صداقة السراب !

بقلم : رجائى عطية، نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 16/10/2021
هل صحيح ما قاله التوحيدى فى كتابه عن الصداقة والصديق , من أن الصداقة أحيانًا كالسراب ، وجودها خيال ، وعمقها ضحل ، والوفاء فيها ـ من البعض ـ محال !
بلغ من تشاؤمات التوحيدى وصفه للدنيا بأنها امتلأت بالذئاب ، وأن الصداقة مشوبة من الأزل بالحسد ، مكدرة بالحقد مهددة دائمًا بالخيانة . وظنى أنه ليست كل الصداقات ولا الأصدقاء سواء ، حتى توصف بأنها دائمًا مهددة بالخيانة .
نعم , تحدُث الخيانات ، ويصاب الإنسان بالإحباط فى بعض الصداقات ، بيد أن المشكلة ليست فى الصداقة ذاتها ، فهى المحبة والوفاء والصفاء ، وإنما فى العجلة فى اعتبار
« العلاقة » صداقة ، مع أنها قد تكون وقد لا تكون . فليس كل ما يصادفه المرء ، وتقذف به المصادفات ، من علاقات وصلات ينطوى فى جوهره على « صداقة » ، وإنما قد يكون الظن بوجودها هو « السراب » .. قد تتعدد الخيانات ، ولكن ليس من الأصدقاء ، وإنما من المظنون ـ انخداعًا ـ أنهم أصدقاء !
دائمًا لكل شىء وجهه الآخر ، فمن فوائد اكتشاف الخيانة التى توجع ، أن ترفع من صفحة وجدانك من ظننته صديقًا ، وهو ليس بصديق ، وأن تنتبه إلى الواقف جنبك ، فقد تكون عنايته بطعن ظهرك وهو يتظاهر بأنه معك وإلى جوارك ، فمن أبلغ فوائد كشف الخيانة أن كشفها الذى أمضّ وأوجع , قد أتاح لك أن تنحى من حياتك من توسمت فيه إخلاص الصداقة ومحبة الصديق ، فاستبان أن ما توسمته غير صحيح ، وأن الصدر مطوى على غير ما ظننت ، فلك إذن أن تحمد الله الذى عافاك وأبعد عن طريقك من كنت تظنه صديقًا ، فإذا به مطوى على الكره والمقت والغيرة والحسد والغدر ، يظهر لك غير ما يبطن ، ويصانع ولا يخلص ، ويرائى ولا يصدق , ويخادع ولا ينصح ، ويتحين الفرص لطعنك فى ظهرك دون أن يهتز له رمش !
وحين نتعمق ، نجد أن التشاؤم جاء من الخلط والتخليط بين الصداقة وما يُظَن أنه صداقة .. لذلك قيل إن معظم الملوك لا صداقة ولا صديق لهم ، فأمورهم جارية على توابع السلطان من القدرة والغلبة والهوى والمحبب والمبغض ، وهذه وتلك أبعد ما تكون عن الصداقة . وهذا هو حال « البطانات » ، فهى من الخدم والأولياء ـ مهما علت مناصبهم إلاَّ من ندر .. وهى محكومة بالطاعة والصدوع والنفاق والرياء والمصانعة ، وهذه خصال لا تنتج صداقة ، ولا مجال لها بين الأصدقاء . لذلك لم تصح للملوك و المستبدين أحكام فى الصداقة وآصرتها ومعناها .
أما أصحاب الضياع والإقطاعيات وثروات المليارات فى العصر الحديث ، فليس لهم ـ فيما يقول التوحيدى ـ عير ولا نفير فى الصداقة ، كذلك غلاة التجار المشغولون بالتربح الذى يسد بينهم وبين المروءة ، ويحجزهم عن المشاعر الإنسانية التى تولد الصداقة وترعاها . وقد تعز الصداقة بل كثيرًا للأسف ما تعز , بين الكتاب وأهل العلم ، لأن الغيرة والتحاسد والتمارى والخصومات ، تذهب بالصداقات وتستبدلها بالمصانعات !
فهل حقيقة ما يقوله التوحيدى من أنه « لا صديق ولا من يشبه
الصديق » ؟!
لا أعتقد أن هذا صحيح على إطلاقه !
الصديق موجود ، ولكنه عزيز ونادر !
أما أشباه الأصدقاء فهم كُثُر ، الذين يتشبهون بالأصدقاء ، ولا صداقة لهم !
يقال إن الكريم يخلص الود فى اللقاء وفى الغيبة ، وإن اللئيم يصبر على إخفاء ما بنفسه من مقت وكراهية وحسد وبغضاء !
ظنى أن العيب فى عدم التشخيص وانحراف بوصلة التقييم ، وخطأ « التصنيف » ـ لا فى الصداقة .
قد تخطئ البوصلة أحيانًا ، ويخطئ التصنيف أحيانًا ، ويصيب النفس مرارة الغدر والخيانة فى كثير من الأحيان .. ولكن هذا وذاك لا ينبغى أن يسود صفحة النفس ، ولا أن يفشى التشاؤم .. فلا تزال الدنيا عامرة بأصدقاء خلصاء ، محبتهم صافية ، ووفاؤهم نادر وعزيز ، فيهم الخير والبركة ، والعوض عن الخيانات والخونة , الذين يذهبون بغدرهم إلى حيث ألقت !

أشرف زهران

صحفي مصري، حاصل على بكالريوس إعلام، ومحرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين، ومكتب النقيب،
زر الذهاب إلى الأعلى