لماذا كانت المحاماة رسالة؟!

لماذا كانت المحاماة رسالة؟!

نشر بجريدة الوطن الجمعة 13 / 8 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لم أفرح بإخراج كتاب، مثلما فرحت بإخراج « رسالة المحاماة ».. فيه سكبت روحي، وحصاد اثنين وستين عاما من عشق المحاماة.. أردت به أن يكون لزملائي هدية عاشق لعشاق، وغذاء روح لأرواح.. وأملت فيه أن يصور لغير المحامين: ما هي المحاماة وزادها الضخم وعطاؤها العظيم.

إن المحامين يحملون أمانة هائلة، تناصر الحق حيث كان، وتذود عن المظلوم، وترد التحيف والجور والجبروت، وتؤمن الإنسان وسط هجير الحياة، وتدفع بنداء الحق والواجب إلى كل ربع.. هل يمكن لمن يحمل هذه الأمانة ألاّ يدرك عظمة ما يحمله ويقوم به ويؤديه ؟!

المحاماة رسالة.. تستمد هذا المعنى الجليل من غايتها ونهجها.. من عطائها للغير وذودها في حمايته والدفاع عنه.. المحامي مشغول بالآخرين وهمومهم عن نفسه.. لا ينكفئ أو ينحصر في ذاته، وإنما هو مشغول بالأمانة التي يحملها، مهموم بالدفاع عن غيره.. يناصره ويحميه ويكف عنه المظالم، ويرد إليه حقـه.. هذه « الحماية » هي معنى اسـم « المحامـاة »، وغايـة فعـل: « يحامى » و « يحمى »، وجوهر مهمة وأمانة « المحامي ».

لا تقبل المحاماة ولا ترتضى من المحامي غير التفوق والامتياز.. فعلى ذلك تقوم رسالته وأساسها قدرته على التأثير والإقناع.. بالعلم والثقافة والمعرفة، فضلا عن الموهبة والملكة ونصاعة الحجة والبرهان، مع التجرد والاستعداد الدائم للبذل والتضحية.. وأحيانًا للفداء !

يقف المحامي كل يوم إن لم يكن كل ساعة، متجردًا إلاّ من هذا الزاد الذي هو قوام المحاماة، فخورًا حتى النخاع بأنه صاحب رسالة يؤديها تحقيقا لغاياتها النبيلة، يستطيع بنبل هذه الغاية، أن يطاول الدنيا، وأن ينازل الباطل يقارعه ويهزمه، وأن يناصر الحق فينصره ويؤازره ! في صفحة وجدانه مقولة عبد العزيز باشا فهمي، شيخ المحامين وقاضى القضاة، الذي لم تمنعه رئاسته لمحكمة النقض، في احتفالية تأسيسها وهو رئيسها الأول منذ عام 1931، أن يشهد وسط القضاة للمحاماة، وأن يرجحها حتى على القضاء.. فيقول آبدته التي يجب أن يدركها ويعتـز بهـا كـل محام: يا حضرات القضاة إن سروري وافتخاري بكم ليس يعدله إلاّ إعجابي وافتخاري بحضرات إخواني المحامين الذين أعتبرهم كما تعتبرونهم أنتم عماد القضاء وسناده. أليس عملهم هو غذاء القضاء الذي يحييه ؟ ولئن كان على القضاة مشقة في البحث للمقارنة والمفاضلة والترجيح فإن على المحامين مشقة كبرى في البحث للإبداع والتأسيس، وليت شعرى أي المشقتين أبلغ عنـاءً وأشـد نصبًا ؟.. لا شك أن عناء المحامين في عملهم عناء بالغ جدًا لا يقل البتة عن عناء القضاة في عملهم. بل اسمحوا لي أن أقول إن عناء المحامي ـ ولا ينبئك مثل خبير ـ أشد في أحوال كثيرة من عناء القاضي، لأن المبدع غير المرجح !

فيما عدا رجال الجيوش وقوات الأمن، في حالة الاشتباك ـ لا تجد أبناء مهنة يتعرضون لما يتعرض له فرسان المحاماة من محاذير وأخطار تأتيهم في مباشرتهم لرسالتهم من كل جانب، ما بين خصم يناوئ وينتظر فلتة لسان، ونيابة تنظر بغير عين الرضا وتحشد إمكانياتها لمحاصرة ودرء ما يسعى المحامي إليه، وما بين موازين عديدة يعملها القاضي يغدو إزاءها المحامي كالقافز فوق الأشواك أو الباحث عن موطئ أمان لقدمه في حقل ألغام !!.. ويجرى المحامي حسابات هذا كله على عجل في صفحة وجدانه، محتملاً فيه مخاطر وضغوط وفلتات الارتجال ـ وهو قوام المرافعات الشفوية التي يحشد فيها حصاد فكره ودراسته للقضية ومداخل وطرق الاقتراب منها والإقناع بها، مراقبًا في الجلسة من محيط موزع المشارب تحتشد بهم ساحات الجلسات ما بين راضٍ وكاره وضائق ورافض ومتربص، مطالبـًا وسـط هـذه الأعاصير بأن يحسـن تقديـم « مسرحيته » الإقناعية ـ إن جاز التعبير، والتي ينهض وحده بأدوارها الثلاثة: فهو مؤلف النص والمخرج، والمؤدى أيضًا.. وكثيرًا ما ينزل أداؤه على آخرين منازل الصاعقة محدثاً الرفض وربما الكره والعداوة، بل كثيرًا ما يدفع المحامي ثمن مناضلته لأداء رسالته من مصالحه وحريته وأحياناً حياته نفسها !!

في عام 1792/1793 ـ ومقصلة الثورة الفرنسية تحصد الرقاب والأرواح، لا تفرق بين مذنب وبرىء، وتتلوث بالدماء صفحتها مع الحرية التي انفجرت من أجلها، لا تتهيب المحاماة من أن تقف مؤدية رسالتها في الدفاع حتى عن الملك لويس السادس عشر الذي أجمعت الثورة على استئصاله في محاكمة أرادت أن تكون شكلية وتمسك فرسان المحاماة بأداء واجبهم العظيم فيها أياً كانت المخاطر !

وقف « برييه » الكبير يصرخ في وجه محكمة الثورة الفرنسية والمقصلة في عنفوان عملها تحصد عشرات الرءوس كل يوم ليقول للمحكمة عبارته الشهيرة: « إننى أتقدم إليكم بالحقيقة، وبرأسى أيضًا.. فتصرفوا في إحداهما بعد أن تستمعوا للأخرى !!.. بينما

« ماليزيرب » العظيم وقد جاوز السبعين يتقدم من تلقاء نفسه إلى رئيس الجمعية العمومية التي اعتزمت محاكمة لويس السادس عشر ـ بخطاب يقول فيه: « لا أدرى هل المجلس سيعين للويس السادس عشر محاميًا يدافع عنه ؟ أم أنه سيترك له حرية الاختيار. فإن كانت الثانية، فإننى أحب أن يصل إلى علم لويس السادس عشر أنه إذا وقع اختياره علىّ لأداء هذه المهمة فإننى على استعداد لأن أبذل في أدائها كامل جهدى. لقد دعانى مرتين لأكون وزيراً وقت أن كان ذلك المركز مطمع أنظار الطامعين، لذلك أعتقد أننى مدين بالوقوف إلى جواره في الوقت الذي يرى الكثيرون ما ينطوى عليه ذلك من تضحية ومجازفة !!

لم يكن « ماليزيرب » العظيم من أنصار ما كان يجرى إبان الملكية الآفلة، فهو حبيب للشعب محب للعلم مغرم بالأدب، ورفض في المرتين دعوته للاشتراك في مجلس الحكم، وتخلى عن المنصب مرتين أخريين، وكان من أشد المهاجمين لإساءة استخدام السلطة، المنتصرين لكرامة واستقلال المحاماة، وعلى رأس المطالبين بإلغاء « خطابات السجن بغير محاكمة ».. وإلى ذات هذا النظر السامق في احترام حق الإنسان في الدفاع عن نفسه ـ صدر « ماليزيرب » في إقدامه ومعه مساعده على الدفاع عن الملك المخلوع !!

لم تمنعه ظروف المحاكمة، ولا القاعة الغاصة بأعداء الملك والملكية، والجماهير الصاخبة، ولا شبح المقصلة المخيم، ولا سطوة هيئة المحكمة ـ من أن يخاطب الملك المخلوع بالأدب اللائق بمنصبه الذي كان، فعيل صبر المحكمة فقال له رئيسها في غلظة وجفاء: « من أين لك تلك السلطة التي تخولك أن تدعـو لويس كأبيه باللقب الذي ألغيناه » ؟!.. لم يهب « ماليزيرب » أن يقول: « من ازدرائي لما يجرى هنا، ومن حياتي كلها ! ».. إلى جواره وقف « دى سيز » يقول لمن نصبوا من أنفسهم قضاة ـ خارج الشرعية ـ لمحاكمة لويس السادس عشر: « إنني أجول ببصرى أبحث عن قضاة فلا أجد إلاً خصومًا » !!. كان الفارسان يعلمان النتيجة المحتومة لهذه الجـرأة في أداء رسالة الدفاع، ولا يستبعدان أن تحصد المقصلة رأسيهما كما حصدت رءوسًا غيرهما ــ وقد للأسف كان !!! فلم يمض عام على إعدام لويس السادس عشر حتى أعدم « ماليزيرب » وأفراد أسرته، ولحق به « دى سيز » جزاء قيامهما بواجب المحاماة وقرباناً لحريتها واستقلالها وفروسيتها !

في مأساة دنشواي، والأمة بأسرها تواجه امتحانًا عصيبًا من قوات احتلال غاشمة مختالة بقوتها، نهض أربعة من فرسان المحاماة للدفاع عن الفلاحين المظاليم فلفتوا بدفاعهم أنظار العالم وهزوا الدنيا وأدموا الضمائر !!: أحمد لطفي السيد، ومحمد يوسف، وعثمان يوسف، وإسماعيل عاصم.. لم يوقف دفاعهم الحكم المزمع، ولكنه كشف للعالم زيف الاتهام !

كم دفع المحامون من حرياتهم ومن حيواتهم، لأنهم أصحاب رسالة يدافعون بها عن هموم البشر ويرفعون راية الحق والحرية والكرامة !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى