أهم (100) قاعدة وضابط في “فن التفسير القانوني” [4]

الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.

للتفسير القانوني سلفٌ سابقٌ ألا وهم الأصوليون من علماء الشريعة الإسلامية؛ إذ ابتكروا “علم أصول الفقه” واختصوه بقسم عريض من القواعد الأصولية للقيام على فهم النصوص القرآنية ونصوص السنة النبوية المشرفة وعلى تفسيرها واستنباط الأحكام منها، وأهم هذه القواعد كانت طائفة “القواعد الأصولية اللغوية”، ثم القواعد الأصولية المنطقية، ثم القواعد الأصولية الشرعية وهي تتظافر فيما بينها للعمل على فهم النصوص الشرعية وتفسيرها على وجهها الصحيح صعودا إلى استنباط الأحكام منها وغف مراد الشارع.

وقد استقصى علماءُ الأصول علومَ اللغة العربية كافة وقواعدها وسننها وطرائق إيرادها للوقوف على كل ما يلزم فهم النص الشرعي واستخراج دلالته والوقوف على مقاصد الشرع فيه ، وهو ما هيأ للقانونيين أن يستنُّوا بهم وأن يعتمدوا طرائقهم فيما يتعلق بالنصوص التشريعية الوضعية، وبناء على ذلك تأتي هذه القاعدة السادسة المهمة على النحو التالي:

يُعتدُّ بــ”القواعد الأصوليِّة اللُّغوية” باعتبارها قواعدَ أساسيَّة ومعاييرَ موضوعية في فهم النصوص التشريعية وكشفِ دلالاتها واستخراجِ أحكامها وفقًا لمقاصد المشرِّع منها.

إرشادات القاعدة وضوابطها:

الضابط الأول: تتعدد القواعد الأصولية غير أن أهمها هو “القواعد الأصولية اللغوية” المناسبة لفهم النصوص التشريعية وتفسيرها.

الضابط الثاني: يُعتدُّ بــ”القواعد الأصولية المنطقية” أيضا ، باعتبارها ضوابط عقلية للفهم والتفسير واستخراج الأحكام من نصوصها.

الضابط الثالث: تنقسم دلالة النص القانوني التشريعية إلى دلالة منطوق ومفهوم ويجري عليهما ما يجري على النصوص الشرعية من ضوابط وتنظيمات.

وهذه نبذة عن القواعد الأصولية اللغوية

اهتم علماء أصول الفقه بالمباحث الدلالية لأهميتها لاستنتاج الأحكام الشرعية من النصوص الدينية. لذا نجدهم في كتبهم يعالجون مسائل العلاقة بين اللفظ والمعنى، والحقيقة والمجاز، والاشتراك اللفظي والترادف، والعام والخاص وغير ذلك. كذلك نجدهم يستعرضون أنواع الدلالات: اللغوية وغير اللغوية. ونراهم كذلك يقسمون طرق الدلالة اللغوية إلى:

الطريق الأول: دلالة المنطوق: هي دلالة اللفظ على حكم ذكر في الكلام ونطق به.

أما عن أنواعها فهي:

أ- دلالة المطابقة ومن أمثلتها من النصوص قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة:257]، حيث دلت العبارة بمنطوقها على تحليل البيع وتحريم الربا. وهي دلالة اللفظ على تمام معناه

 ب- دلالة التضمن مثالها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة:7]. إذ هنا يدخل لحاجبان والعينان والأنف والشفتان والذقن…ضمن معنى (وجه) الجبهة ، وكما يلاحظ فإن دلالة اللفظ هنا إنما هي دلالة على جزء معناه .

 ج- دلالة الالتزام : دلالة اللفظ على لازم خارج معناه مثل قولك “سقف” يقتضي بالضرورة حائط (جدار) فهو لا يتصور إلا به، وكذلك قولك هذا ابني فهو يقتضي بالضرورة أني أكبر منه سنا وهكذا.

الطريق الثاني: دلالة المفهوم

هي دلالة اللفظ على حكم (مفهوم) لم يذكر في الكلام بلفظه ولم ينطق به صراحة.

وهي تنقسم إلى:

(أ) مفهوم الموافقة: وهي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه لاشتراكهما في معنى يُدرك بمجرد معرفة اللغة، وهي نوعان:

(1) فحوى الخطاب: وهو إذا كان المسكوت عنه أقوى في الحكم من المنطوق به، في مثل قوله تعالى في شأن الوالدين: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء:24]، ففحوى الخطاب هنا هو النهي عن الإيذاء بالضرب أو الشتم أو السخرية، وهذه الأمور أقوى في التحريم من كلمة التضجر (أف).

وكذلك قوله تعالى في شأن بيان المحرمات من النساء (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ) [النساء:23]، فالنص يدل على حرمة الزواج ممن ذكرن لعلة النسب القوي، ويدل فحواه على تحريم أخريات لم يُذكرن لأنهن أقوى في النسب ممن ذُكرن؛ فيحرم الزواج من الجدات لأنه ذكر من هن أقل منهن كالخالات والعمات، وكذلك يدل بفحواه على تحريم الزواج من بنت الابن وبنت البنت لأنه حرم من هن أقل منهن في علة الحكم وهن بنات الأخ وبنات الأخت.

(2) لحن الخطاب: وهو إذا كان المسكوت عنه مساويا في الحكم للمنطوق به، في مثل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)، الذي يفيد أيضا حرمة إحراق أموال اليتيم أو إتلافها أو تبذيرها عليه أو على غيره، وفي مثل قوله تعالى: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) [النساء:92] فإنّ تقييد القتل بالخطأ في إيجاب الكفارة يدل على أن إيجابها في العمد أولى.

(ب) مفهوم المخالفة: دلالة اللفظ على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه لانتفاء قيد من القيود المعتبرة، وهو أنواع:

(1) مفهوم الصفة، وهو دلالة اللفظ المقيد الحكم بوصف على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الوصف، في مثل قوله صلى الله عليه وسلم (في سائمة الغنم زكاة)، فالحكم المستفاد عن طريق المخالفة: أن غير السائمة لا زكاة فيها.

(2) مفهوم الشرط، وهو دلالة اللفظ المقيد الحكم فيه بشرط على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الشرط، في مثل قوله تعالى: (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:6]، فالحكم المستفاد عن طريق المخالفة أن المطلقة غير الحامل لا نفقة لها.

(3) مفهوم الغاية، وهو دلالة اللفظ المقيد الحكم فيه بغاية على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه بعد تلك الغاية. والغاية إما زمانية، في مثل قوله تعالى: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة:187]، الذي يفيد بالمخالفة أنه لا يجوز الأكل والشرب في رمضان بعد الفجر، أو غاية مكانية في مثل قوله تعالى: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة:6] الذي يفيد أنه لا يجوز غسل ما وراء المرفق من اليد في الوضوء.[ انظر موقع الألوكة، وموقع جامعة الملك عبد العزيز على الشابكة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية ، وانظر للتفصيل دراستنا النظرية العامة للغة القانونية ص 377 وما بعدها ، كلية الشريعة والقانون – IUM 2021]

تذكير بالقواعد السابقة في المقالات السالفة:

القاعدة الأولى:

تتعدد النصوص التشريعية وتتنوع الأوراق القانونية ذات الحاجة إلى الفهم العميق والتفسير القانوني الدقيق.

القاعدة الثانية:

اتصال المفسر بالنص القانوني المراد تفسيره اتصالا صحيحا يؤدي إلى نتائج دلالية قانونية صحيحة.

القاعدة الثالثة:

اقرأ النص القانوني المراد تفسيره قراءة جيدة ومتعددة، فعلى قدر قراءتك وتمعنك تبسط نفوذك وتمكنك إلى جوهر النص.

القاعدة الرابعة :

يتكون النص القانوني –مثل أي نص آخر – من مفردات ومركبات وجمل وفقرات وعبارات، ومدلوله هو جملة مدلولاتها بروابطها وتفاعلها ومقتضياتها اللازمة.

القاعدة الخامسة

[تعدُّ لغةُ النص القانوني –محلَّ التفسير- المدخلَ الوجوبيَّ الأوَّلَ للوقوفِ على فَهْمِه وتفْسيرهِ واستنْباطِ أَحْكامِه].

وأهم إرشادات هذه القاعدة وضوابطها هي :

  • الإرشاد الأول: جهِّز حقيبتك اللُّغويَّة أوَّلا في كلِّ عملية فهم للنصوص والأوراق القانونية .
  • الإرشاد الثاني: تتكامل الحقيبةُ اللُّغويَّة مع الحقيبة القانونية في عمليات فهم مدلولات الألفاظ اللُّغويَّة ومفهوماتها القانونية في تراكيب وتكامل معا.
  • الإرشاد الثالث: عند تفسير النصوص التشريعية ينبغي اصطحاب المداخل الأصولية حيث القواعد الأصولية اللُّغويَّة والمداخل المنطقية.
  • الإرشاد الرابع: ابْدأ أولا بإعمال أدواتك اللُّغويَّة في فهم دلالة الألفاظ الوضعية ثم ضمِّها للدلالة الاصطلاحية القانونية، ثم تغليقها بدلالتها السياقية كما وردت في النص.
  • الإرشاد الخامس: التفسير القانوني هو ناتج الفهم الصحيح للنصِّ وهو مجموع معانيه اللُّغويَّة ودلالاته القانونية وسياقاته الوظيفية.

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى