رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (4)

من تراب الطريق (996)

رشاد العقل بين سلطان الذات وقبضة الأرض ونواميس الحياة (4)

نشر بجريدة المال الأحد 13/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

قد فقد البشر في أيامنا هذه معظم معالم ماضيهم دون أن يحسوا.. كانوا جماعات يتميز بعضها عن بعض ــ ليس باللون واللغة فقط ـ بل بالمحافظة على العادات والأذواق والقيم . واختلطوا الآن حتى مع اختلاف البلاد والأقاليم اختلاطًا مزعجًا لسهولة طرق النقل أو الاتصال البرية والبحرية والجوية، وما يصاحب ذلك من تغير وسائل الكسب سواء برفع الأسعار تبعًا للإتقان والجودة، أو بخفضها بسعة العرض وإفساح المجال الهائل الواسع للتوزيع الذي لا أول له ولا آخر.. مما يتيح للبائع في الحالين مكاسب هائلة مع الرخص النسبي لكل مشترٍ.. وتلك الحركة انكسر نجاحها اليوم في الكثير من بلاد العالم، بسبب اجتياح البطالة وسقوط معظم العملات الورقية.. فطفق أغلب الناس يعانون أتعس صور الحياة ماديًا ونفسيًا، ولم يَعُدْ يوجد في دنيانا الآن باقٍ حقيقي من الجد الذي يُحسُّ فعلاً ــ اللهم إلاّ الحيرة والأسى وعدم الثقة وقلة الذمة وكثرة الكلام والإيهام والاتهام !!

هذه العتمة الكثيفة لم يوجد مثلها من قبل.. ربما لأن البشر لم يصلوا من قبل إلى ما صاروا عليه الآن من كثافة اللدد والغرور الآخذ بخناقهم في مثل هذا الضيق الذي يسد مسالك الفرج في كل اتجاه أمامهم . فهل تتاح لهم فرصة تجربة الاستعانة بالفضاء الواسع وأحكام الاتصال الواعي المثمر المستمد بالكون ؟!

إن إطلاق الآدمي لعقله من قبضة « الأنا »، بمطالبها وأهوائها ـ حرىّ به أن يحقق له رؤيـة ما تخفيـه « الأنا » مما هو وراءها وأمامها . وهذه الرؤية هي رؤية الكون بعين الآدمي الضئيلة، التي لم يُنمها بعد حتى الآن لقلة استخدام « الأنا » للعقل في أغراضها وعدم انصياعها لأحكامه في الأغلب الأعم.. والتفات الآدمي لهذه الحرية في النظر والفهم ــ وبلا استخفاف وكبرياء ــ مكسب هائل يخلصه من ربقة الأرض إلى سعة الكون وينسيه حتمًا مطامع « الأنا » ومخاوفهـا التي كونتها عادات وأعراف لا أول لها ولا آخر !

نقول ــ هذه الحرية الفعلية المنطلقة من أسرها تتجاوز رحاب « الأنا » الحالية كما نحسها ونعرفها الآن . دون أن تلغى وجودها أو تخمد فردية الآدمي فيها، بل ترتفع إلى مساواة « الأنا » كصديق عاقل ورفيق لا غنى عن الإنصات إلى حكمته والأخذ بها لأنها لا تنحاز إلى غاية شخصية ما ــ بل تتخطى هذا الحائط القريب القديم جدًّا الذي يقف لديه حتى الآن عموم البشر.. لأننا بعامة نكتفي بإجلال عموميات الفضائل التي وافقنا عليها ـ دون أن نحاول جادين الالتزام بكل معانيها تفصيلا.. رضيت «أنا » كل منا أو لم ترض. فموقف جميع البشر ــ موقف أناني إلى الآن ــ تختلف أنانيته بين الآدميين درجات كثيرة في هذه الجماعة أو تلك وفي هذا العصر أو سابقه !

فتخلصنا من أنانيتنا الفائقة السائدة الآن وفي المستقبل القريب ــ واجب ضرورى مُلِحّ لبقاء البشرية ـــ إن كنا جادين في ألا يهلك هذا الجنس إلى غير رجعة.. إذ لا يكفي لبقاء الحضارة البشرية تقدم الصناعات وتطورها وتقنيتها الهائلة لأغراض الآدميين في كل اتجاه.. ذلك لأنها لا تقابل قط من جماهير البشر بعمق الفهم والإدراك واليقظة، بل تجتذب الجماهير إليها بالإغراء أو الإغواء السطحي الأناني لأجل إشباع الكسب ثم إطفاء الرغبة.. فهل يمكن في مستقبل قريب أن يتوقف هذا التقابل والتبادل الشديد الإيذاء والإفساد مـن الجانبين ؟!.. لا ندرى !!!

ثم من آلاف السنين كانت الصناعة والتجارة ــ ومازالتا حتى اليوم ــ من حرف المحترفين للكسب المادي والتوسع فيه بين الجمهور المحتاج أغلبه إلى ما يلزمه، وبين الخاصة والأغنياء المشوقين إلى التجمل والتميز والابتكار والافتخار.. لا مدخل في ذلك كله إلى العقل وحده، بل إلى العقل كخادم للبائع المتكسب وكخادم للمشترى المحتاج أو المشترى الثرى أو الذي يظن أنه في طريقه إلى الثراء.. ولأن الاحتراف مقصده الدائم والأول هو الحصول على الرزق ــ فإن عنايته بالعقل والدين والقيم والأخلاق تكون محدودة حتمًا، بينما تكون علاقاته بأنانية الفرد ومصالحه الفردية قوية.. لا يمكنه أن يتخطاها إلى سواها.. وعلى المحترف أن يراعى الحرفة ومعها ما أمكنه أن يصل إليه من العقل والدين والقيم والأخلاق، وربما يكون لتغاير قوة هذه المصالح لدى المحترف ما يعطيه بعض الحق الشخصي في التفضيل أو التقديم أو التأخير بينها !!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى