في دوحة الإسلام (64)

في دوحة الإسلام (64)

نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 14/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

نستأنف حديثنا اليوم عن بداية بشائر هلال الشهر المبارك.. شهر رمضان الذي تنزل فيه القرآن الكريم، في ليلة القدر.

مع مقدمات رمضان في كل عام، كان صفي الرحمن عليه الصلاة والسلام يستقبله بتبشير المسلمين بهذه الكلمات:

« قد جاءكم شهر مبارك.. افترض عليكم صيامه.. تفتح أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم.. وتصفد الشياطين.. ينادى فيه ملك: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.. فيه ليلة خير من ألف شهر.. جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعاً.. من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة؛ كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.. هو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة.. وهو شهر المواساة.. ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر الله له ما تقدم من ذنبه ».

* * *

هو شهر مبارك، تتلاقى فيه الفريضة الفردية، مع الآصرة الاجتماعية لأسرة بمئات الملايين.. تصدع للأمر الإلهي، فتؤدى فريضته في ميقات معلوم على إيقاع واحد وقلب واحد.. بداهة، لا ينصرف « المظهر الاجتماعي » لصوم رمضان، إلى صنوف اللهو ووجبات المضحكات.. ولا إلى فنون الابتكار في أصناف الطعام والإسراف فيه.. وغيرها من موروث عادات الدولة الفاطمية..

حقيقة أحل الإسلام الطيبات من الرزق وأساغ اللهو المحمود.. إلاَّ أننا نبتعد بما جرت عليه العادات ـ عن مقاصد الصيام ونفحات الشهر نفسه، ونجري فيه على فهم مغلوط لحكمة الصوم وغايته..

* * *

إن أهم ما نلحظه من حكمة الصوم، هو التنبيه إلى الجانب الروحي في الفطرة البشرية، وإخضاع مطالب الجسد والحسيات والماديات إلى زمام الروح وإرادة النفس.. في رحلة شهرية موصولة تتألف فيها إيقاعات الجماعة كلها في معزوفة روحانية تعبدية.. تبتغى صلاح الفرد.. وتستهدف أغراضاً شتى، منها صلاح الجسد نفسه بعد إفراط عام.. ومنها الانعطاف المتبادل بين الفرد والمجموع. بين الغنى والفقير.. وهي أغراض ينقضها الإسراف في اللهو والطعام والشراب.. فهي ضد صلاح الروح وصلاح الجسد أيضاً.. ثم هي تجسيد ـ لا علاج ـ للتفاوت بين الأغنياء والفقراء !!!

* * *

إن أهداف الصوم، ونفحات الشهر، لا تتحقق إلا بسنن الصوم كما حددها الشهر

الكريم.. فهي رحلة تعبدية متكاملة لا ينبغي لنا أن نحيلها إلى مسخ شائه بتجاوزات تتنافي مع حكمة الصيام وغاية هذه الرحلة التعبدية الروحية المكثفة.

الصوم في رمضان ليس فقط إمساكًا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.. وإنما هو صوم للسمع والبصر والجوارح وعن المحارم جميعها.. عن الرفث والفسوق.. عن الصخب والبغضاء والتشاحن.. عن فضول الكلام.. عن النم والاغتياب.. عن التجبر والعدوان.. عن الكبر والعجب.. عن الخيانة والكذب واللغو النفاق. إنه مجاهدة حقيقية، وامتحان لقوة الإرادة في إقامة النفس على الصراط.. ليس فقط بترك النواهي والمحارم، وإنما أيضاً بالإقبال على الأوامر.. على الصدق والإخلاص ؛ على التواضع والعفو والإسماح.. على التراحم والتواصل والتكافل.. على القول الطيب والعمل الصالح.. على البر بالمساكين، والحدب على الفقراء والمحتاجين.. على الصلاة والتحنث والعبادة..

أينتهي هذا كله على لحظة إفطار، ينكب فيها الجسد وتنكب فيها النفس على كل ما عافته ساعة الصيام ؟!!

هنا الخطأ الفادح !!!

* * *

لقد قلنا إن الصوم رحلة تعبدية روحية مكثفة تمتد شهراً.. هو أكرم الشهور.. فما بين الإفطار والإمساك، جزء لا يتجزأ من الرحلة.. وفترة لا تخلو من سنن الشهر الكريم في نفحاته وأنسامه تلك الطيبة الثرية.. ألم يجعل سبحانه قيام ليلة تطوعاً ؟ ألم يحث فيه على الخير وجعله خصلة من خصاله، في نهاره أو ليله، كفريضة فيما سواه ؟ ألم يجعل من أداء فريضة فيه كأداة سبعين فريضة فيما سواه ؟ أليس هو شهر الصبر، لا فقط نهار الصبر، والصبر ثوابه الجنة ؟؟ أليس هو شهر المواساة، لا فقط نهار المواساة ؟ ألم يفتح سبحانه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم ويصفد الشياطين ؟.. أليست هذه كلها وغيرها أمارات على أن الرحلة التعبدية رحلة موصولة على مدار الشهر المبارك كله.. أيامه ولياليه ـ ثم كيف يمكن أن تنقطع الرحلة التعبدية تقطعًا يوميًا تتأرجح فيه هذا التأرجح الصارخ بين غاية الالتزام وغاية الإفراط.. كيف يمكن أن ينصلح الجسد ونحن نتخمه فجأة بعد نهار صوم بكميات هائلة من الطعام الشراب تكاد تعجز أعضاءه جميعا عن أداء وظائفها ! ثم كيف يمكن أن تكون رياضة الجسد، وإثراء الروح، وكبح الشهوات بزمام الإرادة، بينما تنهار هذه الأخيرة فجأة في لحظة.. تستبيح فيها بنهم وشراهة ما راضت النفس على مكابدته ومجاهدته ليوم فات، ولأيام أخرى عليها أن تواصل المكابدة والمجاهدة فيها !!!!

* * *

لقد كان المصطفي عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أنس رضى الله عنه وأرضاه، يفطر على رطبات قبل أن يصلى.. فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن ـ حسا حسوات من ماء.. الإفطار عنده وفاء لضرورة، تحفظ للجسد ضرورات مطالبه، ولا ترتد وبالاً عليه، ولا تقوض للروح ما اكتسبته في رياضتها ومجاهدتها وإخباتها.

يقول عمر رضى الله عنه وأرضاه: « إياكم والبطنة، فإنها ثقل في الحياة ونتن في الموت ».

وقديمًا قال لقمان: « يا بنى، إذا امتلأت المعدة ماتت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة ».

* * *

كانت ليالي رمضان عند النبي صلى الله عليه وسلم، كانت فريضة متجددة للسياحة الروحية.. مع أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ دائما في رحلة روحية موصولة لا تنقطع.. كان يكثر من الصيام والدعاء والتهجد في رمضان.. ويعتكف العشر الأواخر فيه، اعتكافا كاملا..

يصلى، ويتعبد، ويتلو الذكر الحكيم.. تقول السيدة عائشة عليها الرضوان: « كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر ».

كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس في كل وقت، ولكنه كان أجود ما يكون في رمضان.

* * *

فيما استنه عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبدو كلمات الحسن البصرى آية الآيات وتعبيرًا وافيًا عن خصال هذا الشهر المبارك، « إن الله تعالى جعل رمضان مضمارًا لخلقه.. يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته »، ولأن الحق تبارك وتعالى قد جعل رمضان مضمارًا لخلقه.. يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فإن المصطفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يوصى فيه فيقول: « فاستكثروا فيه من أربع خصال ؛ خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما.. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلاّ الله.. وتستغفرونه.. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار ».

فرحلة الصيام الروحية رحلة موصولة يتنافى وإياها أن تنقلب إلى نقيضها في لحظة بعد مجاهدة وإخبات يوم.. فهي رحلة ممدودة طوال الشهر المبارك.. هو بطوله شهر صيام وقيام.. تعبد وتهجد وإخبات.. يأتلف فيه الفرد مع الجماعة، تكفكف فيه الجماعة عن أفرادها..

* * *

ما أحرانا في أيام رمضان المباركة، أن نتذكر قول الحق سبحانه فيما رواه نبيه عليه السلام في الحديث القدسي: « كل عمل ابن آدم له إلاّ الصوم فإنه لي، وأنا أجزى به ».. والصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه.

صدق الله ورسوله

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى