خاتمة المطاف بين التفكير والدين في الإسلام

خاتمة المطاف بين التفكير والدين في الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 22 / 7 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

واقع الأمر أن كتاب الأستاذ العقاد: « التفكير فريضة إسلامية »..كتاب فريدٌ في بابه، لا أقصد بذلك أن أحدًا لم يكتب في موضوع العقل والإسلام، أو العقل ودوره في الإسلام، إلاّ أن كتاب الأستاذ العقاد فريدٌ في بابه، بل وبدءًا من عنوانه الذى حرص على أن يعلن أن التفكير « فريضة إسلامية »، وهو لا ينفرد فقط في قوة ومغزى ودلالة هذا العنوان على مساحة العقل والفكر في الإسلام، وإنما انفرد أيضًا في شموله وتعدد جوانبه والعمق الذى تناول به كل جانب من هذه الجوانب، ولست وحدى العاشق لهذا المؤلَّف بالذات من مؤلفات العقاد، وإنما عشقه أيضًا الأستاذ الكبير المرحوم أحمد بهاء الدين، حتى إنه كتب غير مرة في عموده الشهير بالأهرام، يطلب أن تقرر وزارة التربية والتعليم هذا الكتاب في مناهجها للمدارس الثانوية بدلاً من تبادل عبقرية عمر، وعبقرية خالد. وهما بالفعل من عبقريات الأستاذ العقاد المتميزة، وجديران بأن يُنتقيا للتدريس ويتم تبادلهما ـ احترامًا لهما ـ على التوالي من سنة لأخرى، إلاَّ أن ظني ما اقترحـه الأستـاذ أحمـد بهاء الدين كان جديرًا ـ لا يزال ـ بالقبول، لأنه يفتح عقول الناشئة في هذه السن على أهمية العقل وإعماله والتفكير به، لاسيما لتعدد الجوانب الثرية التي عولجت في هذا الكتـاب الفريد.

فهو في إطار فريضة التفكير في الإسلام، تناول العقل بوظائفه المختلفة للتدليل على أن القرآن احترم العقل بكل وظيفة من هذه الوظائف، العقل المدرك، والعقل المفكر، والعقل الحكيم، والعقل والتفكير في مقابل الجمود والعنت والضلال والإضلال، ليعرج للحديث عن الكهانة، وكيف أنها ـ احترامًا للعقل وحرمة الإنسان في أن يفكـر ويختـار ـ لا مكان لها بتاتًا في الإسلام، وأنه لا سلطان لأحد باسم الدين على عقل غيره، وأن غاية ما يطلب من الفرد إذا أعياه الفهم أو أراد تعميق معرفته بشيء من شئون الدين ـ بأن يسأل أهل العلم من العلماء، لا للخضوع لسلطانهم، وإنما للفهم عنهم بالاستعانة بعلمهم الذى يُبذل لمن يطلبه، ولا يفرض جبرًا على أحد.

وقد كان من فضل الإسلام، في إعلائه العقل والتفكير، أن أزال الموانع التي تعطل العقل وهى كثيرة، استقصاها القرآن الحكيم ـ وتتبعها الأستاذ العقاد ـ كما استقصى ملكات العقل ووظائفه، وأكبر هذه الموانع: عبادة السلف، والعرف الفاسد، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية التي لم يقرها الإسلام برفضه للكهانة، وأخيرًا الخوف المهين من أصحاب السلطة الدنيوية.

وحض الإسلام على هذا كله، وأجاد الأستاذ العقاد كدأبه ـ في إبحاره في هذا الباب، ليخرج منه إلى دور العقل والتفكير في المنطق، وفي الفلسفة، وفي العلم، وفي الفن الجميل، وفي مسألة المعجزة، وتميز نبوته بأنها نبوة هداية وليست تنجيم أو الادعاء بالاطلاع على الغيب، وكيف أن ذلك كله قد أتاح بل وأوجب الاجتهاد في الدين وصولاً إلى تحقيق الفهم الواجب الذي لا غناء للنصوص عنه، فالفهم المغلوط يؤدى إلى السلوك المغلوط والخروج على الدين باسم الدين.

ولا تعارض بين الصوفية وبين إعمال العقل، والمزية الخاصة للصوفية هي مزية الإيمان بالله على الحب، لا على الطمع في الثواب، أو الخوف من الحساب والعقاب.

وتوالت في ذلك مأثورات الصوفية، أبرزهم ابن عربي، وابن الفارض، وذو النون، واليافعي ورابعة العدوية التي قالت في إحدى مناجاتها:

أحبك حبين حب الهوى: وحبًّ لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى: فشغلي بذكرك عمّن سواك

وأما الذي أنت أهل له: فكشفك للحجب حتى أراكا

وما الحمد، ذا وفي ذلك لي: ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

ولا تعارض بين العقل وبين الصوفية بنوعيها العظميين؛ نوع العقل والمعرفة، ونوع القلب والرياضة، وهي نوعان أيضًا من حيث موقعها من الدنيا: نوع يتخطاها وينبذها، ونوع يمشى فيها ويصل منها إلى الله.

وكل هذه المذاهب قد عرفت في الإسلام على أوفاها.

ومن الصوفيين طُلاب المعرفة من يحسب في عداد الفلاسفة والأفذاذ، ومنهم من لا نظير له كالغزالي وابن عربي، وذي النون المصري.

أما الصوفيون القليبون فإنهم يلتمسون المعرفة المباشرة برياضة النفس على قمع الشهوات.. تلك الشهوات التي تحول بين الإنسان وبين النور، فإذا ملك زمامها، تكشف له النور ووصل إلى مرتبة العارفين.

وفي الختام: نعم: الفكر والدين يتفقان.

نعم يدين الإنسان بالإسلام وله سند من الفكر وسند من الإيمان.

ولكنه يأمل أن يجيب على سؤال ثالث: هل يؤمن عقل الإنسان بالدين في هذا العصر ؟ ويرى فيه دينًا أحق بالإيمان به من الإسلام ؟

أما أن يؤمن الإنسان بالدين في أعماق وجدانه بمعرفة الفكر، فذلك بحث طويل لا يُسْتقصى في سطور ولا في صفحات، ولكنه مع خلوص النية ـ يتضح جليًا مبينًا عن حقيقة واحدة، وهى أن الإنسان جزء من هذا الوجود غير المحدود، لا بد من صلٍة عميقة تربطه به أبعد غورًا من الصلات الحسية التي تحصرها العلوم المتغيرة.

فكيف تكون هذه الصلة ؟

إن فكر الإنسان محدود ينقطع دون نهاية من هذا الوجود الذى ليست له حدود.

لا بد أن يؤمن الإنسان لأنه ذهب بالفكر إلى نهايته ولم يبلغ النهاية، ولا بد له من طريق يهتدى إليه الفكر ولكنه لا يستعصيه.

وإذا آمن الفكر بهذا، فأي دين يختاره للجماعة الإنسانية أفضل من دين الإسلام ؟

إن المسلم يعتقد من دينه « في الإله » وأنه رب العالمين، وليس كمثله شيء، وهو بكل شيء محيط، لا يحابى ذرية دون أخرى، ولا يختص بالنجاة فريقًا دون فريق، ولا يميز أحدًا بغير التقوى والعمل الصالح.

وهو يعتقد « في النبي » أنه رسول هداية، يعلم ما علمه الله، ولا يعلم الغيب إلاَّ بإذن الله، يخاطب العقول بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يقسرها على التصديق بالخوارق والأعاجيب، ولا يملك لأحدٍ نفعًا ولا ضرًا إلاَّ ما يكسبه لنفسه ـ بعمله ـ من خير أو ما يجنيه عليها ـ بعمله ـ من خسار.

ويعتقد المسلم « في الأنبياء كافة » أنهم رسل الله بالهداية، يصدقهم حين يصدق برسالة نبيه، بأنهم بشروا ونذروا حتى لا يهلك أحدٌ، من الخلق بغير بشير ونذير.

ويعتقد المسلم « في الإنسان » أنه مخلوق مسئول عن عمله وعن نيته، إن عمل صالحًا فلنفسه وأن أساء فعليها. يؤاخذه الله بذنبه لا بذنب غيره أو بذنب لم يقترفه، وينجيه بتوبته ولا ينجيه بكفارة لم ينهض هو بثوابها.

ويعتقد المسلم في « بنى الإنسان » عامة أنهم أسرة واحدة من ذكر أو أنثى، أكرمهم عند الله أتقاهم، وأتقاهم لله أنفعهم لعباده.. يتكاثرون بالأنساب ويتعارفون بالأعمال والأسباب، فإذا نصبت لهم الموازين فلا حساب يومئذٍ بالأنساب والأحساب.. ويعتقد المسلم « في الدين » أنه عهد بين المرء وخالقه، أينما كان فثم وجه الله..

فإذا ما أعمل المسلم التفكير الذي يوجبه الإسلام، لوجد أن كل منحى من مناحي العقل وتقديراته ينتهى به إلى نبذ ما غير الإسلام.

إن حاجة النفوس إلى العقيدة في الجماعة الإنسانية برهان وأي برهان.

وبرهان الجماعة حق في العقل وحق في الواقع، وعلى الإنسان الأمين لعقله ونوعه أن يفطن لهذا الحق.

وفي العالم اليوم جماعة إنسانية تعد بالملايين، وقد بلغت الآن بعد تاريخ كتاب الأستاذ العقاد أكثر من المليار ومائتي مليون من المسلمين.

هذا هو الإسلام.

بِنيةٌ حية تذود عن عقيدتها فتذود عن كيانها أو تموت.

إنه ما دام للجماعة الإنسانية دين، فلا بديل لها عن الإسلام..

هذا الدين الذي يهديها إلى الفكر ويهديها الفكر إليه.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى