امتطاء جواد الحياة !

امتطاء جواد الحياة !

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 24/10/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا يكف الآدمي عن التفكير في غده ومستقبله ، ماذا ينتظره أو ماذا يخبئ له ، أو ماذا يرجوه فيه أو منه .. والتفكير في المستقبل والتبصر له قديم جدًا كدافع فردى ربما نراه وراء إنشاء الأسرة واستئناس الحيوان وتربيته ، واختيار الموطن ، وممارسة الزراعة والدفاع عن الحيازة والملكية  .

أما تفكير الناس في مستقبل أي جماعة ـ كجماعة ، والتفطن المستمر إلى أهمية مستقبل الجماعة وأثره وانعكاسه على مستقبل الفرد ـ فشيء حديث نسبيا لم يصبح عادة شائعة أو خلقاً أو سلوكاً معتاداً أو سمةً متبعة  في تربية الأفراد وتعليمهم .. ولم يحصل بعد على اعتراف المجتمع بقيمته كفضيلة أو مزية خاصة ترفع من شأن صاحبها في البيئة والمحيط ، ولا يزال هذا التفكير مبهماً غير حاضر بوضوح ، أو قل إنه محمول على معنى المصلحة العامة أو على معنى الوطنية  .

لم يع الناس بعد ، وعيا كافيا ، واقع وطابع حياتهم « الفردية » في هذا العصر ، وأن حياتهم عملاً ـ لم تعد « فردية » بالمعنى الذى كان لها في العصور الماضية .. لأنها صارت في عصرنا تعتمد اعتمادا كليا حتى في الماء والهواء ـ على نوع وكفاية حياتهم المشتركة كجماعة تعيش في بيئة .. وهذا الاعتماد الشامل لن يتناقض بل سيزداد بازدياد اعتماد الجماعات والبيئات على بعضها البعض في مئات الحاجات والأغراض  .

فكل تفكير من جانب الفرد في مستقبل نفسه ومن هم في حكم نفسه ـ يجب في هذا العصر ـ أن يبدأ من التفكير في مستقبل الجماعة والبيئة اللتين يعيش الفرد فيهما .. فهو مهما اشتد عوده ، أو قويت إرادته وإمكانياته ، أو تنوعت أساليبه ووسائله ـ جزء من هذه الجماعة وبيئتها ، يتأثر بها ـ وقد يؤثر فيها ـ شاء أم لم يشأ ، وهى لابد منعكسة بإيجابياتها وسلبياتها ونجاحاتها وعثراتها عليه .. هذا الواقع يفرض أن لا يجتزئ الفرد نفسه أو تفكيره من الجماعة أو المحيط ، وهذه الغاية تستلزم أن يتابع مسار الجماعة وأن يحصل على المعلومات الكافية والانضباط الكافي في الجماعة والبيئة  .

لم يعد في مقدور أحد أن ينفرد بذاته مهما قويت ومهما بلغت ثقته فيها ، ولم يعد في وسع أحد أن يعود بحياته إلى طابع الفردية الذى كان موجودًا في العصور الماضية ، إلاّ أن يكون بقية شاردة من بقايا جماعة في طريقها إلى الانقراض تعيش في صحراء أو غابة استوائية مقطوعة الصلات بالعالم المعاصر .. لا يفكر فيها العالم ولا يُعنى بها لأنه لا يجد مصلحة له عندها تستدعى اهتمامه أو تشد انتباهه .. لذلك فوجودها موقوت محدود بمقدار المدة التي يسمح بها إهمال العالم لها وعدم التفاته إليها  .

والدول قريبة بشكل ما من مصير هذه الجماعات إذا خرجت عن دائرة العصر وعاشت معزولة في الماضي عن الواقع المحيط ، فيتآكل تأثيرها والتأثير فيها ، وتبيت معزولة عن العالم انعزالاً ضريرًا كشأن الياباني الذى ظهر في إحدى الغابات بعد أكثر من عشرين عاما من نهاية الحرب العالمية الثانية ، لا يعرف شيئا في عزلته عن العالم مما جرى وكان في هذه الأعوام الطوال ، وعلى اعتقاده الذى نام عليه ـ يوم العزل ـ في الإمبراطور الذى كان على رأس الدولة وفرضت عليه قنبلتا هيروشيما ونجازاكي أن يرفع راية التسليم بلا قيد ولا شرط !

لا حياة لمن ينعزل عن واقع الحياة ، وحركة التاريخ .. الحياة في صيرورة دائمة ، يخسر ويتخلف من لا يمتطى جوادها ويسير بصيرًا متفطنًا في موكبها الذى لا يكف عن الحركة !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى