في المنهج الأزهري (3)

من تراب الطريق (1228)
ـــ
الإمام الطيب
والقول الطيب (61)
نشر بجريدة المال الأربعاء 24/11/2021
ــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
فى المنهج الأزهرى
(3)
ـــ
من يقرأ مقدمة كتاب « مقالات الإسلاميين » لأبى الحسن الأشعرى , سوف تهتز مشاعره ــ فيما يبسط الإمام الطيب ـــ لسماحة الإسلام المدهشة . التى تجسدت فى فكر هذا الإمام الجليل , الذى إستعرض الإختلافات المذهبية التى جرت على عهده , وقسمتهم إلى فرق وطوائف معتدلة ومتشددة , وأحزاب شتى , إلاَّ أنه لم يقص أحدًا متمسكًا بأن الإسلام يشملهم .
حين حضرته الوفاة فى بغداد سنة 571 هـ , قال لأحد تلاميذه : « إشهدْ علىّ أننى لا أكفر أحدًا من أهل القبلة ؛ فكلهم يشيرون إلى معبودٍ واحدٍ , وإنما هذا كله إختلاف العبارات »
وحقيقة الأمر أن المنهج الأزهرى مؤسس على تعددية المذاهب , وفلسفة الحوار , ومنطق العقل المؤيد بالنقل , وهو أقدر المناهج على علاج أزمة العقل الإسلامى المعاصر , وما آل إليه أمر الأمة الإسلامية , وخاصة الأمة العربية ، من تفكك وإضطراب وتمزق .
ليس صحيحًا ولا مشروعًا ماشاع مؤخرًا فى بلادنا من ظاهرة التنكر للولاء للوطن , واستبداله بولاءات أخرى عقدية أو مذهبية أو سياسية .
« إن للوطن حقوقًا شرعية وأخلاقية ، وإن البرّ به ورعاية حقوقه لمِنْ صميم أحكام الإسلام ومقاصد شريعته ، وإن العابثين بحرمة أهله وحرمة دمائه والخارجين على أمنه وأمانه هم « قتلةٌ » وصفهم القرآن الكريم بأنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادًا وحدَّد جزاءهم الذى نعلمه جميعًا خزيًا فى الدنيا وعذابًا عظيمًا يوم يلقون ربهم . »
ما أحرانا ـ فهمًا لذلك ـ أن نتذكر كلمات النبى عليه الصلاة والسلام حينما تحركت أشجانه وهو يودّع مكة المكرمة مسقط رأسه الشريف ، مهاجرًا إلى المدينة . قال : « ما أطيبك وأحبك إلىّ ، ولولا أن قومك أخرجونى منك ما خرجت ولا سكنت غيرك » .
ونرى ذلك فيما أطلقه بلال بن رباح من شعر يفيض شوقًا إلى الوطن كلما أفاق من الحمّى التى أنهت حياته الدنيا .
« من ذلك أيضًا ، أن النبى عليه الصلاة والسلام ، بعدما آخى بين المهاجرين والأنصار كتب وثيقة المدينة بين المسلمين وغير المسلمين ؛ ليؤمِّن الوطن الجديد ، ويضمن ولاءَ غير المسلمين لهذا الوطن ؛ حتى لا تتزعزع أركانه ، أو يتصدع بنيانه ، وقد تأسست هذه الوثيقة فى ذلك الوقت المبكر على مبدأ المواطنة الكاملة ، واعتبرت اليهود المقيمين فى المدينة من مواطنى الدولة الإسلامية ، ونص النبى صلى الله عليه وسلم على : « أن يهود بنى عوف أمَّة مع المؤمنين » .
ولكن لمَّا نقض اليهود ما جاء فى بنود هذه الوثيقة ، وشكّلوا خطرًا يهدد أمن المجتمع بالتآمر عليه مع كفار قريش والقبائل المحيطة بالمدينة ، لم يتردد النبى صلى الله عليه وسلم فى التصدى لهذه الخيانة ، وحماية الوطن من الخائنين ، وكان ما كان مما نعلمه من موقف النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مواجهة اليهود الناكثين للعهد ، وإجلائهم خارج المدينة .
« إن هذه المواقف حجج شرعية ساطعة وبراهين عملية على انحراف هؤلاء الذين يعيشون بأجسامهم فوق أرض ، بينما ولاؤهم رهنٌ بأرض أخرى ، أو جماعات مشردة فى الآفاق ، أو زعامات ضالة مضلة هنا وهناك ».
لماذا ينعم الآخرون بالأمن والسلام والرفاهية ، ويشقى العالم العربى بحروب طاحنة بخوافيها ومآلاتها ؟!
ما نحن فيه ، بسبب آفات التكفير والإرهاب والقتل على الطائفة والمذهب .
أول هذه الأسباب ، فيما يرى الإمام الطيب ، إنما يكمن فى أننا أغضينا الطرف طويلاً عن تعليم يضع فى حسابه وحدة هذه الأمة العربية الإسلامية .
والسبب الثانى أن فريقًا من علماء الأمة لم يعد همهم الأكبر حفظ وحدة الأمة ومصلحة المسلمين ، بقدر ما أصبح همهم الأول الانتصار لمذهب واحد ، وتفسيق أصحاب المذاهب الأخرى .
وثالثه الأثافى ، فيما يرى الإمام الأكبر الدكتور الطيب ــ هو انشقاق العلماء أنفسهم وانغلاق كل منهم على مذهب معين ، مما فتح الباب لما نراه من حروب تمزقت فيها أشلاء الأمة .
إن الثقة فى الله تعالى , وفيما وعد به الأمة , تستوجب أمورًا لعلها تخرجنا مما صرنا إليه .
أولاً : ضرورة العودة بالخلافيات فى العقائد والأديان , من شاشات الفضائيات , إلى أروقة الدروس ومجالس العلماء المختصين المتمكنين .
ثانيًا : ضرورة تصدى العلماء من جميع المذاهب الإسلامية بفتاوى صريحة وواضحة ترد عبث العابثين بتراث الأمة ومقدساتها .
ثالثًا : وقف آلة التكفير المتبادل وقفًا تامًا , والعمل الجاد للقضاء على ثقافة الحقد والعداء والرغية المحمومة فى الاستحواذ والإقصاء .
لا سبيل للخروج من هذه الأزمات التى تطحن العرب والمسلمين , إلاَّ والحوار وحده , بين المسلمين فيما بينهم , ومع غيرهم , فهو الكفيل بتفويت الفرص على من يضمرون السوء والإضرار , وهدم مخططات حروب الجيل الرابع , وإستعادة الوعى , وبعث الأمل فى مستقبل أفضل , آمن ومستقر .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى