مفهوم البطولة في الشعر العربي ( 8 )

من تراب الطريق (1094)

مفهوم البطولة في الشعر العربي ( 8 )

نشر بجريدة المال الأربعاء 5/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

في الأبيات التي مرت بنا، يصور أبو فراس الحمداني ـ يصور نفسه قائدًا مقدامًا يقود الجحافل إلى النصر، وما استطاع العدو أن يأسره إلا بغتة، فإنه من قوم شجعان يستبسلون في القتال والنزال، وهو نفسه بطل من هؤلاء الأبطال المغاوير، له مكانة بين الفرسان، وما هو بمغمور، بل هو الفارس المشهور. ولكن لا دافع لقضاءٍ نازل، ويلتفت إلى الروم وهم يمنون عليه بأنهم لم يخلعوا عنه ثيابه إكرامًا له، فيقول وقد أخذته الأنفة والعزة إن ما على ثيابي من حمرة تلطخها إنما هى خضاب من دمائهم، وكم اندقت في قلوبهم وأجسادهم ورءوسهم نصول سيوفه، وكم تحطمت في صدورهم صدور رماحه. ويقول إن قومه سيذكرونه بل سيفتقدونه حين ينازلون الروم ويحمى الوطيس على نحو ما يفتقد الناس البدر في الليلة الظلماء. ويقول إننا أناس يتعمقنا الشعور بالكرامة والاعتداد بالنفس، إما الصدر وإما القبر، وإننا لنبذل نفوسنا في سبيل الحامد راضين شأننا شأن من يخطب الحسناء فإنه يبذل في سبيلها أي مهر وأي صداق، وفرق بعيد بين بذل المال وبذل الروح الغالية.

ولم تكن هذه هي وحدها البطولات في العالم العربي الإسلامي، بل كانت هناك بطولات أخرى في المغرب وفي أفريقيا وفي الأندلس.

لا يكاد يمضي القرن الرابع الهجري، حتى يعنى عبد الرحمن الناصر أمير الأندلس ببناء أسطول ضخم ونافسه في ذلك الفاطميون في المهدية بالقرب من القيروان، فقد اعتنوا بدورهم ببناء أسطول يقيهم من غارات الروم، وعرقلتهم من إتيانهم على غرة.

ويتولى الخلافة المعز الفاطمي، ويبسط سلطانه إلى مصر، ويؤسس القاهرة، فيقدم عليه ابن هانئ الأندلسي، فيصير شاعره، ومن إشادته بأعماله ما قاله في الأسطول الذي بناه. قال:

أما والجواري المشنآت التي سَرَتْ لقد ظاهرتها عُدَّةٌ وعَدِيدُ

وما راع ملك الروم إلا اطلاعها تنشَّر أَعلامٌ لها وبُنود

عليها غمامٌ مكفهرُّ صَبِيرُهُ له بارقاتٌ جمَّةٌ ورعودُ

من القادحات النار تضرَم للصَّلَى فليس لها يوم اللقاء خمودُ

إذا زفرت غيظًا ترامت بمارجٍ كما شُبَّ من نار الجحيم وقود

فأفواههن الحاميات صواعقٌ وأنفاسهن الزافرات حديد

يعطف ابن هانئ بعد قسمه بسفن هذا الأسطول الذي تغمره المهابة، فعليه عتاد ضخم من السلاح، وعدد ضخم من الجنود، تسير سفنه بكثرتها في موكب رائع، تنشر أعلامها في البحر المتوسط، رعودها ألقت الفزع في قلب ملك الروم وجنده وإذا بقادحات النار الحامية التي يطلقها الأسطول عليها، فتشعل فيها النيران وكأنها نار الجحيم تغلى كالمهل. ترسل القذائف صواعق تأتى على العدو، وإن أنفاس هذه النيران مقاطع ملتهبة من حديد، وإن شعلها المحمرة لتتساقط على المياه وكأنها دماء تتساقط على ملاحف سود، ملاحف الماء في الليالي الداجية. وإنها لتعدو مسرعة، وكأنها خيل تعدو على أرض صلبة وبأيدي فرسانها أعنتها يحثونها على العد والسريع، ولا أعنة ولا خيل ولا أرض صلبة أو كديد، إنما هي الرياح تدفعها هذا الدفع الحثيث.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى