ماذا تدرك العقول ؟ وماذا تعي ؟ (3)

من تراب الطريق (960)

ماذا تدرك العقول ؟

وماذا تعي ؟ (3)

نشر بجريدة المال الأربعاء 21/10/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يبدو أنه أمام الاندفاعات الضريرة للبشر لا سبيل لاستعادة عقيدة النجاة والغفران ، وعودتها لمثل ما كانت عليه فيما مضى .. ربما عاد إلى البشر إيمانهم بصورة أخرى أمتن أساسًا وأوضح رؤية وفهمًا، إذا انجلت رؤيتهم واتسعت بصائرهم وفهمهم ومعرفتهم لما يجاوز ما حصروا فيه وخنقوا أنفسهم بأسوار حضارتهم المادية الأرضية بصورتها الحالية !

إن غالبية البشر الغالبة الآن، ومن قبل صغارًا وكبارًا .. حضرًا وريفًا .. متعلمين وأنصاف متعلمين وأميين ـ تؤثر النقاش والجدل الشفوي في الجد وغير الجد ـ على الكتابة .. خاصة تلك التي تحتاج إلى طول تأمل وتفكير وتقليب وعمق نظر ومراجعة جادة يفضل بها الكاتب صيغة أوضح بيانًا وإيجازًا على الصيغ السريعة الفضفاضة الأقل وضوحًا والأطول تعبيرًا .. وهذا الإيثار بسهولته ورواجه واعتيادنا الدائم عليه يغشى معظم يقظتنا ويملأ كل ما نراه خلال النوم،  ونشهد منه الكثير في العمل والراحة والأمر والطاعة والوعد والوعيد والترحيب .. وفى كل جد وكل هزل وفرح وحزن وإخاء وعداء !! وهذا الإيثار يدفع البشر ثمنه الدائم .. يدفعونه دون أن يبالوا لأنهم لا يشعرون بأخطاره .. هذه الأخطار التي باتت من قرون طويلة عديدة وكأنها من طبيعة الآدميين لا تفارقها قط !.. وهى أخطار لا تراقبها ولا تتفطن إليها عادة لأنها تصاحب ضرورة أقوالنا وأحاديثنا التي لا تنقطع إلا في الغيبوبة، وتتبادل في كافة المناسبات والأغراض .. تتوالى بصورها المتفرقة أو المتتابعة بما لا آخر له من الأنواع .. هذه الأخطار سائدة لا تفارق أحاديث النساء والعامة والكثيرين الآن من الخاصة الذين يصرفهم القيل والقال والاستغراق فيما تبثه الإذاعة والتليفزيون .. وربما قلل من هذه الأخطار ، ومن الاندفاع الذى ينميها وينشرها ـ الالتفات إلى العناية بالهدوء والتروي ومران الآدمي على إعادة التفكير قبل أن يتحدث،  وتقصير أوقات الفراغ بدلا من إطالتها والمط فيها بما يصاحبها من استغراق ضرير فيما لا ينفع أو يفيد .. هذه الإطالة أدت فعلا لما شاع وذاع في كافة الجماعات ـ من قبح الكسل والغرور والحماقة والانصراف إلى الملاعب والملاهي والمراهنات والتهافت على الفساد ومواخير المخدرات والخمور والقمار !

مازال معظمنا يتيه بالحضارة الحالية برغم تحسسنا الذى لا يزال إلى اليوم يتخبط ويعلو ويهبط بالحياة في غيوم ودياجير وزوابع وأعاصير لا أول لها ولا آخر .. دون أن يصل في تخبطه إلى الطريق المستقيم المشرق للحياة الإنسانية الذى يقي أجيال البشرية الحالية من الهلاك الذى طال الأحياء المنقرضة .. ربما يساعدنا على تجنب هذا المصير القاتم أن معنا الآن من المعارف ما نستطيع به أن نفيق مما نحن عليه ، بفضل إخلاص واجتهاد الصادقين ومن يتماسكون ويتساندون ما استطاعـوا في اجتذاب الشباب المتعلم الذى لم يجتذبه بعد الجرى وراء المال مع الأوهام والمناصب !

وقلما نلتفت إلى أن لغاتنا تضللنا ـ دون أن نشعر ـ بجميع ألسنتها الفصيحة والعامية فضلا عن السوقية والطائفية .. المشروعة وغير المشروعة .. ومصدر هذا التضليل أننا فيما يبدو ـ لا نستغنى قط عن الاستعانة والإرشاد والاحتياج والطلب والإجابة والإسكات والرفض .. وهذه صور من التفاهم الأولى الذى ليس منه بد .. نمارسه منذ طفولتنا في أوائلها بالإشارة كائنة ما كانت،  وبالحروف والجمل والكلام قصر أو طال .. وهذا غريزي سابق دائمًا على ما نسميه اللغة اصطلاحًا بنحوها وصرفها وقواعدها وتراكيبها ونثرها وشعرها ومعانيها وبلاغتها. ونحن نحمل الكثير من ذلك التفاهم اللغوي الأولى ـ مع استعمالنا للغة بمعناها الاصطلاحي مدى حياة كل منا بلا حرج فلا يأبى استعماله العادي إلا المتكلفون .. وهم دائمًا قليلون في كل زمان .. لم ولا نقصد من التفاهم أيًا كان باللغة الفصيحة أو بغير الفصيحة، وبالحضرية أو غير الحضرية ـ لا نقصد مراعاة الضبط والتحديد والتبين واليقين بما تأكدنا أنه واقع فعلي .. بل يتسع عالمنا دائمًا في كل زمان ومكان للتعبير الفردي والمشترك عن آرائنا واحتياجاتنا وظنوننا وأحلامنا .. وآمالنا وأفراحنا وأحزاننا وتصوراتنا وأوهامنا وما نخافه وما نرفضه وما نعاديه حقيقة أو مغالاة أو إساءة ظن .. وهذا المصدر الأساسي لاتصال البشر بعضهم ببعض ما عاشوا في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، هو بطبعه وخلقته ـ مصدر جامع حاشد مختلط متنوع حتمًا .. ينتقى صاحبه منه ما يلزمه أو يريده أو يرغبه حسب مكانه وزمانه وظروفه وطبعه وتربيته وعاداته ومحيطه .. وهذه جميعا عرضة دائمًا للتعديل والتبدل والتغيير ـ صعودا أو انحطاطا في الفهم أو الرقى الآدمي ـ لأننا مخلوقون ولسنا مصنوعين بشريًا .. وهذا فارق هائل إلى أقصى الحدود .. لو فهمنا ذلك ووعيناه لأدركنا أن ما يمكن أن ننجح فيه نجاحًا يقصر أو يطول، مما نتكبر ونسميه إبداعنا وابتكاراتنا أو نظرياتنا ـ هو فى الواقع ملحوظ ومكتوب في أصل الخليقة .. لا يتجاوز ما نفعله ونتيه به حدود  إدخال مخلوق مكان آخر .. أو معه .. يستحيل تصور أن يصنع أي آدمي شيئًا من العدم لم يكن له أصل مخلوق من قبل !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى