وقائع الجهاد فى صدر الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 14/10/2021
ــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية

طفق الأستاذ العقاد يبين أسباب الجهاد الذى فرض على المسلمين فى صدر الإسلام لصد العدوان أو تأمينًا للحدود أو الطرق ، ففصل مقدمات وتفاصيل غزوة تبوك التى نهضت لمدافعة عدوان حشود من الروم تتجمع على الحدود فى الشمال ، فلما أيقن المسلمون من انصراف الروم ، عادوا أدراجهم دون ملاحقة من دبروا للهجوم والعدوان عليهم .
وعندما أنفذ الصديق فى بداية ولايته بعثة أسامة بن زيد لردع القبائل التى كانت تعيث فى تخوم الجزيرة وفى الطريق بين الحجاز والشام ، وتهيج القبائل لحرب المسلمين ، لم تلبث البعثة أن قفلت عائدة إلى المدينة بعد أن آثر المتربصون السلامة وبادروا بالانصراف .
ويعقب الأستاذ العقاد فى كتابه عن الديمقراطية فى الإسلام بأن جملة أحكام الإسلام شرعًا وفعلاً فى العلاقات الخارجية ، هى أحكام تجعل الدولة الإسلامية مثالاً للدولة التى تنتظم
فى أسرة الأمم الدولية ، وتجرى علاقاتها معها على سنن واضحة وعهود مرعية وأمان
مصون .
والحديث عن الإسلام والرق وارد ، لأنه على صلة بالأسر فى الحروب وبالحقوق الديمقراطية .
والأرقاء فى الإسلام هم الأسرى فى تلك الحروب الذين لم يُعتقوا ولم يُفتدوا ، وبينهم وبين الأحرار فرق فى بعض الحقوق .
وموقف الإسلام فى هذه المسألة لا يعرف على حقيقته ولا يوزن بميزانه إلاَّ بالمقابلة بما كان قبله وما جاء بعده إلى العصر الحاضر .
ومع أن الحكمة العقلية كانت قد بلغت أوجها فى فلسفة اليونان ، إلاَّ أن أفلاطون وأرسطو اعتبرا كلاهما أن الرق حالة « أصلية » ارتأيا أنها ملازمة للطبيعة البشرية ، ووصف أرسطو العبيد بأنهم آلات حية ، وشدد أفلاطون عقوبة العبد الذى يتطاول على حر ولو كان غير مالكه وسيده ، وأوصى بتسليمه إلى من أساء إليه ـ إن لم يكن سيده ـ ليتولى بنفسه عقابه بما يرضيه .
واعترفت الأديان كلها بالرق ، ونظرت إليه كأنه عقوبة إلهية مستحقة على بعض
الناس .
أما بعد الإسلام ، فقد ظل الأسرى فى قبضة الآسرين ، بمقتضى القانون الدولى ، خاضعين لمعاملة قاسية وغير إنسانية ، ولا فكاك لهم إلاَّ فى ظل مبادلة الرهائن أو بالغرامات المقدرة ، وليس لهم بطبيعة الحال حقوق فى البلاد الغالبة المأسورين فيها .
أما فى الإسلام ، فإن الرق « حالة عارضة تزول » ، وليس بالحالة الطبيعية التى تدوم ولا تتبدل ، وسبيل إزالتها التشجيع على العتق من ناحية ، والفداء من ناحية أخرى ، والمن مقدم فى الإسلام على الفداء ، وقد توسع المسلمون فى الفدية فقبلوا بوصية النبى عليه الصلاة والسلام فداء الأسير نفسه بأن يعلم بعض المسلمين القراءة والكتابة . وتوسع الإسلام فى العتق ، فجعل العتق سبيلاً للكفارة عن السيئات ، ومن حديث النبى عليه السلام : « من لطم مملوكًا فكفارته عتقه » .
وقد جاءت وصايا النبى ـ عليه الصلاة والسلام ــ متممة لحكم الكتاب فيهم « فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها » …
وقد أمر المسلم بأن يسوى بينه وبين مملوكه فى المعيشة ، وكان كبار الصحابة يطعمون مواليهم مما يأكلونه ويلبسونهم مما يلبسون ، بل اشترى الإمام علىّ ثوبين فخص مولاه بأفضلهما وقال له حين رده هذا مستحييًا : بل أنت به أولى ، لأنى شيخ وأنت شاب .
ولم يكن الرق يحول بين المولى وبين أرفع مناصب الرئاسة والقيادة ، وأمثلة من رفع عنهم الرق فى الإسلام وصاروا من عيون صحابته عديدة ، زيد بن حارثة الذى كان فى الأصل مولى لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وقد آثر محمدًا على أبيه حين ظهر أبوه ، وقد ولاه النبى ـ عليه الصلاة والسلام ــ قيادة الجيوش ، مثلما ولى ابنه أسامة . وحين طعن عمر بن الخطاب قدم « صهيبًا الرومى » على المهاجرين والأنصار للصلاة بالناس ، وكانت وصايا النبى عليه الصلاة والسلام بهم عديدة ، وعادت لهم المكانة فى عهد الدولة العباسية بعد أن كان الأمويون قد انتهجوا تقريب العرب وإقصاء الموالى .
ولم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السنة نص على التفرقة بين الأحرار والرقيق فى مسائل الشهادة والذمة ، ووردت على العكس نصوص كثيرة تحض على البر بهم وعتقهم والتمكين من فك إسارهم ، وتولوا الأعمال والرئاسة والولاية فى بعض الأحوال .
ويستعيد الأستاذ العقاد بعض ما أبداه فى كتابه الفلسفة القرآنية ، من أن تحرير الأرقاء فى الإسلام كان أوسع بحبوحة من حركة التحرير فى أوروبا ، فبينما علل الأوروبيون التحرير بعلل مستمدة من ضرورات الاقتصاد ، فإن تحرير الإسلام للأرقاء جرى برغم معاكسة تلك الضرورات .
فلم يقبل الإسلام على تحرير الأرقاء مجاراة لضرورة الاقتصاد ، بل على الرغم من هذه الضرورات وعلى الرغم من شح الأنفس بالأموال . وحسبك أن تراجع ما جرى للأرقاء وللسود بعامة فى الولايات المتحدة ، ومن بعد إلغاء الرق هناك ، من معاملة بالغة السوء والتفرقة والتمييز والإعنات ، لترى كيف أن مزية الإسلام الكبرى هى السبق إلى كل أدب رفيع فى رعاية الإنسان ، ومن قبل أن يصك أحد مصطلح الديمقراطية .
عدل الفاروق بين أبى سفيان سيد مكة وبين صعلوك من جيرانه ، وعدل وزاد عدلاً مع خالد بن الوليد وهو القائد المظفر سيف الإسلام ، وعدل بين الملوك والسوقة ، وبين جلة الصحابة وبين من لم يدخلوا بعد فى الإسلام .
وأنصف عمر أحد الجنود من أبى موسى الأشعرى الذى ضربه وحلق رأسه ، وأرسل إلى الوالى أبى موسى كتابًا يأمره فيه بأن يقد الرجل منه علانية إن كان قد ضربه وحلق رأسه علانية ، وفى ملأ كالملأ الذين شاهدوا الواقعة ، أو يقده فى خلاء إن كان ذلك قد حدث فى خلاء .
ويقال إن قومًا رجوا الرجل أن يعفو عن الأمير فرفض ، ولكنه حين جلس أبو موسى ليقتص منه ورآه بين يديه فى مجلس القصاص ، غلبه تسامحه ، ورفع رأسه إلى السماء قائلاً : اللهم قد عفوت !
وقصة ابن عمرو بن العاص مع أحد المصريين مشهورة ، وصمم عمر على أن يقد الشاب المصرى من عمرو نفسه مع أن الخطأ كان من ابنه ، محتجًّا بأنه فعل ما فعله بسلطانه حين قال للشاب المصرى إنه ابن الأكرمين ، وقال لهما عمر متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟ ولم يقبل فى عمرو شفاعة إلاَّ أن صفح عنه الفتى مكتفيًا بأنه ضرب من ضربه .
وهذه الأمثلة وغيرها تبدو أعجب من الحلم ، ولكنها كانت واقعًا مثاليًا ماثلاً للعيان .
فمن أين أتت هذه الأمثال ؟
ومن أين جاءت هذه الثقة والطمأنينة فى إحقاق الحق ؟
خلاصة ما يقال فى هذه الصورة الرائعة أن العدل الإلهى كان واقعًا ماثلاً استمده ضمير هؤلاء من الإيمان ، فكانت هذه الصورة المثلى حقًّا وصدقًا ، وكفى بذلك إنصافًا للمثل الأعلى ولطبائع الأمور .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى