عالم الإنسان في رحاب الكون ! (4)

من تراب الطريق (1022)

عالم الإنسان في رحاب الكون ! (4)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 19/1/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ونحن نتوارث ما تعودناه من تلك المخترعات، ونضيف إليها باستمرار ما يستجد من جديد، بحيث صـارت ـ بالنسبة لنا كبشر ـ تشكل في الواقع نوع وأسلوب وموضوع حياتنا الاجتماعية والفردية في نظرنا.. ويستحيل على الآدمي أن يعيش إذا حرم من هذه اللوازم التي باتت أساسية عنده.. تشكل فيما تشكل مسكنه وملبسه وطعامه الملائم للحياة كما اعتادها وألفها في حدها الأدنى في اعتقاده  !

هذا العالم من الاستكشافات والاختراعات البشرية يملأ أيام وأعمار كل آدمي، ويغص به وعيه ويملأ عقله وواقع عقله وخياله، ويغذى ويستأسر عواطفه الطيبة والرديئة، ويكوّن على الجملة حقيقة عالم الإنسان أو الغالبية الغالبة من عالمه !

فلا غرابة في أن يبقى الإنسان العادي إلى اليوم وإلى مستقبل ـ يقصر أو يطول ـ محصورًا في عالم الإنسان لا يفارقه، ولا يكاد ينظر إلى الكون والعالم الخارجي إلا نظرة عابرة سطحية قــد تكون هامشية لا تعنيه كثيرا !.. وربما كان هذا من أسباب ضيق مساحة ميدانه الأخلاقي وصعوبة قبوله قبولا فعليا كاملا أو شبه كامل للقانون الأخلاقي الذي تفرضه الديانات التي اعتنقها ويعتنقها الآن.. مراعيًا فقط مراسمها وبعض طقوسها ومواسمها وأعيادها والتي لا ينظر إليها إلا من خلال عالمه المحصور حتى في تصوره للخالق عزّ وجلّ وللآخرة أو للحساب أو الثواب أو العقاب الأخروي.. إذ هو يدمج الكون والعالم الخارجي الهائل في عالم الإنسان الصغير المحدود بحدود وعيه وتصوراته واعتقاداته وعواطفه.. مفترضا أن الكون كله جزء من عالمه وليس إلا جزءا من عالمه يجرى عليه ما تخيله هو من حق أو صدق أو خلاف ذلك مما صح لديه في عالم الإنسان وحسب شرعة الآدميين وأعرافهم ومألوف عاداتهم في حياتهم ووفق زمانهم وأحوالهم وظروفهم !!

لكن هذا العالم الخارجي قد لفت فقط فضول أهل الأرض، على نحو غامض مشوش داخله كثير من الخيال والافتراض البشرى.. هذا الفضول قد جذب إليه المنجمين والمشتغلين بالفلك والكهنة مستخدمين ما معهم من الرياضيات الأولية في وضع التنبؤات والبشارات وأنواع الزيجات وجداول الأرصاد الفلكية وقراءات الطوالع باعتقاد امتلاء السماوات بالأسرار والغيبيات المختفية عن عامة أهل الأرض وخاصتهم.. وعلى أساس أن السماوات مقر أهل العالم العلوي غير الفانين ولا الخاضعين لمحدودية الزمان والمكان !.. ولم يبد من الآدميين حركة جادة متجهة إلى ما لا وراء جو الأرض من فضاء وما حواه قريبه وبعيده إلا في القرن السابق وبصفة خاصة في النصف الأخير منه.. وقد كلفتهم حركتهم وتطلعهم نفقات طائلة، وهذه الحركة الجادة لا تزال في بداياتها.. وهى برغم إذاعة أخبارها بمختلف وسائل الإعلام واهتمام العلماء المبالغ فيها، لم تجتذب بعد العاديين من البشر اجتذابا يمكن أن يغير في مصدقاتهم ومعتقداتهم التي أورثهم إياها آباؤهم وأجدادهم من مئات أو آلاف السنين، ولم تفك عنهم انحصارهم في عالم الإنسان الذي وصفناه، ولم تدفعهم بعد إلى توجيه استعدادات الآدمي للاستكشاف والاختراع.. هذه الاستكشافات التي جاوزت كل توقع إلى ريادة الفضاء وتهيئة وعى الإنسان وإرادته وجرأته لتبادل الإفادة والاستفادة من تعميق الاتصال بالكون وما فيه من طاقات وقوى وإمكانيات وتكوينات ليس لها حد أو آخر ولم يخطر مثلها من قبل على قلب بشر.. وربما غطت هذه الكنوز والقوى والإمكانيات على كل ما أتاحته الأرض للآدميين منذ وجدوا عليها.. ولا يستبعد عندئذ أن تتغير نظرة البشر إلى الأرض والتفاتهم إلى عالمهم وسجنهم داخله ـ فيتغير عندئذ كل ما بنى على هذه النظرة القاصرة من تصورات ومصدقات وآمال وأحلام وأطماع وكل ما تثيره هذه النظرة من مخاوف وأوهام وخلافات وأسباب للتناحر والصراع والعداوة.. فتتغير هذه النظرة إلى رحابة ليس لها حد، وإلى اتساع لا يوجد معه شعور بالضيق أو المحدودية.. يصبح معه كل ما معنا من حسن وقبيح ومؤنس وفاجع ودافع إلى الرضا أو السخط، سخافة خالية من أي معني لدى الآدمي الذي تطور عالمه وصار جزءًا متصلاً متناغمًا من الكون الرائع الهائل العظيم!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى