في دوحة الإسلام (40)
في دوحة الإسلام (40)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 28/10/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
نستهل حديثنا اليوم بسورة التوبة وتسمى براءة أيضًا .. نزلت هذه السورة الكريمة في المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة ، عامرة بلآلئ الحق وأنواره ، وبما تضمنته من آيات الله البينات من فيض زاخر في الهدى والرشد والضياء ..
كان المسلمون حين نزلت . يحجون إلى البيت الحرام بمكة المكرمة ، وعليهم الصديق أبو بكر .. فلما نزل الوحي ، بعث بها المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه ، فلحق عليه الرضوان بالمسلمين حيث تلاها عليهم وسط هذا الجو الروحاني .. ولأن السورة الكريمة قد بدأت بإعلان براءة الحق تبارك وتعالى من المشركين ، سمّيت أيضًا بسورة « براءة » وهى سورة قد جمعت الكثير من لآلئ الحق وعظاته وإشاراته وأوامره ..
بينت آيات السورة الكريمة فيما بينت ، حرمة الأشهر الحرم ، وفضيلة الوفاء بالعهد ، ولب التقرب إلى المولى تبارك وتعالى ، وكمال الإيمان به سبحانه ..
ثم نبهت إلى آفة الاغترار الذي هو باب الفشل والهلاك ، فضربت لذلك مثلاً بما كان في غزوة حنين من إعجاب المسلمين بكثرتهم وتيههم بعددهم حتى ظنوا ألاَّ غالب لهم يومها ، فكان ذلك منزلقًا لانكسارهم الشديد في البداية ـ لولا أن أغاثهم الله تبارك وتعالى وأعزهم بتأييده ونصره .. وهذا بدورها إشارة أخرى إلى نصرة المولى لعباده ، وإدراكه للمؤمنين بعونه ، وهو عون رهين بما يقدمه المؤمنون من إيمان صادق ، ونصرة للحق .
وإذا كانت الآيات البيّنات تطمئننا إلى عناية الله سبحانه بعباده ، وتعلمنا أن للفلاح طريقًا عماده البذل والتضحية وصدق العزيمة ، فإنها تحذر أيضًا من خطر النفاق والمنافقين ، والمعوقين والمخذلين ، والمثبطين والمشككين .. فهم طفيليات مريضة تصيب المجتمع ، وأخطر عليه من عدوه نفسه ، إذ هي تبعث الاضطراب وتشيع التخاذل ، وتشتت وحدته وتوهن قوته وتفرق كلمته .. والتصدي لهؤلاء مع تفرقهم وتفشيهم أصعب بغير مراء من التصدي للعدو الظاهر ، لذلك كان لفظهم وإبعادهم أجدى للجماعة , وآمن لحركتها ومسيرتها .. وفى ذلك تُعِلِّمُنا الآيات البيّنات فتقول : « لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » (التوبة 47) .
من ذلك يبدو أن القلة المتحدة المخلصة المتكاتفة ، خير من الكثرة المتفرقة بفعل النفاق والتثبيط والتخذيل .. إن الإيمان هو حصن للمؤمنين من هذه الآفة ، لأنه كفيل فيما ترشد الآيات بأن يجمعهم على الحب والإخلاص وأن يعانق بين أفئدتهم وأياديهم فتتوحد خطاهم .. يقول تبارك وتعالى فى السورة الكريمة : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » (التوبة 71) .
نقاء القلب
عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه ، أن الهادى البشير صلى الله عليه وسلم أوصاه ، فقال له :
« يا بنى ، إذا أصبحت وأمسيت وليس فى قلبك غش لأحد فافعل ، فإن ذلك من سنتى ، ومن أحب سنتى فقد أحبنى ، ومن أحبنى كان معى فى الجنة »
فى صياغة الحديث النبوى أجمل وسيلة وأعظم حافز يحبب النفس فى نقاء القلب ، وإبرائه من الخبث والغش ، وزرع صفحته بالنقاء والصفاء والإخلاص . وجمال الصياغة فى تتابع الإخبار بمثوبة هذا التسامي والإسماح في الدنيا والآخرة .. هذه الفضيلة من شيمه عليه الصلاة والسلام ومن سنته ، ومن اتبع سنته فقد أحبه ، ومن أحبه عليه السلام كان معه في الجنة ..
فالمحب على دين حبيبه ، يتأسى ويقتدى به ، وهذا التأسي نورٌ لصاحبه على الصراط ، يهديه إلى البر والصواب .. فالمؤمن إنما يكون صادق القلب نقى الضمير ، مخلص السلوك مع الله تعالى ومع نفسه ومع الناس . مشاعره عنوان ضميره ، ونواياه صدًى لإيمانه وخلقه .. والإيمان نبع فياض لطهارة القلب ونقائه من الضغن والغل والحقد والغش ، ولاستقامة النفس على ما يهدى إليه القلب الطاهر النقي .
نقاء القلب عائده الأول على صاحبه .. يملأه طمأنينة وسكينة ، ويعينه على بذل المودة والألفة والتعاطف بينه بين الناس ..
المؤمن لا يغش ولا يحقد ولا يضغن ، ولا يحقر ولا يسب ، دستوره المحبة والإخلاص والصدق .. هذا الصدق النابع من القلب الطاهر النقى ، يهدى إلى البر والخير والمعروف .
يقول الهادى البشير عليه الصلاة والسلام :
« إن الصدق يهدى إلى البر ، والبر يهدى إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقًا ، وإن الكذب يهدى إلى الفجور ، والفجور يهدى إلى النار ، وإن العبد ليكذب حتى يُكتب عند الله كذّابًا » صدق رسول الله
خير المال اللسان الذاكر
والقلب الشاكر
روى بإسناده ، عن الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام ،أنه كان يقول : « تبًّا للذهب ! تبًّا للفضة ! تبًّا للذهب ! تبًّا للفضة ! » .
سأله أصحابه ، فأى المال نتخذ يا رسول الله ؟ قال : « لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا ، وزوجة تعين أحدكم على دينه » .
المال الذى يتحول إلى اكتناز ، يخالف الوظيفة الإنسانية الاجتماعية للمال .. أن يكون عطاءً للإنسانية وعمار الحياة ، وحجز المال وكنزه يعطل هذه الوظيفة السامية .
فى بيان حكمة تحريم الكنز ، قال تعالى :
« كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ » ( الحشر 7 )
اللسان الذاكر ، والقلب الشاكر ، هما هداية لوجدان الإنسان ونور لضميره ـ ومن اهتدى كان على هدايته فى أن يكون خيرًا للحياة والأحياء ..
روى عن نبى البر والرحمة عليه الصلاة والسلام قوله :
« لو كان لى مثل أُحُدٍ ذهبًا ، لسرّنى أن لا تمر علىَّ ثلاث ليالٍ وعندى منه شىء ، إلاَّ شىءٌ أرصده لدين » .
يقول سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز :
« لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ » ( آل عمران 92 )
وروى بإسناده عن سعد بن أبى وقاص ، أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى فقال :
« إنك لن تنفق نفقةً تبتغى بها وجه الله ـ إلاًّ أُجِرْتَ بها » صدق رسول الله
* * *
ورد فى الحديث القدسى قول الحق سبحانه وتعالى : « ما يسعنى أرضى ولا سمائى ويسعنى قلب عبدى المؤمن » .
قلب المؤمن بما فيه من إيمان ، يسع ما لا تسعه الأرض والسماء .
قال بعض الصوفية : « إذا اكتمل القلب بنور ذكر الذات ، وصار بحرًا مواجًا من نسمات القرب ، جرى فى جداول أخلاق النفس صفاء النعوت والصفات ، وتحقق التخلق بأخلاق الله تعالى »
- من الوصايا الجامعة للهادى البشير عليه الصلاة والسلام ، وصيته لصاحبه معاذ بن جبل . قال له :
« يا مُعاذ ، أوصيك بتقوى الله ، وصدق الحديث ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وترك الخيانة ، وحفظ الجوار ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السلام ، وحسن العمل ، ونَصْرِ الأمل ، ولُزوم الإيمان ، والتفقّه فى القرآن ، وحُبّ الآخرة ، والجزع من الحساب ، وخفض الجناح ، وإياك أن تَسُبَّ حليمًا ، أو تُكذّب صادقًا ، أو تطع آثمًا ، أو تعصِى إمامًا عادلاً ، أو تفسد أرضًا ، أوصيك باتقّاء الله عند كل حجر وشجر ومَدَر ، وأن تُحدث لكل ذنب توبةً ، السرُّ بالسرِّ والعلانية بالعلانية ، بذلك أدّب الله عباده ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب » .
أُثِرَ عن أخلاق الرحمة المهداة ، أنه كان عليه الصلاة والسلام « أسخى الناس ؛ لا يبيتُ عنده دينارٌ ولا درهم وإن فَضَل ولم يجد من يُعطيه ويأتيه الليل لا يأوى إلى منزله حتى يبرأ منه ، ولا ينال من الدنيا ، أكثر قوتَ عَامِه من أيسر ما يجد من التمر والشعير ، ويضع ما عدا ذلك فى سبيل الله ، لا يُسأل شيئًا إلاَّ يُعطى ، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام ، وكان يخصف النعل ويُرقّع الثوبَ ، ويخدم فى مهنة أهله ، ويقطع اللحم معهنّ ، وكان أشد الناس حياءً وأكثرهم تواضعًا ، عليه صلوات الرحمن »
* * *
- من قرت عينه بالله تعالى ، قرت به كل عين ؛
ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسُهُ حسَرات !
- الدعاء إلى الله تعالى مفتاح الحاجات .
ومستروح أصحاب الفاقات ..
وملجأ المضطرين ..
ومتنفس الطالبين ..
وملاذ العائذين العابدين .
- من رأى الله بقلبه ، لم يحجبه عنه حجاب ..
- لا شىء كذكر الله فى تعمير القلوب وزراعة اليقين .
ولذكر الله أكبر
والذكرى تنفع المؤمنين
أَلاَ بذكر الله تطمئن القلوب .
- جلاء البصيرة ينقش في القلب صورة المنظور ؛ والقلب كعبة لا تقبل مزاحمة الأصنام لجلال المعبود !