البناء اللغوي الأصولي ولغة القانون الوضعي
[فصول في "اللُّغة القانونية والأصولية " (الفصل 9)]
بقلم: الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
ليستْ اللغةُ القانونيةُ على ما يظنه البعض (رفع فاعل ونصب مفعول …!) وإنما هي أوسع من ذلك بكثير، فهي بناء نظري مُنظَّم وأصول قاعديَّة مُحكمة يجب تحققها في كل لغة ذات صلة بالقانون سواء أكانت لغة النصوص القانونية أم لغته الرسمية وتلك الشفاهية، وحتى ننهض بهذه اللغة القانونية على وجهها فلا مناص عن الإفادة من التجربة اللغوية للقضاء الشرعي ولغته الأصولية إذ لا غنية للقانون الوضعي عنها.
تستمد “اللغة الأصولية” أو “لغة الأصول” تأسيساتها من ذلك العلم الإسلامي العريق ألا وهو «علم أصول الفقه» الذي وضعه الأصوليون والفقهاء للعناية بفهم وتفسير واستنباط الأحكام من النصوص الشرعية القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية الصحيحة، وقد عنوا بهذا المبحث اللغوي الأصولي أشد عناية ولم يتركوه لعلوم اللغة وحدها والتي هي أداة واجبة ومهارات لازمة على كل طالب للعلم الشرعي حينئذ، فضلا عن توجبها ولزومها على سالك درب الاجتهاد والمتصدر للفتوى والقائم بالقضاء وأعماله، وما فعله الأصوليون يدل على مدى عنايتهم بهذا الفرع العلمي كما ويدل على الآتي:
1-أن علم لغة الأصول ليس علما لغويا صفوا، بل هو علم أصولي لغوي معا بما للنصوص الشرعية من خصائص بنائية وسمات دلالية قوامها في المصدر الأول القرآن الكريم الإعجاز في اللفظ والمعنى، وفي السنة القمة في السمو والبلاغة والإحكام.
2-أنهم قصدوا جعله فرعا معرفيا مستقلا حيث ذكروا مسائله ودلائله في جميع مصنفاتهم الأصولية، منذ الشافعي ومن بعده باعتباره معرفة لغوية أصولية وقواعد متوجب العلم بها وأداة معرفية منضبطة في فهم الأحكام من النصوص لا يمكن الغفلة عنها.
3-أنهم لم يفصلوه بتأليف مستقل، وبعلم منفصل ويمكن رد هذا إلى شدة التحامه بعلم الأصول وأن هذا أقوى له وأدعى بالاهتمام به، أو لخوف وقوع طلاب العلم في ظن أنه من علوم اللغة العربية العادية التي يترك للمتعلمين حرية تحصيل مسائلها والتمكن من دلائلها.
ونظرا لهذه العناية الفائقة للأصوليين بمبحث القواعد الأصولية اللغوية فإنه يتوجب الدفع بهذا المبحث إلى الأمام بوضع نظرية خاصة به يمكن تسميتها ” النظر العامة للغة الأصولية” ترتكز على تحقيق التنظيم المنهجي ووضع إطار نظري عام لهذا المحتوى اللغوي الأصولي، مع تجلية أساسه العلمي باعتباره علما مستقلا ينتمي لطائفة علوم الأصول والقضاء الشرعي أو القانون (الشرعي) تمهيدا لدراسات أخرى من خلال التناول الموضوعي لمسائله ودلائله ومتعلقاتهما، واستكمال بنيانه النظري وتشكيله العلمي بقواعد كلية مكملة وقواعد جزئية مفسرة…
أهمية البناء الأصولي اللغوي للغة القانون الوضعي:
البناء الأصولي اللغوي سابق الذكر لا مرية في أهميته بالنسبة للقانون الوضعي وعلومه، لأن قواعده -في صورتها الأصولية- عامة لا تتناول النص باعتباره مقدسا، بل باعتباره نصا قانونيا مهما تستمد منه الأحكام والقواعد التي أرادها المشرع بغرض تطبيقها وتحقيقها في عالم الواقع، ومن هنا كان القواعد الأصولية جد هامة في العلوم القانونية، غير أن القانون الوضعي يستدعي هذا العلم ويتطلبه بأشد من القوانين الشرعية، ويحتاج -وبحق- إليه وإلى تنظيمات أخرى ليشكل علما لغويا قانونيا جديدا ونظرية جامعة وإطارا واسعا وتأسيسا علميا لهذا البناء، وترجع الحاجة إلى علم اللغة القانونية للأسباب:
السبب الأول: طبيعة النص القانوني المتغير، فالنص الثابت تطبق عليه قواعد لغة الأصول، أما ذلك النص الذي دأبه التغير فهو يحتاج إلى:
أ-لغة أصولية فنية لبنائه وتكوينه: (وهذا جديد نوعا ما إذ لم يكن في دائرة اهتمام الأصوليين أو غيرهم لأن نصوص الشرع ثابتة معصومة لا يعتريها التغيير أبدا).
ب- لغة أصولية دلالية لفهمه وتفسيره واستنباط القواعد منه. وهذا مما يوجب الرجوع إلى قواعد اللغة الأصولية إضافة إلى القواعد الأخرى المساعدة وهي قواعد أصولية تكميلية أو جزئية أو قواعد قانونية لغوية على نحو ما سبق ذكره
السبب الثاني: طبيعة النظم القانونية المعاصرة، إذ إنها نظم حكم تعتمد على سلطات ثلاثة تشريعية وقضائية وتنفيذية، ينظم عملها وعلاقاتها الدستور تلك الوثيقة القانونية الأسمى، ولكل سلطة أدواتها القانونية الخاصة بها، فالسلطة التشريعية غايتها التشريع والرقابة وأدواتها النصوص التشريعية ولها مسالك قانونية معينة لاستصدارها… والسلطة القضائية غايتها الحكم والفصل في النزاعات ولها أدواتها في استصدار الأحكام، وكذلك السلطة التنفيذية أو الإدارية غايتها إدارة الدولة وتسيير المرافق ولها أدواتها مثل اللوائح والقرارات وبالنظر للغايات والأدوات الرئيسة فإنها تشترك في الشكلية القانونية وفي كون الوعاء اللغوي القانوني هو ما يجمعها ويظهرها …
ولا يصح عمل سلطة إلا بدقة أدواتها وصحة ما يصدر عنها من وثائق شكلية مع صحة مضامينها القانونية، وقد حدد الدستور لغة هذه السلطات من خلال تحديد لغة الدولة الرسمية ومن ثم لغة التقاضي والتشريع وقرارات الإدارة أجمع وهي اللغة العربية التراثية بتنوعاتها المختلفة على نحو ما سبق ذكره اللغة الفصحى أو اللغة الرفيعة أو اللغة العربية البيضاء، كما رسمت القوانين ضوابط اللغة التي يكون بها التشريع والحكم والقرارات وصياغة وتوثيق علاقات ومعاملات الناس بالدقة والوضوح والبيان وعالجت قضايا التزوير والتحريف والكشط والتصحيف في نصوص كثيرة كما في قانون الإثبات والمرافعات.. ولغة المحاكم والدعوى ومتعلقاتها كما في قانون السلطة القضائية مادة (19) فالأمر جد وليس بالهزل، وهو ما يوجب اصطناع علم ونظرية عامة تتعلق باللغة القانونية مستقلة رفقة “اللغة الأصولية” تعالج القواعد والضوابط القانونية واللغوية والأصولية لبناء القواعد القانونية ونصوصها، ولغات القانون الرسمية والبيانية إضافة إلى القواعد والأصول الدلالية للقاعدة القانونية ولغات القانون الرسمية والبيانية كذلك.
السبب الثالث : البعد الوظيفي لأجهزة القانون ومؤسساته حيث النشاط القانوني المتسع والمتنوع والمتعدد بحكم تعدد فئات المجتمع وتنوعه وتطوره وهو ما يستدعي لغة قانونية فنية وقاعدية رسمية وبيانية مخصوصة تساعد على معالجة الأوضاع والاستجابة للتحديات في أعمال القانون الوظيفية، وقديما كانت الدعاوى والمخاصمات تقام في حضرة القضاة الشرعيين وأطراف الدعاوى، وكانوا يتداعون ويتحاجون ويترافعون ويقضى في مجلس الحكم وكلهم عارف باللغة وقواعدها وأصولها، وبالنصوص والأحكام ومتعلقاتها، غير أن الوضع تبدل تماما في العصر الحديث بما يستوجب تنظيم شكل التداعي ووثائقه ومحرراته ومرافعته وأنظمته اللغوية مع ملاحظة:
أ- أنظمة القضاء الوضعي لها مراسيم وإجراءات كثيرة ومتداخلة وتشكل اللغة فيها أساسا معتبرا باعتبارها أداة ووسيلة قانونية للاتصال والإيصال والمخاطبة والمرافعة … وبعض هذه الإجراءات لم تستدعها ظروف القضاء الشرعي ومحاكماته، ومن ثم كانت له أنظمته في التقاضي الادعاء والترافع والتحاكم والإثبات والتنفيذ …. إلى غير ذلك، وجملة الإجراءات الوضعية هي إجراءات قانونية تخضع لمبدأ “شرعية الجرائم والعقوبات” فهي منصوص على أصولها في الدساتير ومفصلة في القوانين فهي جزء أصيل من هذا النظام القانوني الوضعي. وكل ما سبق يقتضي لغة كتابية ولغة شفاهية لممارسة أعمال القانون.
ب- تطور العلاقات القانونية بين أفراد المجتمع اختلف كثيرا عما كانت عليه قديما في ظل النظام الشرعي، فتعددت التعاملات وكثرة التعالقات بما يقتضي لغة خاصة لحماية الحقوق والمصالح من خلال عقود قانونية تفرغ مضامين الإرادات القانونية، وهي تلك اللغة التعاقدية، وهي من أخطر اللغات لأنها مستودع حقوق الناس والتزاماتهم وبها تقوم مصالحهم وعليها تتم أعمالهم …. وهذا فرع مستحدث من فروع القانون .
ج- تنوع المجتمع الحديث وتعدده وعلاقاته المتداخلة بسلطات الدولة الثلاثة بما يعني تواصلا واتصالا قانونيا بين السلطات العامة وبين المجتمع …وهو ما نعبر عنه بـ”الخطاب القانوني”، فما أصوله وما بنيانه وأركانه.. وكيف يكون خطابا قانونيا فاعلا معينا على التعاون مع السلطة ومرسخا للاستقرار في المجتمع …إلى غير ذلك ؟!!.
السبب الرابع: الإفادة من مناهج اللغة الحديثة والمعاصرة وهي بلا مراء تكشف عن وجوه مهارية نوعية وعن وظائف اجتماعية جديدة لم تكن ملحوظة بهذا القدر من الوضوح [د. محمود فهمى حجازي، علم اللغة العربية (ص: 3)، ط دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع: القاهرة ] فيذهب الدكتور حجازي إلى القول بأنه : “فإذا كان علم اللغة الحديث قد حقق بمناهجه الدقيقة تقدمًا ملحوظًا في مجالاته المختلفة، فإن الإفادة من وضوح الرؤية ودقة المناهج التي طورها علم اللغة في القرنين التاسع عشر والعشرين قد أصبحت ضرورة علمية. لقد شغل عدد من الباحثين بدراسة النحو المقارن للغات السامية، وأتاح هذا المنهج رؤية جديدة للعربية في ضوء اللغات السامية. واهتم كثير من الباحثين في اللغات المختلفة بقضية التأريخ اللغوي، ولا يزال البحث في اللغة العربية بحاجة إلى جهود كثيرة تفيد من كل المصادر المتاحة لإيضاح الجوانب المختلفة من تاريخ اللغة العربية»، وفي إطار هذه المناهج قامت بعض الدراسات الجادة وستقوم دراسات أخرى كثيرة وعميقة [منها على سبيل المثال الدراستان المتميزتان لغة الحكم ولغة القانون للدكتور اللامع سعيد أحمد بيومي، وصديقي ورفيق تأسيس اتحاد لغة القانون ] وبما سبق يتضح لنا بعض الوجوه من العلاقة بين اللغتين الأصولية والقانونية، مع عدم إغفال ما ورد بهذا الشأن في جميع المقالات السابقة.