فن التفسير القانوني (بين التنظير والتطبيق ) (2)

الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

أستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة القانون IUM والمحامي.

قولًا واحدًا.. قِوامُه وبيانُه “أنَّ التفسيرَ القانونيَّ هو جوهرةُ عِقْدِ النصوص التشريعية جميعا، فعلى التفسير يعملُ القاضي وبالتفسيرِ تتكشَّفُ المعاني ومن التفسير يبدأُ التطبيقُ الفعلي للقانون. بل يمكننا القول في طمأنينة بأن “نصوص القانون” ما هي إلا عرائس شكلية، وتنظيميات لغوية، وقوالب ميتة لم تدب فيها الحياة بعدُ..! أو قل هي حِلًى عاطلة عن جيد فريد يتحلى بها..!! فإذا وقع التفسير على وجهه وأصاب قصد المشرع ومراده، دبَّت الروحُ في عرائس النصوص، فتكشفت المعاني وتفَكْفَكت عُجْمةُ المباني، وازدانت العدالةً بحُلاها، وتجلَّت الحقوق في سماها، واقتيد للمجني عليه من الجاني، وأمن المجتمع حيث القاصي والداني.

بعد التأصيل الموجز في المقال الأول – فن التفسير القانوني (بين التنظير والتطبيق ) (1)- لا يسعنا إلا الدخول مباشرة إلى فن التفسير القانوني، وفي هذا السبيل جدير بنا التنصيص على أهم المبادئ اللازمة للنهوض بفنيات التفسير على وجهها، ولوضع كل واحد منها في مواضعها، وها نحن أولاء نوردها مبدأً إِثرَ مبدأ في منهجية تراتبية يعبِّر مجموعها عن النسق المنهجي العام لفن التفسير.. ذلك التفسير القانوني الصائب الموافق لغايات القانون ولقواعد اللغة ولمراد المشرع ومقاصده في غير شطط دلالي ولا جفاء منطقي.

المبدأ الأول: لسان النص القانوني معتبر في كل عمليات فهم النشريعات وتفسيرها واستنباط الأحكام منها

إذا كانت الآيات القرآنية فد عينت لسان النص الشرعي، أي: القرآن الكريم بأنه اللسان العربي بقوله تعالى:” إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) ” [الزخرف :3]، فإن التقنينات التشريعية الوضعية قد نصت على لسان نصوصها وأوجبت أن تكون لغة الدولة أجمع هي اللغة العربية ، ونظرا لأهمية هذا المبدأ، فلا مناصَ من التأصيل القانوني الموجز له لأهميته وأهمية ما سوف يبنى عليه على مدار سلسلتنا عن فن التفسير القانوني.

 

لسان النص التشريعي في  “الدستور المصري 2014م”

هذا نموذج تحليلي يتناول الأصل الدستوري للغة التشريعات في الدستوري المصري باعتباره أول وأسبق الدساتير العربية، وعلى منواله يمكن تفهم مسالك باقي الدساتير العربية مع بعض التفاوت من حيث التفاصيل.

ليس يخفى ما للدستور من مكانة وجلالة في الأنظمة القانونية الحديثة والمعاصرة، فالدستور هو عصبها وقطبها التي تدور حولة كافة القوانين واللوائح والأوراق القانونية والقضائية والرسمية وكافة التنظيمات القانونية وذات الصلة بالقانون بلا تنازع، فهو الوثيقة الأسمى التي تحدد شكل الدولة وتنظم العلاقات بين سلطاتها.

وللوقوف على قانونية مسألة ما أو أمر ما لابد من التماس أصل دستور لها يدل عليها ويحدِّد مكانتها وينظمها أو يشير إلى طرائق تنظيمها أو يحيل إلى سبل ذلك التنظيم، وبمراجعة نصوص الدستور الحالي 2014، وما قبله من دساتير 1972م، ودستور 2012م وقفنا على أصول مباشرة يمكن الاستناد إليها والبناء عليها في التأسيس القانوني للغة النصوص التشريعية بل وللغة القانونية في عمومها باعتبارها موجودا قانونيا، ومادة وتنظيما يتصل بالقانون مباشرة ويدخل ضمن حقوله المعرفية وتنظيماته النظرية ومسالكه التطبيقية.

وهذه الأصول تنقسم إلى أصول مباشرة وأصول شبه مباشرة تدلًّ على أصل “اللغة التشريعية” وهي “اللغة العربية التراثية” بل وتشير إليها مباشرة في مواضع وسياقات لها دلالاتها القانونية ومقتضياتها العملية للمخاطبين بها، وهذه نبذة عن تلك الأصول:

الأصول الأولى: الأصول الدستورية المباشرة للغة التشريعات لغة النظام القانوني الوطني:

هناك أصلان مباشران يعتبران قوام اللغة القانونية وأساسها وتعبر عنهما عدة مواد من الدستور في عدة أبواب:

الأصل الأول : الأصل المباشر

يعبر عن هذا الأصل مباشرة المادة (2) في دستور 2014م – وفي دستوري 1972م، 2012م كذلك – من الباب الأول: (الدولة)، ونصها:”الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع“. وهو أقوى نص يتناول اللغة مباشرة ويعينها بأنها “اللغة العربية” وأنها لغة الدولة بمفهومها القانوني، وليس هذا فحسب بل هي لغة الدولة الرسمية.

ولا خلاف أن “الرسمية” صفة وموصوفها هو “اللغة العربية”، والرسمية تحتمل مدلولات كثيرة أبرزها الكتابة والتخطيط والتوجيه على ما ذكر الزمخشري حيث الرسم هو الكتابة بالنقش والنقر، وترسم أي نظر إلى المرسوم، والرسم والترسيم هو التخطيط المكتوب والمخاطبة بأشياء محددة إما بكتاب مكتوب أو مخطط ، قال “رسمت له أن يفعل كذا فارتسمه، وأنا أرتسم مراسمك: لا أتخطاها” [ راجع الزمخشري :” أساس البلاغة (1/ 353)، وانظر كذلك مقاييس اللغة (2/ 393) ، المحكم والمحيط الأعظم (8/ 494).]

وبهذا يمكننا فهم النص الدستوري فيما قرره من رسمية “اللغة العربية” على مستوى الدولة بأنه: (حكم دستوري قاطع وأمر لازم بأنها لغة التقنينات(التشريعات) القانونية ولغة “الخطاب القانوني” ولغة الممارسة و”لغة الخطاب القضائي” ولغة سلطات الحكم ومؤسساتها ولغة الإدارة ولغة خطابها.. وأنها لغة كافة مراسيم الدولة ورسومها التشريعية والقانونية والقضائية والرسمية“، وهو ما تدل عليه دلالة العبارة قطعا وتؤيده دلالة الإشارة، ثم دلالة الدلالة، ثم دلالة الاقتضاء.

1- أما دلالة العبارة فهي مباشرة أن اللغة العربية هي لغة الدولة المباشرة.

2-أما دلالة الإشارة فهي تعني أن هناك مجموعة من القواعد الضوابط اللغوية يجب وضعها واعتبارها في المجتمع القانوني والرسمي بحيث يرجع إليها الموظفون العامون في سلطات الدولة ومؤسساتها.

* وبالدلالة أنه يجب تدريبهم وتمهيرهم على ذلك وحد هذا التمهير الأدنى ليس إلا في مهم اللغة لمهم القانون وهو ما يعبر عن اللغة العربية القانونية.

3- وبالاقتضاء يتوجب أن يكون هناك انشغال فقهي بهذه اللغة العربية القانونية وتنظير لها وتأصيل لمعارفها بما يعود على القانون بنحقيق غاياته ولا تكون هذه اللغة محل الفقه ومحطته إلا اللغة القانونية المتخصصة.

نكمل بإذن الله تعالى في المقال الثالث.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى