قد تكون الحقائق مغرضة! 

من تراب الطريق (1242)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 18/1/2022

ــ

بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين

الفرض فى الحقائق ، أنها بما فيها من مصادقة للواقع ، مجردة ، بعــيدة عن الهوى وعن الغرض ، فهى قيمة مطلقة فى ذاتها ، فكيف يمكن إذن أن تكون مغرضة ؟

والسؤال بلا شك وجيه . جوابه أن الغرض لا تأتيها فى مضمونها وبنيانها وما تدلى به ، وإنما من سوء استخدامها للتساند فى تحقيق أغراض لا تمت لتلك الحقيقة ذاتها بصلة !

ترى المجاهد ، فى عالم المال أو السياسة أو الاقتصاد ، يتباهى بكيفية بناء نفسه ، والمجد أو الأمجاد التى حققها ، وهو فى سبيل ذلك يتساند إلى حقائق يعزو إليها نجاحه وأمجاده ، بينما هذه الحقائق . لا صلة لها بما وصل إليه ، وإنما وصل بأساليب أخرى يدخل فيها الاحتيال والنفاق والمداهنة والفهلوة والادعاء والاستعراض ، وهو يدارى هذا كله بمبادئ أو بحقائق لها قيمتها المجردة المطلقة ، وهو فى الواقع لما يلتزمها ، وإنما يستخدمها ليدارى بها أغراضه ، فتنتقل على بديه ، بسوء الاستخدام وكذب الاستشهاد ، من عائم الحقائق المجردة إلى دنيا الأغراض ، فتبدو وكأنها هى المغرضة !

ترى الإذاعة البريطانية مثلاً ، وهى أشهر الإذاعات ، وأوسعها انتشارًا ، وأكثرها حصولاً على « المصداقية » فى النظر المولعين بالاستماع إليها . تراها ــ أى هذه الإذاعة ــ لا تلتزم الحقائق إلتزامًا مجردًا ، وإنما تحور استخدامها انتصارًا لمشيئتها ولما تروم تحقيقه لتستتر وراءه بالحقائق المستخدمة استخدامًا مغرضًا .

وأشهر نموذج لذلك ، ازدواجية السياسات والمواقف السياسية المحلية ، والإقليمية ، والدولية .

الحرية مبدأ لا مرية فيه ، وكذلك حقوق الإنسان ، والذمة التى يجب أن تحكم الأمور ـ ذمة كالعدالة ـ أو مفروض أن تكون كالعدالة ، معصوبة العينين كرمز العدالة المجسد فى فتاة تحمل الميزان معصوبة العينين .

فى دنيا السياسة ، وفى دنيا الإعلام ، توظف الحقائق حسب الهوى وحسب الغرض ، ولو راجعت المادة التى تبثها الإذاعة البريطانية BBC ـ إلى العرب ـ لوجدتها تختلف اختلافًا كبيرًا ـ مضمونًا وأسلوبًا ـ عما يخاطب به الأوروبيون والأمريكان بصفة عامة ، والإنجليز بصفة خاصة أو أخص .

عندما يكتب الإعلامى ليسمع قومه ، أو قطاعًا لقومه فيه مصالحه ، تحكمه ولاشك المصالح التى يراها لقومه ويسعى لتحقيقها له ، ولكنه فى الوقت ذاته محكوم بالذمة الإعلامية ، التى تلزمه بالمصداقية . وهذه المصداقية هى محز الأزمة ، فذكره ما تستوجبه الذمة الإعلامية ، قد يدمر أو يعاكس المنشود تحقيقه لقومه .

من المسالك المعتادة ، تحويل الخاص إلى عام ، وهذا مسلك يحتاجه القاصد للتعبير عن موقف سياسى أو اجتماعى أو اقتصادى يتبناه قومه أو حكومته أو الفئة أو الطائفة التى ينتمى إليها، ويتبنى من ثم آراءها ويسعى لتحقيق مصالحها . فإذا كان الإعلامى القائل يخاطب العرب مثلاً ، فإنك تراه يسمى الدفاع المشروع إرهابًا ، واغتصاب الأراضى استيطانًا ، وقتل الأبرياء وتهجيرهم قسرًا هو الدفاع المشروع للراغب فى اغتصابها وتهجير أهلها . ترى الإعلامى المغرض ، يطلق على المظاهرات العزلاء التى تطلب الحرية والاستقلال ، أو تواجه مغتصبى الأراضى فى فلسطين المحتلة أو تحتج على انتهاك المسجد الأقصى ، يطلق عليها إنها اضطرابات ، ويحول الحقائق إلى غرض ، بهذا التوصيف (المغلوط) ، ويصف العدوان على الأرض المغتصبة بأنه تحقيق للسلام فى الشرق الأوسط ، ويخلط مغرضًا ، ويستبدل التعبيرات ، بين الدفاع المشروع للشعوب عن أرضها ووطنها ، وبين التطرف والإرهاب ، فيصف الدفاع الشرعى الحقيقى بأنه إرهاب ، ويصف الاعتراض على المستوطنات الإسرائيلية بأنها شأن داخلى لإسرائيل لا يجوز لأحد أن يعقب عليه ، وحين تظهر إسرائيل الاستعداد للتفاوض ، تتعمد أن يكون ممثلها فى المفاوضات وزير الداخلية وليس وزير الخارجية ، قاصدة الإيحاء المتعمد بأن وزير الداخلية الممثل لها ، سببه أن ما سيجرى مناقشته والتفاوض بشأنه مسألة داخلية لإسرائيل وكأن هذه المستوطنات مقامة على أرض إسرائيلية تمتلكها ، ويصف رد الأراضى والحقوق المغتصبة إلى أصحابها بأنها « تنازل » من الحكومة الإسرائيلية . وهكذا تتحول الحقائق تبعًا لهذه المعايير المزدوجة ـ من إطار القيم والمبادئ المجردة ، إلى دنيا الغرض والإغراض ، ولا يسعك إلاَّ أن تقول : كم من الجرائم ترتكب باسم الحقيقة !!!

abdo

صحفي بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين؛ عمل في العديد من إصدارات الصحف والمواقع المصرية، عمل بالملف السياسي لأكثر من عامين، عمل كمندوب صحفي لدى وزارتي النقل والصحة، عمل بمدينة الإنتاج الإعلامي كمعد للبرامج التلفزيونية.
زر الذهاب إلى الأعلى