لا أمن بغير عدل !

 

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 29/6/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

 

لو تأمل الإسرائيليون، وخرجوا من الأحلام الوردية أو الوقتية التي لا تصمد للزمن، وأمعنوا النظر في واقع الحياة، ونواميس الكون، ودروس التاريخ، ومرآة الزمن، لأدركوا أنهم لن ينعموا بالأمان، ما دام الفلسطينيون يعانون من الغبن والظلم واليأس في الإنصاف، حتى وإن خضعوا لما يفرض عليهم جبرًا، فالجبر لا يخلص المجبر من اليأس، بل يزيد شعوره به مقرونًا بثورة ظاهرة أو دفينة من الشعور بالظلم.

هذا الشعور المتراكب لا يستوي معه أمان ولا سلام!، لا في موقع أو موطن الظلم، ولا في أي بقعة ينتقل إليها المظاليم المسحوقين محملين بعناقيد الغضب والاعتراض المكتوم الذى مآله إلى التفجر، ليس فقط من جرائم إسرائيل وتغولها على فلسطين شعبًا وأرضًا، وإنما من العالم الذى وقف متفرجًا أو مباركًا لهذه الجريمة العالمية الكبرى !.

لن يتحقق الأمن لإسرائيل بترسانتها النووية، ولا بقواتها العسكرية، ولا بحروب الإبادة والتهجير، ولا بغارات النسف والتدمير، ولا بهدم الأبنية أو إقامة المستوطنات أو بناء الجدار العازل ولا بمحاصرة القدس ومصادرة المسجد الأقصى والعبث بأساساته.. ولن يتحقق لها الأمن بدعم الولايات المتحدة ومن يجرى مجراها، ولا بمصانعات الأنظمة العربية التي باعت القضية وغرقت في بئر التطبيع، ولا بالخلاف والتناحر بين فتح وحماس، ولا بتشرذم الشتات الفلسطيني، فذلك كله مهما علا واشتد وثقلت وطأته، ومهما بث من إحباط وربما يأس، لن يحقق الأمن لإسرائيل، بل على العكس!

هذا الوضع المستفز قد يوئس، ولكنه لا يميت، ولا يعقم ما يعتمل في الأرحام من غضب وسخط تتوارثه الأجيال، وتتنامى به عناقيد الغضب.. موازين المصالح الدولية ليست أبدية، وما يحكمها اليوم قد يتغير باكر بل ولا بد أن يتغير، فهذه سنن الحياة ودورات التاريخ، وبقاء الأنظمة العربية التي انفصلت عن قواعدها وباعت القضية، هو بقاء موقوت مهما طال، ومن المحال أن يبنى أمان على أوضاع متغيرة أو قابلة للتغير أو التغيير.. وإسرائيل لا تحتمل ما قد يطرأ عليها من تغير، بينما الشعب الفلسطيني يملك الزمن والإيمان بالحق والمصير، وتتوالد أجياله حاملة بذور الغضب مع مرارة اليأس والشعور بالظلم.. وهذا هو الحساب الغائب عن المنظور الإسرائيلي الذي يغره ما تمتلكه اسرائيل اليوم من أوضاع محلية ودولية فضلا عن ترسانتها النووية وفيالقها العسكرية وقواعدها الصاروخية والجوية وقنابلها العنقودية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل !

ربما قامت السياسة الإسرائيلية على أن الإحساس بالخطر هو جامع اليهود من بقاع العالم، وحافز التماسك الإسرائيلي والواقي من تفرق اليهود في الداخل والخارج.. ولكن هذا النظر قصير، وامتلاك استمرار تأثيره بالغ الصعوبة ومعرض للارتداد إلى نقيضه وسط حسابات بالغة التعقيد جعل بعضها يتسرب وتتداعى تأثيراته على غير حسابات المخطط الإسرائيلي !

ما لا يدركه الصلف الإسرائيلي أن العنف يولد العنف، وأن تراخي رد الفعل لا يعني أن قانون رد الفعل معطّل.. أو أنه انسحاب أبدي أمام الظلم والقهر.. مآسي ومذابح التاريخ وأعمال العنف والقتل والإبادة، تُنَمّى في المقابل عوامل السخط والمقاومة.. وكلما طال انطواء القلوب على الجراح كلما تنامى الغضب وتوالد العداء وقويت واشتدت أسبابه، واستمدت مشروعية أمام النفس والغير في المقاومة والرد.. ليس معنى خلل الموازين الدولية أن العالم لا يرى ولا يدرك ولا يفهم، أو أن الأمل فيه معدوم.. من يتأمل في تقرير القاضي جولد ستون الذي أدان إسرائيل في حربها الغشوم على قطاع غزة بالعديد من الجرائم ضد الإنسانية.. من يتأمل هذا التقرير وما ورد فيه خلافًا لما تريده إسرائيل وأشياعها، يعرف أن تجاهل العالم ظاهري، يفصح عن تسليم ضمني بأن ما يحدث غير عادل ويولد ما يستحيل معه على إسرائيل أن تنال الأمن.. لا يتحقق الأمن في أرض مخضبة بدماء شعب بأكمله، وتحت ثراها أجداث الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال.. وعلى سطحها آثار النسف والتدمير والتجريف، وأعمال استيطان مستفزة، وتطاول على قدسية المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية.. العمليات الانتحارية وإن تباعدت الآن ما هي إلاّ رد فعل في لحظة يأس من إحساس شعب بالقهر والتآمر على حياته ومصيره.. فإذا عزّ على إسرائيل أن تدرك ذلك في حالة غطرسة القوة التي تعيشها، فإن الشعب الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، يدرك أن دوام هذا الحال من المحال، وأن الجلد تعقبه انتفاضة حياة، طالما استطعنا لملمة إرادتنا وعزمنا من براثن الأشجان والأحزان، وجاوزنا وهدة الحاضر ومظالمه، وصدق أبو القاسم الشابي حين قال للشعوب مستنفرًا :

«إذا الشعب يوما أراد الحياة: فلا بد أن يستجيب القدر» !

تستمتع الولايات المتحدة بقوة كاسحة، اقتصادية وعسكرية، مكنت لها في العالم، ومكنت لساساتها على التعاقب من دعم التغول الإسرائيلي على فلسطين وشعبها، ومما لا شك فيه أنه بعيدٌ الآن عن فكر الساسة الأمريكيين أن دولتهم يمكن أن تزول، أو أن تحكمهم في مصائر العالم يمكن أن يتصدع، ولكن ها هو نمو التنين الصيني قد غدا ينذر بتغير موازين القوى، وبدأ القلق من توسعه الاقتصادي يقلق السياسة الأمريكية ويهدد اقتصادها والتنين الصيني وإن بدا اليوم حالة فريدة، إلاَّ أنه قابل للتعدد اليابان التي خرجت جريحة مكسورة من الحرب العالمية الثانية، قد صارت قوة يُعمل لها حساب يتزايد مع الأيام، وألمانيا الموحدة استردت عافيتها وتتصاعد قوتها بخطى ثابتة، والدنيا تتغير وإن طال الزمن، ولا يوجد حضارة في التاريخ إلاَّ وتعرضت للتآكل والزوال، وأسرع من الزوال أن تتغير التوجهات الأمريكية حين تدفع ثمن انحيازها لإسرائيل من مصالحها لدى الأقطار العربية وما قد يطرأ فيها من تيقظ يعترض خضوع البعض لما تفرضه الولايات المتحدة من سيطرة ومن إقامة قواعد عسكرية في بلدان تجد اليوم أمانها في هذه القواعد، ولكنه اعتقاد هش لا أبدية فيه!

ما تكفله الولايات المتحدة لإسرائيل مهدد مهما طال الزمن !

وربما يبدو بعيدًا أن يدرك الإسرائيليون ذلك مع غطرسة القوة، ولكن يفوت هذه الغطرسة أن الزمان حُوّلٌ قُلَّب، لم تعش قوة إلاَّ لتذوى، ولم ترتفع حضارة إلاَّ لتبيد، وكم من حضارات ازدهت ثم بادت، أما السلام فلا يعيش ولا يحيا إلاَّ في جو من العدل والإنصاف، وحين يداس العدل بالأقدام وبالسلاح، فلن يكون هناك أمانٌ ولا سلام !.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى