زحف الدنيا وصفاء الإيمان! (3)

من تراب الطريق (965)

زحف الدنيا وصفاء الإيمان! (3)

نشر بجريدة المال الأربعاء 28/10/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الرغبة والأهواء وكذلك الأطماع والمخاوف وأنواع وألوان اليأس والتدمير ـــ هي كلها أحوال تتداول الآن بكثرة لم تشاهد من قبل لدى البشر أينما وجدوا .. زادت وكثرت هذه الأحوال نتيجة الاستغراق في استغلال العقول واستخدام حيلها التي لم يعد لها حدود في جميع المجالات والمستويات ، ولم تجد هذه الحيل ضابطًا لها يوقفها أو يلطفها !.. فهل يمكن أن يفتح لنا باب الاتصال والتعامل مع الكون العظيم بابًا يوسع آفاقنا ويحد من هذا الجنوح ويجعل أغلبية الآدميين يحكمّون عقولهم أولاً وأخيرًا في العالم الواسع الذي فطنوا أخيرًا إليه وإلى قيمته التي ليس لها حد .. هذا التفطن الذي لم يأت إلاّ بعد دهور ودهور لا أول لها ولا آخر من الاستغراق في عبادة هذه الأرض وفيما تعطيهم من الغلو والكبرياء والقسوة في جانب ، ومن الفقر والفاقة والجهل والهلاك بغير مقابل في الجانب الآخـر الأكثر عددًا وآلامًا وشقاءً وإهمالاً وتجاهلاً !

علمًا بأن كافة علماء وأقطاب العلوم الوضعية الحالية في بلاد العالم جميعًا .. هم ومدرسوها ودارسوها في المدارس والمعاهد والجامعات والمعامل ــ لا يخدمونها إلاّ لكسب المال كشأن القائمين على تطبيقها واستخراج ما يمكنهم استخراجه منها من المواد والأدوات والأجهزة والماكينات في المعامل والمصانع والصيدليات والعيادات والمستشفيات .. لا يتخلصون في خدمتها من هذا الحرص على كسب المال من أهل المال والحكومة والصناعة والتجارة والمهن والحرف ، ثم من أجل انتشار الشهرة والسمعة ودوام الاختراع وترويج ما يرى أصحاب الشأن والمصلحة ـ ترويجه وإقصاء ما ينبغي في نظرهم التخلص من وجوده أو من ترويجه .

فما تزال « أنا الآدمي » مسيطرة سيطرة تكاد تكون مطلقة على العلوم الوضعية ونتائجها وآثارها وأغراضها البشرية الحالية سيطرتها على عواطف الآدمي وآماله وأحلامـه .. وعلى متاعبه وأعبائه ومخاوفه وأحزانـه وويلاته .. لأن « ذات » أو « أنا » كل آدمي بغير استثناء ـــ « إلاّ الأنبياء في نبواتهم » ــ  تتحكم وتتسلط عليها أطياف حلوها ومرها من قديم الزمان دون مقاومة تذكر .. لأننا لم نشهد إلاّ هذه الأرض.. ولم نعرف معنى الكون العظيم حقيقة حتى اليوم برغم الخطى الحديثة الهامة التى خطاها القلائل في السنين الأخيرة .

يجب أن يتحرك معظم البشر جادين مصرين مستبسلين ــ إلى نقل اهتمام معظم ما نشعر به ونحافظ على استمراره وتنميته في حياة كل منا حاضره وأمله ومستقبله ــ إلى الاندماج باطراد فى الكون .. وسيلتنا الأولى والأخيرة ثقتنا فيما منحنا من قدرة عقولنا وإمكاناتها ملتفتين إلى الحرص على تجنب تدنى العقل ، وتحاشى استعباد قدراته واستخدامها في الجري وراء الأوهام والأحلام الكاذبة التى قواها وسلطها علينا الانحصار فى قبضة الأرض وفقدان القدرة على التبصر بهذا الكون العظيم الذي طفقنا الآن نرتاده ارتيادًا من المنتظر أن يتسع على مر الأيام  ونمو واكتشافات العلوم .

والآدمي دائمًا ابن عصره هو .. خيّرًا كان أو غير خيّر.. عاقلاً أو غير عاقل .. عالمًا أو جاهـلاً . لا يمتد عقله كثيرًا ولا خيره أو علمه إلى العصور التالية لعصره إلاّ جزئيا .. تتضاءل جزئية امتداده كلما زاد توالى العصور وزاد معها تأخر عصره وزاد ابتعاد ماضيه .. وهذا الانسحاب أو التراجع من خصائص حياة كل آدمى بغير استثناء .. فيتقادم شيئًا فشيئًا معظم ما كان في أيامه جديدًا  فيدركه القدم أو الانطمار .. ويحل ما جد أو استجد مكانه من الأحياء والأجيال الجديدة محل الكثير من سابقه وماضيه .. هذه قسمة أو حظ الآدمي الجديد الحىّ في تكوين حياته .. وهو لا يستطيع مهما اجتهد فى التمسك بالماضي أن يحول دون ظهور الجديد وتسيد هذا الجديد على ماضيه وماضي آبائه .. ربما لطفت القرابات من الشعور بهذه التغيرات المتتالية مع توالى الأزمان والأجيال.. يظن الآدمي ويتخيل أنه مازال يجرى على ما كان عليه هو وآباؤه وأجداده ، وأنه تجمعه وإياهم نفس الدنيا ونفس المعالم ، وأن الحياة باقية كما هى لم يتغير فيها شىء ، مستمرة في بقائها واستمرارها وثباتها برغم خطو الزمن الذي لا يكف عن الزحف والتقدم في العمر الذي لا ينقطع لكى ينتهى .. ولكى تسير البشرية بتغيير وتجديد الأحياء وإزالة الأموات .. فلا يبقى من هؤلاء إلاّ بعض الأسماء وقليل من الأخبار والآثار يرددها بغير دقة من يأخذ مكانهم ، أو يذكر القليل من الباقي من سيرهم المتداولة .. فبقاء أي منا على هذه الأرض منذ وجدنا أنفسنا .. مبنى على دوام صوره من التكرار على دوام الأعمار ..  فهذه مهما طالت في نظر بعضنا وقتية محدودة وزائلة بالحتم !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى