عالم الإنسان، في رحاب الكون ! (2)
من تراب الطريق (1020)
عالم الإنسان، في رحاب الكون ! (2)
نشر بجريدة المال الأحد 17/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
فالخلاف أساسي بين عالم الإنسان وبين الكون أو ما نسميه العالم الخارجي الذي يعيش ضمنه الإنسان معيشة الأجنبي.. معظمها من جانبه الواعي الملتفت المدرك.. لا يستطيع أن يتصل اتصالاً تاماً إلاّ مع عالمه ولا يشعر بوجوده إلاّ فيه ومن خلاله، أما إحساسه بما يكون حوله أو في خياله من الماديات أو من الأحياء الأخرى، فإحساس بنوع من الإطار أو الأدوات أو الوسائل، وتعامله مع الماديات والأحياء الأخرى فيكون من طرف واحد مدرك هو الآدمي.. بينما الطرف الآخر موضوع للتعامل فقط وليس طرفا فعليا ولا يدخل في حسبانه إلا كموضوع لوعيه وأنشطته المدركة.. وهذا لا يتنافى مع وجود عالم الكون وعالم الإنسان ممثلين جنبا إلى جنب في حياة كل آدمي لا يفترقان بغير اختلاط ولكن أيضا بغير انفصال أو تباعد.. فكل منهما يؤثر ويتأثر بالآخر باستمرار، ويمكن أن يلحظ الوعى بعضه، لكن معظمه يجرى دون أن يلاحظه المتأثر نفسه . أما كيفية ذلك التأثير المتبادل فجانب منها أصبح معروفا لعلوم الطب والصيدلة والنفس والفيزياء والكيمياء، ومعظمها ما زال موضوعا لأبحاث الباحثين . ونعنى هنا بعالم الكون عالم الكائنات الحية وغير الحية في جسم الآدمي والذي لا يلتفت إليه الآدمي ولا يدركه وعيه عادة إدراكا مباشرا بغير خبرة خبير أو إشارة أداة أو جهاز خارجي يقوم بالرصد أو القياس أو التصوير أو ما شابه ذلك .
لقد فطن الإنسان من سنين إلى أن ما يسميه بالحواس، أدوات عصبية تنقل آليا ما يمكنها أن تلتقطه مما يحدث خارجها هي إلى مخه.. حيث يحول المخ ما يختاره منها إلى ما نسميه نحن محسوسات من لذّة وألم ومرئيات ومسموعات ومشمومات ومذاقات وملموسات وما يجرى مجراها على صورها وأشكالها وأنواعها وأوضاعها وأوصافها من محتويات الوعى الفعلية أو المتخيلة ويعطيها أسماءً ونعوتا وأوصافا . فعالم الآدمي له ركائز مستمدة من العالم الذي يعيش حـياته فيه، لكنه يختلف اختلافا يكاد يكون كليا عن ذلك العالم نتيجة حتمية لتدخل وعى الآدمي بينه وبين الكون الخارجي إن صح هذا التعبير.
فالآدمي أياً كانت معرفته وعلمه بالكون وبجسمه ونفسه لا ينفك إدراكه عن كونه معرفة غير مباشرة وعلما غير مباشر . لأنه لا يتصور علما ومعرفة مباشرين خارج الوعي.. لا يجيئان دون طريق الوعى وبواسطته . مــع ملاحظة أن وعى كل آدمي له بداية مع بداية حياته وله نهاية مـع نهايتها.. وعادة وعموما وبين البداية والنهاية، ينمو هذا الوعي ويتطور ويتراجع ويتقلص ويتدهور لينطفئ.. فالعلم والمعرفة مفهومان بشريان لم نعرف لهما نظيرًا حتى الآن لدى غير الآدميين !
لم نعرف قط علما تحقق دون وعى، ولا وعيا نما وتطور دون ادخار معرفة ونشأة علم بالبناء على المعرفة المدخرة.. فالعالم الدنيوي للآدمي محصور في حدود قابلة للضيق والاتساع حسب ظروفه وعصره.. ومجاله دائما وهو إمكانية ذلك الضيق أو ذلك الاتساع وليس زوال البدايات أو انعدام النهايات . كما قد نتصور عند المبالغة في الخيال !
