صناعة التشريعات الجنائية في عالم متغير.. حقوق المجني عليه

بقلم: الدكتور أحمد عبد الظاهرأستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

في الثالث عشر من مارس 2021م، نشرت بعض الصحف المصرية خبراً عن «فتاة تصور جريمة تحرش بها داخل عربة السيدات بالمترو»، مع فيديو للواقعة (يراجع على سبيل المثال: بوابة جريدة الوطن الإلكترونية، القاهرة، السبت الموافق 13 مارس 2021م).

وتشير تفاصيل الخبر إلى أن فتاة وثقت جريمة التحرش بها داخل عربة السيدات في محطة قباء بالخط الثالث في مترو الأنفاق (العتبة – عدلي منصور)، حيث فوجئت بشاب يجلس على المقعد المقابل لها بالعربة وفتح «سوستة بنطلونه»، وقت وجودها بمفردها بينما كان يجلس في نهاية العربة شابان آخران لم ينتبها لتصرفات المتحرش.

وأظهر الفيديو البالغ مدته 37 ثانية الشاب بشكل تام، وأن الفتاة نجحت في تصويره وقت الجريمة، دون أن ينتبه لها، حيث كان مشغولاً في مراقبة الشابين الجالسين في نهاية العربة. وقد قامت الفتاة بتصوير الفيديو بعد أن اتصلت بخطيبها وأخبرته عن تصرف الشاب المشين ونبهها إلى ضرورة تصويره بالفيديو حتى توثق جريمته.

وتعليقاً على هذه الواقعة، تذكر الصحف أن مصدراً أمنياً قال إن الجريمة ثابتة بالفيديو وأن الفتاة يجب عليها الذهاب إلى شرطة النقل والمواصلات في مترو الأنفاق في المحطة التي حدثت فيها الجريمة وتحرير محضر بالواقعة وتقديم دليل الاتهام وهو الفيديو. وأوضح أن مهمة الشرطة هي ملاحقة المتهم والقبض عليه بعد تحرير المحضر أو حتى بعد رصد الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي.

وفي يوم الأحد الموافق الأول من أغسطس 2021م، نشرت بعض الصحف المصرية خبراً عن زوج أقام دعوى زنا ضد زوجته يتهمها فيها بخيانته مع آخر، بعد أن قام بتحميل تطبيقات «هكر»، على هاتفها المحمول لتمكنه من استقبال رسائلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتسجيل مكالماتها الهاتفية. (يراجع على سبيل المثال: بوابة جريدة الوطن الإلكترونية، القاهرة، الأحد الموافق الأول من أغسطس 2021م، خبر تحت عنوان: «هكر» تلفونها وسجل المكالمات.. تفاصيل دعوى زنا أقامها زوج ضد زوجته، دفاع الزوجة: ننتظر خبير الأصوات لمطابقة صوتها بالتسجيلات). وإزاء هذه الاتهامات، ووفقاً للخبر المنشور في الصحف، أكد دفاع الزوجة أنه يتعين انتظار خبير الأصوات لمعرفة ما إذا كانت بصمة الصوت مطابقة لبصمة صوت الزوجة أم لا، مضيفاً أن هناك عدة أسئلة يجب الإجابة عليها، وهي هل يوجد إذن من النيابة العامة حول تلك التسجيلات وما الغرض من التسجيلات، لأن القانون قد أدخل تعديلات حول مادة الزنا وحدد عقوبة للزنا الإلكتروني شرط توافر الركن المادي فلذلك يجب تدخل الجهات الفنية للوقوف على ملابسات الواقعة.

وهكذا، قد يشكك البعض في مشروعية هذه التسجيلات، متذرعاً بعدم وجود إذن من النيابة العامة بإجراء هذه التسجيلات. وللوقوف على مدى مشروعية التسجيلات التي تتم بواسطة المجني عليهم، ولاسيما التسجيلات التي تتم بواسطة الأزواج لمحادثات زوجاتهم أو ضبط المراسلات الخاصة بهم، نرى من الملائم الحديث أولاً عن القاعدة العامة في هذا الشأن، وهي عدم جواز تسجيل المحادثات الشخصية والمكالمات التليفونية إلا بإذن قضائي. ثم، نتناول بعد ذلك مدى سريان وانطباق هذه القاعدة على التسجيلات التي تتم بواسطة المجني عليهم للمحادثات الماسة بهم.

قاعدة عدم جواز تسجيل المحادثات الشخصية والمكالمات التليفونية إلا بإذن قضائي تعد الأحاديث الشخصية والمكالمات الهاتفية أحد عناصر الحياة الخاصة للإنسان، سواء تمت هذه الأحاديث بشكل مباشر أو كانت بواسطة الأسلاك التليفونية أو بالوسائل الإلكترونية.

فهذه الأحاديث والمكالمات مجال لتبادل الأسرار وبسط الأفكار الشخصية الصحيحة دون حرج أو خوف من تنصت الغير، وفي مأمن من فضول استراق السمع.

ولا شك أن الإحساس بالأمن الشخصي في الأحاديث الشخصية والمكالمات التليفونية ضمان مهم لممارسة الحياة الخاصة. ومن هنا، كان للأحاديث الشخصية والمكالمات التليفونية حرمة تستمد من حرمة الحياة الخاصة لصاحبها.

ولذلك، كان من الطبيعي أن تؤكد المادة السابعة والخمسون من الدستور المصري الحالي على حرمتها، رابطة بينها وبين الحرمة الخاصة، بنصها على أن «للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية والبرقية والإلكترونية والمحادثات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة وفي الأحوال التي يبينها القانون». والحكم الوارد في هذه المادة ليس مستحدثاً، وإنما ورد بالعبارات ذاتها تقريباً في الدساتير المصرية المتعاقبة منذ دستور 1923م وحتى دستور 2014م (يراجع على سبيل المثال: المادة الحادية عشرة من الدستور المصري لسنة 1923م؛ المادة 45 من الدستور المصري لعام 1971م).

وهكذا، أناط المشرع الدستوري بالقانون سلطة تحديد الأحوال الجائز فيها مراقبة الاتصالات التليفونية، وتحديد الجهة القضائية التي يجوز لها إصدار الأمر بالمراقبة والتسجيل. وبناء على هذا التفويض الدستوري، حدد قانون الإجراءات الجنائية المصري الحالات والشروط والضوابط التي يجوز بمقتضاها مراقبة وتسجيل المحادثات التليفونية.

ففيما يتعلق بالتحقيقات بمعرفة قاضي التحقيق، ووفقاً للمادة الخامسة والتسعين من قانون الإجراءات الجنائية، «لقاضي التحقيق أن يأمر بضبط جميع الخطابات والرسائل والجرائد والمطبوعات والطرود لدى مكاتب البريد وجميع البرقيات لدى مكاتب البرق وأن يأمر بمراقبة المحادثات السلكية واللاسلكية أو إجراء تسجيلات لأحاديث جرت في مكان خاص متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة في جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.

وفي جميع الأحوال، يجب أن يكون الضبط أو الاطلاع أو المراقبة أو التسجيل بناء على أمر مسبب ولمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة».

وتضيف المادة الخامسة والتسعون مكرراً من قانون الإجراءات الجنائية أن «لرئيس المحكمة الابتدائية المختصة في حالة قيام دلائل قوية على أن مرتكب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادتين 166 مكرراً و308 مكرراً من قانون العقوبات قد استعان في ارتكابها بجهاز تليفوني معين أن يأمر بناء على تقرير مدير عام مصلحة التلغرافات والتليفونات وشكوى المجني عليه في الجريمة المذكورة بوضع جهاز التليفون المذكور تحت الرقابة للمدة التي يحددها».

أما فيما يتعلق بالتحقيقات بمعرفة النيابة العامة، فإن المادة 206 من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أن «لا يجوز للنيابة العامة تفتيش غير المتهم أو منزل غير منزله إلا إذا اتضح من أمارات قوية أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة.

ويجوز لها أن تضبط لدى مكاتب البريد جميع الخطابات والرسائل والجرائد والمطبوعات والطرود ولدى مكاتب البرق جميع البرقيات، وأن تراقب المحادثات السلكية واللاسلكية، وأن تقوم بتسجيلات لمحادثات جرت في مكان خاص، متى كان لذلك فائدة في ظهور الحقيقة في جناية أو جنحة معاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.

ويشترط لاتخاذ أي إجراء من الإجراءات السابقة الحصول مقدماً على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد اطلاعه على الأوراق. وفي جميع الأحوال يجب أن يكون الأمر بالضبط أو الاطلاع أو المراقبة لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً ويجوز للقاضي الجزئي أن يجدد هذا الأمر مدة أو مدداً أخرى مماثلة.

وللنيابة العامة أن تطلع على الخطابات والرسائل والأوراق الأخرى والتسجيلات المضبوطة، على أن يتم هذا كلما أمكن ذلك بحضور المتهم والحائز لها أو المرسلة إليه وتدون ملاحظاتهم عليها. ولها حسب ما يظهر من الفحص أن تأمر بضبط تلك الأوراق إلى ملف الدعوى أو بردها إلى من كان حائزاً لها أو من كانت مرسلة إليه».

وهكذا، فإن مراقبة وتسجيل المحادثات السلكية واللاسلكية لا يجوز أن يتم سوى بناء على أمر يصدر من قاضي التحقيق أو من رئيس المحكمة الابتدائية المختصة أو من القاضي الجزئي، حسب الأحوال.

فلا يجوز لمأموري الضبط القضائي من رجال الشرطة من تلقاء أنفسهم وبدون أمر قضائي القيام بهذا الإجراء. ومع ذلك، ورغم عمومية عبارات نصوص قانون الإجراءات الجنائية في هذا الشأن، فإن التساؤل قد ثار حول مدى انطباق هذا الحكم على حالة قيام المجني عليهم بتسجيل المحادثات الماسة بهم أو حالة قيام الزوج بضبط الرسائل الموجودة في حقيبة زوجته، الأمر الذي نحاول الإجابة عنه فيما يلي:

مدى انطباق القاعدة على التسجيلات التي تتم بواسطة المجني عليهم إذا كان القانون العام يمكن أن يكون أساساً للحكم ضد الدولة لصالح الأفراد، فإن قانون العقوبات لا يخلو من هذه الخاصية. بل إن تاريخ الفكر الجنائي يشهد على أن قانون العقوبات نشأ ليقيد حق الدولة في العقاب بعد أن كان مطلقاً من كل قيد (د. عبد الرؤوف مهدي، شرح القواعد العامة لقانون العقوبات، دار النهضة العربية، القاهرة، 2011م، رقم 6، ص 20 و21).

وبعبارة أخرى، وإذا كانت الضمانات الدستورية وضعت لمواجهة تعسف السلطة العامة وإساءة استخدامها لما لديها من إمكانيات في اختراق حواجز الحياة الخاصة، فقد كان من الضروري أن يضع المشرع ضوابط تضمن عدم تعسف السلطة العامة فوضع جزاءً إجرائياً يتمثل في إهدار الدليل المستمد من المراقبة غير المشروعة، إلا أن هذه القواعد تخاطب رجال السلطة العامة الذين يباشرون إجراء المراقبة والتسجيل.

فلم يوضح المشرع المصري ما إذا كانت تلك القواعد تسري أيضاً على الأفراد العاديين أي ما إذا كانوا مخاطبين بأحكامه أم لا (د. طارق سرور، حق المجني عليه في تسجيل المحادثات التليفونية الماسة بشخصه، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 2004م، رقم 1، ص 6). ومن ثم، يثور التساؤل عما إذا كانت الأحكام الواردة في قانون الإجراءات الجنائية بشأن مراقبة وتسجيل المحادثات السلكية واللاسلكية تسري كذلك على التسجيلات التي تتم بواسطة المجني عليهم أنفسهم أم أن لهذه التسجيلات حكماً خاصاً.

ومبعث هذا التساؤل أن وسائل التكنولوجيا الحديثة قد جعلت في متناول الأفراد الإمكانية لتسجيل أي محادثات أو مكالمات من خلال أجهزة التليفون الموجودة معهم.

وفي الإجابة عن هذا التساؤل، قضت محكمة النقض المصرية بأن «الزوج في علاقته مع زوجه ليس على الإطلاق بمثابة الغير في صدد السرية المقررة للمكاتبات، فإن عشرتهما وسكون كل منهما إلى الآخر، وما يفرضه عقد الزواج عليهما من تكاليف لصيانة الأسرة في كيانها وسمعتها – ذلك يخول كل منهما ما لا يباح للغير من مراقبة زميله في سلوكه وفي سيره وفي غير ذلك مما يتصل بالحياة الزوجية لكي يكون على بينة من عشيرة.

وهذا يسمح له عند الاقتضاء أن يتقصى ما عساه يساوره من ظنون أو شكوك لينفيه فيهدأ باله أو ليتثبت منه فيقرر فيه ما يرتئيه. وإذن فإذا كانت الزوجة قد حامت حولها عند زوجها شبهات قوية فإنه يكون له أن يستولى – ولو خلسة – على ما يعتقد بوجوده من رسائل العشق في حقيبتها الموجودة في بيته وتحت بصره، ثم أن يستشهد بها عليها إذا رأى محاكمتها جنائياً لإخلالها بعقد الزواج» (نقض 19 مايو 1941م، القضية رقم 697 سنة 11 القضائية، مجموعة القواعد القانونية، الجزء الأول، رقم 259، ص 471).

وفي حكم آخر حديث نسبياً، قضت محكمة النقض المصرية بأن «الإجراءات التي فرضتها المادة 166 مكررا و308 مكررا من قانون العقوبات لا تسري على تسجيل ألفاظ السب والقذف من تليفون المجني عليه الذي يكون له بإرادته وحدها ودون الحاجة إلى الحصول على إذن من رئيس المحكمة الابتدائية لتسجيلها، بغير أن يعد ذلك اعتداء على الحياة الخاصة لأحد» (نقض 18 مايو سنة 2000م، طعن رقم 22340 لسنة 62 قضائية، مجموعة أحكام النقض، س 51، رقم 90، ص 481).

وتعليقاً على هذا الحكم، وعلى حد عبارات بعض الفقه، «من المقرر أن الإجراءات التي نصت عليها المادتان 166 مكررا و308 مكررا من قانون العقوبات مقررة للمحافظة على الحرية الشخصية للأفراد. فإذا كان تسجيل المحادثات على جهاز التليفون لا يمس هذه الحرية فإنه يكون أمرا مباحا» (د. عبد الرؤوف مهدي، شرح القواعد العامة للإجراءات الجنائية، المرجع السابق، رقم 15، ص 656).

زر الذهاب إلى الأعلى