موفوراً في تنظيم التحكيم إما عن بعد بالوسائل الالكترونية أو بما يوفر إتباع الإجراءات الاحترازية والوقائية.

ولكن البيئة القانونية تذخر بحلول لا بد من استدعائها وخلق البيئة التشريعية المناسبة كي تؤتي بثمارها ليس فقط في أوقات الأزمات، بل في كل وقت يمكن فيه استخدام تلك الحلول واستثمارها. إن الوساطة ليست فكرة مستحدثة، بل هي جزء من التراث القانوني والثقافي للأمم، فكم من منازعة قديماً أو حديثاً إنما حُسمت رضائياً بالوساطة دون أي تدخل قضائي أو تحكيمي، ودون صدور أحكام ملزمة، أو مباشرة إجراءات التنفيذ الجبري في مواجهة أحد أطراف المنازعة.

إن الوساطة ليست حل اقتصادياً من شأنه توفر الوقت والجهد وحسب، بل يمكن للوساطة حل مسائل لا يمكن للقضاء أو التحكيم حسمها، كالالتزامات المستقبلية، أو استصدار تعهد أو إقرار من أحد أطراف المنازعة لصالح الطرف الآخر، أو إعلان أحد الأطراف بالتزامه بالامتناع عن عمل ما.. فيمكن في المنازعات الخاصة بعقود التوزيع والوكالات التجارية الحصول على تعهدات أو إقرارات أو تنازلات لضمان عدم المساس بحقوق الملكية الفكرية والعلامات التجارية الخاصة بالموكل، وقد يتنازل الموزع بموجب الوساطة عن أي طلبات أو إجراءات قد سبق له مباشرتها ويكون من شأنها المساس بحقوق الملكية الفكرية أو العلامات التجارية الخاصة بالموكل؛ كما يمكن للشركات المتنافسة على تقديم سلعة أو خدمة معينة التوصل من خلال الوساطة إلى الاتفاق على التزامهم بممارسات معينة بما يكفل حرية وعدالة المنافسة وعدم وجود أية ممارسات احتكارية؛ وفي المنازعات التكنولوجية يمكن الاتفاق على تبادل أمور قانونية وتقنية وبيانات ومعلومات معينة مع الحفاظ على سريتها، أو استكمال الالتزامات التقنية لكلا الطرفين مع إعادة دراسة الأمور الزمنية والمالية؛ ويمكن في منازعات التشييد التوصل من خلال الوساطة إلى إصدار المستخلصات المالية المعلّقة في وقت معين يتعهد خلاله الطرف الآخر (المقاول أو المهندس الاستشاري) باستيفاء التحفظات والملاحظات المتعلقة بالعمل، أو يتم الاتفاق على التنازل عن جزء من التحفظات واستيفاء الباقي في خلال أجل معين نظير الحصول على دفعات مالية معينة؛ كما تلعب الوساطة دوراً بارزاً في تحمل الخسائر بِنِسب معينة في عقود النقل البحري نتيجة حصول حوادث لادخل للأطراف في حصولها، ومن تلك الخسائر ما تكبدته بعض شركات النقل مؤخراً من زيادة تكلفة الوقود وزيادة تكلفة تشغيل السفن المبحرة نتيجة صدور قرارات مفاجئة بغلق بعض الموانئ أو تنظيم ساعات العمل بها على نحو أقل من المعتاد، بما ترتب عليه تأخير في تفريغ حمولة تلك السفن وتأخير في توصيل الشحنات عن المواعيد المتفق عليها؛ وفي عقود إيجار العقارات المؤجرة لغرض تجاري يُمكن للوسيط التفاوض مع المستأجر والمالك بما يكفل حصول المالك على الأجرة إما بشكل مُخفض بما يتناسب مع تخفيض ساعات عمل المحال التجارية في ضوء حظر التجوال المفروض من الدولة، أو بترحيل جزء من الأجرة المستحقة على الأشهر القادمة، أو بتعديل مواعيد استحقاق الأجرة ومقدارها طوال فترة قيام حالة الغلق الكلي أو المؤقت للمحال التجارية … بل قد يصل الحد إلى إعتبار عقد التسوية الناتج عن الوساطة بمثابة تعديل لعقد الالتزام الأصلي.. و هذه الأمور إنما تصنعها إرادة الأطراف بالتعاون مع الوسيط … فالوسيط وحده لا يصنعها، ولا يكفل تنفيذها، بل إن الوسيط يعمل مع أطراف النزاع جنباً إلى جنب… فإذا غاب اتفاق الأطراف، لا يمكن للقضاء أو التحكيم أن يعدل التزام الأطراف أو ينقص منه أو يزيد فيه – إلا في الأحوال التي قررها القانون المدني على سبيل الاستثناء في المواد (129/1)، (147/2)، (148/2) – لخروج هذه الأمور عن سلطان القضاء والتحكيم إعمالاً لمبدأ سلطان الإرادة في إنشاء وتعديل الالتزامات.

ورغم الدور البارز الذي تلعبه الوساطة، وما قد تسفر عنه من نتائج مثمرة لأطراف النزاع، فإن المشرع المصري لم يضع حتى الآن قالب تشريعي يتفق مع فلسفة الوساطة بما يمكن معه للوساطة أن تُؤتي بثمارها، وإن وجود مثل هذا القالب التشريعي، من شأنه إضفاء فعالية ومصداقية لدور الوساطة، كما أن من شأنه إضفاء قوة إلزامية لعقد التسوية أو الصلح الذي أسفرت عنه الوساطة.

تجدر الإشارة، بأن المشرع قد تبنى فكرة التسوية الودية للنزاع في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من موضع، ليجعل من شأنها إنهاء دابر النزاع وإضفاء قوة السند التنفيذي على عقد الصلح أو التسوية.. فتضمنت المادة (103) من قانون المرافعات، والمادة (41) من قانون التحكيم، منح الأطراف في أن يطلبوا من المحكمة أو هيئة التحكيم إثبات ما اتفقوا عليه من تسوية أو صلح، وحينئذ قرر القانون إضفاء قوة السند التنفيذي على ذلك الاتفاق الذي تضمن التسوية أو الصلح… هذان النصان يكشفان عن رغبة المشرع في تشجيع المتقاضين والمتحاكمين بأن يلعبوا دوراً أكثر إيجابية؛ فإذا كان بمقدور أطراف النزاع حسمه وتسويته .. فلمَ لا.

وإذا كان أطراف النزاع قد استبدت بهم مشاعر الخصومة، فإن دور الوسيط يكون ضرورياً لوضع الأمور في نصابها بهدوء وروية وموضوعية، التماساً لحل موضوعي للنزاع القائم بين الأطراف.

وعلى صعيد آخر، فإن المشرع في القانون رقم 7 لسنة 2007 قد استلزم من المتقاضين – سواءً كانوا أفراداً أو أشخاص اعتبارية خاصة – أن يلجأوا إلى لجان التوفيق في المنازعات المعنية قبيل إقامة دعواهم ضد الجهات الإدارية لدى مجلس الدولة. ولا شك أن حكمة المشرع كانت واضحة في سنّ ذلك التشريع الذي استهدف حسم المنازعات التي تكون الأشخاص الاعتبارية العامة طرفاً فيها وذلك في مرحلة سابقة على اللجوء إلى القضاء، بل إن المستقرىء للتشريع يدرك الحكمة التشريعية التي تسعى إلى تسوية المنازعات مع الجهات الإدارية بحيث يكون للقاضي أو القضاة أعضاء لجنة التوفيق في المنازعات صلاحيات مباشرة في مباشرة التسوية الودية وإقرارها وإنفاذها، فتتحقق مصالح المتقاضين ومصالح الجهة الإدارية بتسوية النزاع بشكل مباشر قبل عرضه على قضاء مجلس الدولة. غير أن الحكمة التشريعية والغاية النبيلة التي استهدفها المشرع، لم تتحقق، حيث أن المشاهد هو إمتناع ممثلو الجهات الإدارية عن تسوية المنازعات من خلال لجنة التوفيق في المنازعات – حتى وإن خلت المنازعة من أي نزاع حقيقي يُذكر كالدعاوى التي يقيمها الموظفون العمومين للمطالبة بالمقابل النقدي المستحق عن رصيد إجازاتهم التي لم يحصلوا عليها طوال مدة خدمتهم، فمثل هذه الدعاوى لا يجب أن تزدحم بها المحاكم الإدارية سيما وأن الجهات الإدارية بمقدورها حسم تلك المطالبات دون أن يضطر صاحب الشأن للجوء للقضاء، بل إن قيام الجهة الإدارية بحسم وتسوية تلك المطالبات من شأنه إزاحة آلاف القضايا عن كاهل القضاء – بل نكاد نقول أن القانون رقم 7 لسنة 2000 أصبح سيفاً مُسَلّطاً على رقاب أي متقاضي إذا ما لجأ إلى قضاء مجلس الدولة دون أن يعرض دعواه على لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، ليكون مصير دعواه هو عدم القبول بنص القانون (م11)، وهو أمر قد تدفع به الجهة الإدارية وقد تثيره المحكمة الإدارية المختصة من تلقاء نفسها … فإذا ما لجأ المتقاضي إلى لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، لم يحصل على أي نتيجة .. فأصبح على عاتق المتقاضي ومحاميه تحضير ملف الدعوى مرتين.. مرة أمام لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، ومرة أمام قضاء مجلس الدولة …. وهنا نرى أن الغاية التي استهدفها المشرع كي تلعب لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية دوراً توفيقياً وسيطاً لم يتحقق. وهذا الوضع يجدر بالمشرع تداركه، ليكون لزاماً على عاتق الجهة الإدارية مناقشة الدعوى بكافة جوانبها بشكل موضوعي والاستجابة بشكل أكثر جدية لمساعي الوساطة والتوفيق التي تباشرها لجنة التوفيق في المنازعات الإدارية، تحقيقاً للحكمة التي قصدها المشرع من وضع القانون رقم 7 لسنة 2007.

وعلى صعيد ثالث وآخير، فإن المشرع المصري قد حاول على استحياء الأخذ بالوساطة عبر استحداثه لنظام قاضي التحضير أو هيئة التحضير لدى المحاكم الاقتصادية بموجب المادة (8) من القانون رقم 120 لسنة 2008، حيث منح المشرع هيئة التحضير صلاحية “بذل محاولات الصلح، وعرضه على الخصوم”، فإذا ما تم الصلح، يتم تطبيق أحكام المادة (103) من قانون المرافعات المدنية والتجارية. وهنا تتجلى لنا حكمة المشرع، ولكن المشرع ذاته لم يضع ضمانات وضوابط لمباشرة عملية الصلح أو الوساطة أو التوفيق، كما لم يُفسح المجال أمام هيئة التحضير لتحقق مقصد المشرع؛ بل إنه من النادر قيام أطراف النزاع أو ممثلوهم بتبادل مسودات لعقود تسوية أو عقود صلح أمام هيئة التحضير ؛ وهو ما حدا بلفيف من الفقهاء والقضاة أن يفصحوا بأن: “نظام قاضي التحضير في صورة هيئة التحضير لن يؤدي فقط إلى مزيد من تعطيل الفصل في الدعاوى، بل إلى تعقيد الإجراءات وإضاعة وقت القضاه وجهدهم دون فائدة.” – مُشار إليه في “قانون المحاكم الإقتصادية القواعد الخاصة للإختصاص والإجراءات” للأستاذ الدكتور/ فتحي والي، كتاب الأهرام الإقتصادي، العدد 254، صفحة (20).

ومن جماع ما سبق، نجد أن لابد للمشرع المصري أن يقوم بسن قانون للوساطة، ويضع قالب تشريعي تتم الوساطة في إطاره، ويحدد ما يجب على أطراف النزاع والوسيط إتخاذه لاعتماد اتفاق الوساطة وتوثيقه وإضفاء قوة السند التنفيذي عليه، عملاً بالصلح الذي ينتهي إليه الأطراف أمام القضاء وفق المادة (103) من قانون المرافعات، أو أمام هيئة التحكيم وفق المادة (41) من قانون التحكيم؛ وفي هذا الصدد نجد أن البرلمان المصري كان بصدد مناقشة مشروع قانون تنظيم إجراءات الوساطة الاتفاقية، وحسناً فعل بالتمهل في إصداره، لأن الصيغة المقترحة كان يغلب عليها طابع الخصومة والتخاصم، وهو ما يجب تلافيه عند تقنين الوساطة التي لا يتم اللجوء إليها إلا لنزع أجواء التشاحن بين أطراف النزاع، التماساً لحل ذلك النزاع. إن البين من مشروع القانون هو استحداثه لنوعين من الوساطة أحدهما وساطة “اتفاقية” تتم مباشرته من وسيط “خاص” يتم الاتفاق عليه من الأطراف سواء دون إقامة أي نزاع منهم أمام القضاء، أو سواء قبل أو إثناء إقامة النزاع أمام جهات القضاء .. ووسيط “قضائي”، وهو قاضي بإدارة الوساطة في كل محكمة ابتدائية أو اقتصادية بحيث يُحال إليه – تلقائياً – أي نزاع متى زادت قيمته على مائة ألف جنيه أو كان النزاع غير مقدر القيمة.
ومن الإنصاف القول، أن ملامح المشروع النهائية لم تتضح بعد، ولكن الوساطة “القضائية” قد تعد إفتئاتاً على إرداة الخصوم الراغبين في الحصول على حكم قضائي يقرر لهم حقاً أو تعويضاً أو يمنع عنهم ضرراً أو خطراً، فلا يجوز فرض عملية الوساطة على أحد أطراف النزاع، فالوساطة فالأصل رضائية، ولا يجوز نزع تلك الصفة عنها تحت أي مسمى أو غاية، ولكي تحقق الوساطة “القضائية” غايتها، يجب تخيير المتقاضين أثناء رفع الدعوى عن مدى قبولهم لإحالة دعواهم للوساطة “القضائية” من عدمه، فإذا أفصح أطراف النزاع أو أحدهم عن عدم رغبته في سلوك طريق الوساطة “القضائية”، فلا يجب أن تُحال الدعوى تلقائياً إلى إدارة الوساطة، بل يجب أن تسلك الدعوى مسارها الطبيعي أمام القضاء.
أيضاً من الملاحظ أن المشروع أمعن في حيدة الوسيط واستقلاليته عن الأطراف، وقرر عقوبات وغرامات مالية في حال عدم حيادية الوسيط أو استقلاليته؛ وهنا نرى أن المشرع قد تداخل عليه الأمر بين الوسيط وبين المحكم، فالمحكم يجب عليه أن يكون محايداً ومستقلاً عن أطراف النزاع، لأنه المحكم يصدر حكماً في النزاع، وقد يكون ذلك الحكم على غير إرادة أحد أطراف النزاع أو على غير إرادة كافة أطراف النزاع، فالمحكم لا ينشيء محادثات أو إجتماعات مباشرة مع أحد الخصوم، ولا ينفرد بأحد الخصوم، بل يستمع لكافة الخصوم على قدم المساواة بما يحقق كفالة حقوق الدفاع لأطراف النزاع.. أما الوسيط فهو يعمل مع الأطراف جنباً إلى جنب لتسوية النزاع بشكل أكثر مرونة، ودون التقيد بقوالب إجرائية معينة، فإذا كان الوسيط ذو علاقة طيبة بالأطراف، يحظى بقبول كافة أطراف النزاع، كان ذلك سبيله في إرساء روح التفاهم التي تستهدف تسوية النزاع القائم؛ وهذه العلاقة الطيبة قد تنبع من علاقة شخصية أو زمالة أو علاقة عمل أو علاقة تجارية أو شراكة إقتصادية ما… إن حيادية الوسيط واستقلاليته عن أطراف النزاع أو عن أحدهما لا يجب أن تكون شرطاً لازماً لإجراء الوساطة، ولكن نزاهة الوسيط يجب أن تتوافر على الدوام… وفي نهاية المطاف لا يستطيع الوسيط التوصل إلى حل ما إلا بموافقة كافة أطراف النزاع عليه.
ومما نقترحه في هذا الصدد، أن يقوم أطراف النزاع أو ممثليهم مع الوسيط مجتمعين بإثبات نسخة من الاتفاق الذي قد يتوصلوا إليه لدى إدارة الوساطة التي سيتم إنشائها لدى كل محكمة ابتدائية أو اقتصادية كي يكون لذلك الاتفاق قوة السند التنفيذي؛ وألا يُكتفى بحضور بأحد الأطراف فقط لدى إدارة الوساطة.
سوف نترقب ببالغ الصبر الصيغة النهائية لمشروع قانون تنظيم إجراءات الوساطة الاتفاقية، وحينئذ سيكون لكل حادث حديث.
وحتى ذلك الحين، فإننا ندعو المشرع المصري ليس فقط إلى إضفاء قدر من المرونة على تشريع الوساطة، بل إلى ترسيخ وتعميق ثقافة الوساطة بما يتفق مع فلسفة الوساطة كأسلوب رضائي من أساليب تسوية المنازعات.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى