بزوغ فجر مصر الحديثة (1)

بزوغ فجر مصر الحديثة (1)
نشر بمجلة الدبلوماسى عدد نوفمبر / ديسمبر 2021
ــــــ
بقلم  نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
وجدتنى استرجع ما مَرَّ بنا ، أمس وقبل الأمس ، وما نرنو إليه خلاصًا مما صرنا عليه ، وأملاً فى مستقبل يعيد سفينة الوطن إلى مسارٍ صحيح ، وجدتنى أعيد قراءة نهضة مصر الحديثة التى نهض عليها ـ من قرنين ـ حاكم من أصل غير مصرى ، هو الألبانى التركى محمد على باعث مصر الحديثة ، وشيخ معمم هو رفاعة الطهطاوى ، أعطى من جلاء البصيرة ومن الهمة المحمودة ، ما استوعب به ما أتيح له الإطلال عليه فى باريس ، وطفق به وبغيره مما حباه الله به ، يقود تيارًا تنويريًّا إصلاحيًّا يضع به مصر فى قلب العصر الذى تخلفت طويلاً عنه!
من حق الدكتور محمد كامل ضاهر ، الكاتب والمفكر والسفير اللبنانى السابق ، وصاحب العطاء العريض ، أن أسجل ابتداءً أن كتابه عن صراع التيارات فى الفكر العربى الحديث والمعاصر ، كان المحرك الذى شدنى وأمدنى بمعين كدنا ننساه عن هذا الإنجاز الفذ الذى حققه محمد على ما بين سنة 1805 وسنة 1849 ، ولباه فيه ، وساعد عليه ، عن إيمان وإخلاص ، وجدارة واستحقاق ، رفاعة الطهطاوى ، الشيخ المعمم الذى لم ينسلخ من دينه ، ولكنه فهم
روحه ، وأطل على الحضارة القائمة فى العالم من حوله ، فسخر حياته لشد مصر والمصريين إليها ، ومنها إلى العالم العربى الذى كانت مصر على الدوام فى القلب منه ، وصاحبة التأثير العريض فيه .
إصلاح القطاع الزراعى
كان طموح محمد على تنفيذ مشروع سياسى ضخم , مركزه مصر , فى إطار أقطار عربية لها خصائصها اللغوية والتاريخية والثقافية , وذات الشخصية المتميزة عن العثمانيين رغم وحدة
الديانة , ووجد محمد على حافزه ورؤاه , فيما ألفى عليه تنظيم جيش نابليون والبعثة العلمية التى رافقته فى حملته على مصر , فبدأ هذا الحاكم ـ غير المصرى الأصل ـ بإصلاح القطاع الزراعى , فألغى نظام الالتزام صاحب السمعة السيئة , والآثار الأسوأ , والإقطاع المملوكى بعد أن خلص مصر من وطأة المماليك , ووزع الأرض على الفلاحين , وعين مفتشين لحثهم على زراعتها وعدم إهمالها , مبديًا أننا ندين برفاهيتنا للفلاح .
وجه محمد على عناية خاصة بمحاصيل معينة , كالقطن والأرز والنيلة وبعض المحاصيل الأخرى , ملتفتًا إلى صلاحية بعضها للتصدير , وأدخل نوعًا جديدًا من القطن استنبته الخبير الفرنسى « جوميل « Jumel », والذى نال شهرة واسعة فى أسواق القطن العالمية , كما نفذ بمساعدة أتباع « سان سيمون » الفرنسيين , برامج واسعة لأعمال الرى الدائم , كان أهمها بناء « القناطر الخيرية » على فرعى دمياط ورشيد بنهر النيل , مما أدى إلى زيادة مساحة الأراضى المزروعة من مليونى فدان سنة 1821 , إلى 3.1 مليون فدان عام 1833 , وخلال الأعوام من 1809 حتى 1815 , ملَّك الدولة أراضى الأوقاف ( الرزق ) , وتكفلت الدولة بصيانة المساجد ومرتبات رجال الدين . كما اعتنى هذا الحاكم الرشيد , بوضع الإنتاج الزراعى تحت إشراف الدولة كغيره من القطاعات الإنتاجية الأخرى , فكانت الحكومة تشترى ثم تبيع المحاصيل , وللتنسيق وضمان عدم إرهاق الأراضى بالمزروعات التى ترهقها , ولتنظيم توفير المياه للمحاصيل ـ كالأرز ـ التى تحتاج إلى رى وفير , عنيت الحكومة بأن تحدد للفلاحين ـ كل عام ـ مساحة ونوعية ما سوف يزرعونه من الأراضى , وما سوف يبيعونه منها للحكومة .
إنشاء جيش وطنى حديث
لا شك أن التحولات الزراعية العميقة ، كان لها مردود اقتصادى وفير ، على الفلاح ، وعلى الدولة ، ومهد ذلك الطريق لإنشاء جيش وطنى حديث ، بدأ محمد على نواته الأولى بعسكريين من الألبان والأتراك والجراكسة والمماليك ، ثم شرع فى تجنيد الفلاحين المصريين بعد الانتهاء ـ سنة 1818 ـ من الحملة ضد الوهابيين ، وبفضل هؤلاء الفلاحين ، حقق محمد على ونجله إبراهيم باشا ، انتصارات باهرة فى سوريا .
بدأ تدريب هذا الجيش الوطنى ، بضباط فرنسيين وإيطاليين وبروسيين وإسبان ، ولعب الضابط الفرنسى جوزيف سيف ، الذى تسمى بعد إسلامه بلقب « سليمان باشا الفرنساوى » ، وكان تمثاله يحتل ـ عرفانًا بفضله ـ ميدان طلعت حرب الحالى ، فقد أدى هذا الرجل الذى أسلم دورًا بارزًا فى إنشاء جيش مصر الوطنى . وأنشأ محمد على المدارس الحربية المتخصصة لإعداد وتخريج الكوادر اللازمة لأسلحة الجيش المختلفة ، كمدرسة المشاة ، ومدرسة الخيالة ( المدرعات فيما بعد ) ، ومدرسة المدفعية ، والمدرسة العسكرية العليا والتى كانت برامجها مطابقة لبرامج مدرسة « سان سير » الفرنسية الشهيرة ، وفى عام 1825 أنشئت أكاديمية الأركان العامة ، ثم مدرسة الموسيقى العسكرية فى العام التالى ، ثم مدرسة الهندسة عام 1834 .
وكان قد اتسع الجيش الوطنى فى عهد محمد على ، اتساعًا كبيرًا بلغ تعداده فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر 180 ألف جندى نظامى ، فضلاً عن وحدات غير نظامية بلغ تعدادها نحو 40 ألف شخص . واستكمالاً لهذه الطموحات لجيش مصر الوطنى ، قرر محمد على إنشاء أسطول بحرى جديد بعد تحطم الأسطول القديم فى معركة « نافارين » البحرية ، التى دارت سنة 1827 بين الأسطولين المصرى والتركى من ناحية ، وأساطيل إنجلترا وفرنسا وروسيا من ناحية أخرى , ودارت المعركة أمام ساحل نافارين .
اقتضى إنشاء الأسطول البحرى المصرى ، تشييد ترسانة الإسكندرية لبناء السفن , وهيأ محمد على لها الكوادر الوطنية من العمال المهرة لتحل محل العمال الأجانب الذين عملوا فيها فى بادئ الأمر ، وبلغ عدد العمال المصريين حوالى ثمانية آلاف عامل بهروا العالم بأعمالهم فى بناء السفن ، فى الوقت الذى استحدث فيه محمد على المدرسة البحرية العسكرية لإعداد كوادر القيادات الوطنية للأسطول البحرى .
على الصعيد الاقتصادى
وعلى الصعيد الاقتصادى , حاول محمد على القيام بثورة صناعية إلى جانب الجيش الوطنى ، فشيد العديد من المصانع والمعامل لسد حاجة الجيش من العتاد والمؤن , كمصنع صب الحديد والمعادن , والمعامل الثلاثة لصناعة الأسلحة على طراز المصانع الفرنسية , ومصنعًا للبارود ، هذا إلى مصانع الأقمشة وفتل الحبال , ومصانع النسيج والطرابيش والزجاج والدباغة والورق والمواد الكيمائية , والسكر ومنتجات الألبان .
استوعبت هذه المصانع عمالة بلغت نحو 50 ألف عامل , ومع أن العمل استلزم الإعلان فى مالطة فى أبريل 1814 عن طلب عمالة أجنبية من كافة التخصصات للعمل فى مصر , إلاَّ أنه كان فى مخطط محمد على الاستغناء عن الصناعات الأجنبية , ثم منافستها والحلول محلها فى أسواق الشرق الأدنى , وقد كان هذا النشاط العريض , مصدرًا لموقف عدائى أقدمت عليه القوى الاستعمارية تحسبًا لمخاطر الصناعة المصرية مستقبلاً على التجارة الأوروبية .
ومع أن محمد على , هذا الحاكم غير المصرى الأصل , كان أميًّا تمامًا , فإن اللافت أنه فى مشروعه الإصلاحى لمصر , جعل أكبر اهتماماته نشر التعليم الحديث , خصوصًا الحرفى والمهنى , فأرسل عشرات الطلاب فى بعثات دراسية إلى فرنسا , وإلى إنجلترا والنمسا وإيطاليا , شملت تخصصات القانون والسياسة والطب والزراعة والكيمياء والهندسة المعمارية والطباعة والخط , والهندسة العسكرية والمدفعية , والميكانيكا , وبناء السفن , وصناعة النسيج , وغيرها . وبلغ مجموع هذه البعثات بين عامى 1813 و 1847 , 319 طالبًا , عادوا تباعًا مؤهلين بزادٍ لعبوا بمقتضاه دورًا بارزًا فى تطور الحياة العلمية والثقافية فى مصر , بما فى ذلك التدريس فى المدارس الابتدائية والثانوية والمهنية المجانية .
وفى عام 1822 , افتتح محمد على « مطبعة بولاق » ، وهى أول دار للطباعة فى مصر , وأعدت لتطبع باللغات العربية والفارسية والتركية , وبفضلها أتيحت للمصريين نصوص مهمة من تراث الآداب والعلوم العربية , وترجمات لأفضل الكتب الفرنسية والإنجليزية . كما أصدرت الحكومة فيما بعد جريدة « الوقائع المصرية » لنشر المراسيم والقرارات الحكومية , وكذا الأخبار الداخلية والدولية , فكانت هذه الجريدة التى عمل فيها فيما بعد الإمام محمد عبده والزعيم سعد زغلول , أول تجربة صحفية مصرية . وكان من المشروعات التعليمية الثقافية اللافتة والمؤثرة , مدرسة الألسن الشهيرة , التى استعانت وقت إنشاء محمد على لها بمدرسين إيطاليين , وكانت اللغة الإيطالية أول لغة أجنبية تدرس فى مصر , ثم استعيض عنها بالفرنسية , والتى حملت معها أفكار فولتير وروسو ومونتسكيو وغيرهم من مفكرى عصر التنوير والثورة الفرنسية , فى الوقت الذى أتيح فيه لطلاب البعثات قراءة أمهات الكتب الفرنسية ومشاهدة تطور الحياة واصطراع الأفكار القديمة والحديثة فى أوروبا . وكان بين أمهات كتب الفكر التى تُرجمت إلى العربية « روح القوانين » لمونتسكيو ، وكتابه « تأملات فى أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم » , والعقد الاجتماعى لجان جاك روسو , فضلاً عن الدستور الفرنسى الذى كان معمولاً به فى ذلك الوقت .
وكان محمد على , أول حاكم على مصر يفصل بين علوم الدين ومركزها الأزهر الشريف , وبين العلوم الطبيعية والعقلية ونهضت عليها المؤسسات التعليمية التى أنشأها وقد تبلور هذا الاتجاه بعد محمد على , فأنشئت دار العلوم سنة 1872 , ومدرسة القضاء الشرعى سنة 1907 , ثم الجامعة المصرية سنة 1908 , التى بدأت أولى بشائرها فى عهد محمد على كالمهندسخانة والمدرسة الطبية سنة 1827 , قبل أن تغلقا فى عهد الخديو محمد سعيد , ثم بدأ يتوالى إنشاء كليات الجامعة المصرية , وبدئ بالهندسة , ثم بالحقوق التى كان اسمها فى البداية مدرسة الحقوق السلطانية , ثم مدرسة الحقوق الملكية , قبل أن تحمل مسمى كلية الحقوق وأخذت الجامعة فى البداية اسم « الجامعة المصرية » , حيث اجتمعت جمعيتها العمومية الأولى فى 31 يناير 1908 , وتقرر فيها قبول الأمير ـ آنذاك ـ أحمد فؤاد لرياسة الجامعة , ثم أعيد تسميتها لاحقًا ـ باسم جامعة فؤاد , ثم باسم « جامعة القاهرة » بعد ثورة يوليو 1952 .
ووعى محمد على , ضرورة تكوين جهاز إدارى متطور للدولة , يتماشى مع مشروع الإصلاح التحديثى الضخم , وإذ كان هناك نقص ـ آنذاك ـ فى الخبرات الوطنية , فقد استعان محمد على بخبراء أجانب , وأنشأ جهازًا مركزيًّا للدولة , واستحدث عددًا من الوزارات تحت اسم « نظارات » ـ على الطراز الأوروبى , مع تحديد وظائف كل منها تحديدًا دقيقًا , فصارت وزارة أو نظارة الحربية مسئولة عن شئون الجيش والأسطول , ووزارة أو نظارة المالية مسئولة عن جباية الضرائب وما يتعلق بها , ووزارة أو نظارة التجارة مسئولة عن شئون الاحتكارات والتجارة الخارجية , ووزارة أو نظارة التعليم العام مسئولة عن فتح وتشغيل وإرسال الطلاب فى البعثات التعليمية للخارج , كما أنشئت نظارة للخارجية وأخرى للداخلية , وقسمت مصر إلى مناطق إدارية جديدة , وتركت تجربة محمد على بصمات عميقة فى تطور المجتمع العربى الذى كان ولا يزال يتأثر بمصر .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى