لغة المحاميـن (لغة الدفع والدفاع والحماية )(2)

بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

نعم لغةُ المحامين هي أقربُ اللغات إلى خاصَّةٍ الناس وعامَّتِهم، فما من أحدٍ إلا وهو رهْنُ الوقوع في الخطأ عن عمْدٍ أو سهْوٍ، أو رهنُ وقوعِ الخطأ عليه بمثلِ ذلك، ومِن ثمَّ تتجلَّى له لغةُ المحامين بصوتها الحاني وعونها الحامي …حمايةً له ودفعًا عنه!!!

فهي صوتُ  الحماية  وصيحةُ الإغاثة ، وصرخةُ الدفاع عن المظلومين وذوي الحقوق بين يدي سلطات الاستدلال وسلطات التحقيق  وسلطات الحكم وسلطات تنفيذ العقاب.!

ولله ما أشدَّ ما يكون عليه  وفيه  هذا المتهم، أو ذلك المشتبه به، أو المشكو في حقه.!

ولله ما يحيط به من كرب وهم وغم وأهوال، ولسان حاله يقول:

فلو كان سهما واحدا لاتقيته، ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ.

ويقول :

رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتى، فؤادي في غِشاءٍ من نبالِ.

فصرتُ إذا اصبتني سهامٌ، تكسرتُ النِّصالُ على النِّصالِ.

سهام ورماح وأنصال ومقاصل وأهوال من استدلالات وتحقيقات ومحاكمة، تحيط به وتحوطه.

1- سلطات الاستدلال برتبهم وأصفادهم.

2- سهام  سلطات التحقيق بقراراتهم وكيفية تصرفهم في التحقيق الذي بين أيديهم إما بالإحالة أو بالحفظ …أو بألا وجه لإقامة الدعوى!

3- سهام المحاكمة وهي أقوى السهام النافذة، الذي لا معقب عليها ولا  صوت يردها  إلا صوت واحد …صوتٌ شريكٌ لصوت القضاة في كشف الحقيقة وفي إنفاذ حكم العدالة.

ألا وهو صوت ( المحامي ) المدافع الحاني بمنطقه  المانع الحامي، صوت فريد وحيد يئن لأنين كل مظلوم … ويتجاوب مع صرحة كل مكلوم !

فإن نفذت كل السهام وحاق بالمحكوم العقاب، ووأغلقت عليه حدران السجون، ونفذه سهمُ  سلطات العقاب …ذلك السهم المؤلم الموجع، سالب الحريات، وكاسر الفرحات.!

هل فات الأوان ؟

هل حاق بالمحكوم عليه الحرمان ؟!

لا ثم لا !!

فمهما كان المحكوم عليه في الحجز أو في الحبس، أو في السجن، لا ولم ولن ينقطع صوتُ الدفاع عن حمايته وفدايته، فهو رفيق المحكوم ، وملازمه فلا يعدمه ولن يحرمه … يحنو عليه ويسال عنه، ويطلب حقوقه.

وقد سطرت نصوص الدستور هذا جليا …مثبتة لحق الدفاع، وحق كل محكوم في الاتصال بمحاميه والانفراد به، والمرافعة عنه، وحضور التحقيق معه إلى غير ذلك من حقوق!

فالمحاماة بعدتها وأدواتها وآلاتها وعلى رأس تلك الأدوات …أدواتهم اللغوية ومكاتيبهم القانونية، بما تحمله من

أ-تقرير .

ب-تعبير.

 ج-تأثير.

هي الحماء والفداء لهؤلاء المحكومين  بمنطقهم القوي  ولغتهم  المضيئة قبسا تنير دروب العدالة حين تخلتط سبلها، وتهدي قصد سبيلها حين يستشكل على القضاة مسالكها!.

وهي لغة الحماية والصون والرعاية  في حضرة التحقيق والتدقيق والاستخبار حين وهن المتهم ووقوعه رهين التحقيق بين فريق المحققين والمدعين.

ومما سبق يمكن لنا التعرف على لغة الدفع والدفاع ولغة السادة المحامين عن قرب … وتعريفها إجرائيا بأنها :” ذلك البنيان اللغوي ذو  المضمون القانوني والهدف الدفاعي  التي يستعملها السادة المحامون في أداء رسالاتهم والقيام بأعمالهم ” .

والبنيان اللغوي كلمة متسعة ذات رحابة بحيث إنها:

أولا:  تشمل بنيان كل لغات القانون بما فيها لغة النص القانوني … تلك اللغة الجامدة، فلغة الدفاع تتعامل معها وتتناولها تحليلا وتأويلا ، ونصا في مفرداتها الدفاعية في جميع المواقف وخاصة في المرافعات، وهي تتناولها في مكتوباتها من طلبات وعقود ووثائق ومذكرات.

وتعد لغة الدفاع  أوسع مجالا وأرحب أسلوبا وأوفر بنيانا من لغة النص تلك  حيث إن قوامها ” النص القانوني ذاته ” سواء كان دستورا أو قانونا أساسيا أو تشريعا عاديا أو لائحة أو قرارا عاما أو مفردا …. وهو نص صارم في لغته ، متميز في أسلوبه ، متكامل في بنيانه ، ذو خصائص وسمات في مفرداته وفي تراكيبه وفي روابطه بداية من وحداته الصغرى إلى وحداته الكبرى انتهاء بروابط تلك الوحدات.

وهو ما يعبر عن الرَّفاعة أو الرِّفْعَة اللغوية ، أو إن شئت فقل الاستعلاء الخطابي ، إذ إنها لغة تقرير على سبيل الجزم ، ولغة طلب على سبيل اللزوم ، ولغة أمر على سبيل السمع والطاعة ، ولغة حسم تعتمد الدلالات المباشرة ، ولغة الاقتضاء العام  فغالب ما يخرج عنها لازم واجب بدلالتيه التضمنية واللزومية ، ثم إنها لغة الوصل والاتصال إذ إنها تتكامل مبانيها وإن اختلف تعداد نصوص قوانينها.

كما أنها تتميز بالتفصيل والاستدراك والتعيين والتحديد مع محافظتها على عمومها وتجردها، إلى غير ذلك من سمات وخصائص.

ثانيا: تتصل بلغة القضاء ، ومقول ومكتوب السادة القضاة .

حيث العلاقة قائمة التفاعل بل دائمة التواصل ما بين لغة الدفاع ولغة الحكم أو ( لغة القضاء ) ،وهي علاقة حتمية ، حيث يعتمد المدافعون عليها سواء في منطوقها أو في حيثياتها للتصرف الدفاعي حيال الأحكام ، إما بالمعارضة أو بالاستئناف أو بالنقض.

ولغة القضاء  هي  تلك اللغة القانونية العميقة ، لغة الفصل والحسم  ، وهي الموقِّعةُ عن العدالة ، وهي لسانُها الناطق ، وهي لغة في جملتها تُعنى بمطابقة النص لوقائعه وإسقاطه على مُتعلقه والوقوف على نماذجه حيث إثبات التأثيم والتجريم ( النموذج القانوني للجريمة) أو رفع ذلك التجريم ورد الفرع إلى أصله في الإباحة والبراءة ؛ لأنها قرينة أصلية لا تثبت بشك ولا تقوم بريبة ولا تَحِيقُ بمظنَّة ، إلا أنْ يقطع ذلك علمٌ قائمٌ ودليلٌ ثابتٌ يتبينُ للقاضي بيانا لا يقبل الرِّيبةَ ولا يظاهره شكٌ …. ولغة الحكم هي عنوان الحقيقة ما استوفت شروطها واستتمت أركانها.

وهي لغة رسمية ، ذات طرز واحد ونسق متماثل، امتدادها من نص القوانين ابتداء ومن إسقاطاته وتكييفاته انتهاء وبين هذا وذاك هي لغة قوامها  قراءة القضاة -بخاصة- لمداولات ومناضلات الخصوم والشهود من متداعين ومتخاصمين ووكلاء ونيابة وخبراء وشهداء.

فهي لغة متعددة المصادر متكاثرة الموارد متنوعة الروافد، ومن هنا يأتي سموُّها وعِظَمُ تأثيرها في المجتمع بجميع طوائفه وفي القطر أجمع، واختلالها يعني اختلال العدالة، وضعفها يعني سقوظ النظام القانوني أجمع، ومن ثم كانت لغة الحسم والقول الفصل.

ولغة الدفاع تحتويها وتستجيب لها، وتدور حولها، وتحلل بنيانها، وتعتمد عليها في دفوعها وفي مرافعتها، وفي إعداد خطط الدفاع انطلاقا عنها.

ثالثا: لغة المحامين تستوعب لغة شراح القانون وأساتذته وفقهاؤه .

نعم  تستوعب لغةُ الدفاع لغةَ الشرح والتفسير، فهي تحتملها وتوظفها في أعمالها الكتابية والشفاهية، بل ويشارك المدافعون في إثراء لغة الشرح تلك والإضافة لها

مع التأكيد على أنها لغة تتعلق بالنص القانوني السابق أيا كان ذلك النص من حيث مدلولاته ودلالاته ومقاصده ومراماته المباشرة والضمنية واللزومية.

وهي مَعنيّة بشرح ذلك النص وتفسيره وتأويله وتوجيهه والتعليق عليه واستخراج مؤداه والوقوف على مغزاه وسائر متعلقات ذلك.

وهذه اللغة التفسيرية الشرحية تتداخل مع لغة الدفاع في أمور كثيرة  من حيث إنها لغة مرنة تعتمد على التقريب والتمثيل والتوضيح والجمع ما بين الإنشاء والتقرير وما بين دقة الربط وقوة الإقناع وشمول التأصيل والإحاطة.

وكذلك فإنها  لغة شارحة فهي تمتاز بالافتراضات والتشبيهات والإسقاطات على الواقع تكيِيفا وتكَيُّفا تفريزا تجنيبا زمانا ومكانا ظرفا وسياقا، ثم إنها لغة متلونة ضمن لونها الأساسي، فهي لغة ماتنة ( من المتن أي صلب النص المشروح ) أحيانا ولغة مفسرة شارحة في أحيان أخرى.

وقد تكون فضفاضة منبسطة في تفصيلاتها ، وقد تأتي مكثفة مركزة حال إجمالها، وهي وإن كانت مقيدة خاضعة في جملتها للنص تدور في فلكه وتسبح في مداره ولا تخرج عن جاذبيته إلا أن لها من التحرر في ذلك الإطار الشيء الكثير والكثير!!. وهذه هي الجوانب التي تشترك فيها لغة الدفاع مع لغة الشرح والتفسير .

 

 

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى