النيل مستهدف من قديم (1)

نشر بجريدة الوطن الجمعة 15 / 10 / 2021
ـــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية

أثناء تقليبى فى صفحات الكتاب الثالث عشر ، من « ديوان الحياة المعاصرة » . الأهرام ( 1927 ـ 1930 ) ، إعداد المرحوم الدكتور يونان لبيب رزق ، هذا العمل الكبير الذى استقاه المرحوم الدكتور يونان من صحيفة الأهرام ، معالجًا إياه بخبرته وعلمه التاريخى العريض ، ما جعل هذه الموسوعة تحفة لافتة وديوانًا للحياة المعاصرة والأحوال السياسية فى مصر . صادفنى فى مطلع الفصل الأول عنوان لافت :
ـــــ « هواجس نيلية .. » ــــــ
شدنى العنوان ، لأجد أن أول عناصر هذه الهواجس نشأ من نحو قرن عن أطماع الولايات المتحدة والحبشة فى بيع مياه النيل إلى انجلترا ؟ ، ما أصل هذه الحكاية ؟ وما أوصاف المفاوض الحبشى التى كتبها الأستاذ محمود أبو الفتح الصحفى آنذاك بالأهرام ، وما حكاية التدخل البريطانى الذى أدى إلى إفشال مشروع خزان بحيرة تانا ، وما حكاية إبراهيم زكى . مهندس الرى الشاب الذى بدد مخاوف المصريين ؟
عن ذلك كله يتحدث إلينا الفصل الأول ، بادئًا بأبيات أمير الشعراء أحمد شوقى فى النيل شريان حياة مصر والمصريين ..
من أى عهد فى القرى تتدفق / وبأى كف فى المدائن تغدق / ومن السماء نزلت أم فُجِّرت / من عُليا الجنان جداولاً تترقرق / وبأى عين أم بأية مُزنــة / أم أى طوفان تفيض وتفهق / وبأى نول أنت ناسج بردة / للضفتين جديدها لا يخلـق .
هذه الأبيات من مطلع قصيدة لأمير الشعراء عنوانها « أيها النيل » ، إن دلّت على شىء فهى تدل على الحيرة التى تبدو من مجموعة التساؤلات التى طرحها أحمد شوقى بك دون أن يقدم إجابات عنها .. الإجابات التى ظل المصريون يبحثون عنها منذ أيام الفراعنة ، وكان عجزهم عن التعرف على هذا المجهول هو الذى دعاهم فى النهاية إلى وضعه فى مصاف أعظم آلهتهم .. الإله حابى ، فقد ظل الناس منذ التاريخ القديم يعبدون القوى الغامضة لاتقاء شرها أو لاجتلاب خيرها ، ولعل تلك الأهازيج الشعبية التى ظل المصريون يرددونها مع فيضان النهر كل عام ، إنما تدل على قوة هذه المشاعر المتضاربة .
غير أن كثيرًا من هذه الإجابات قد توفرت بعد بناء الدولة الحديثة فى مصر ، وبعد الحملات التى أرسلها محمد على باشا إلى جنوب الوادى والتى واكبها أو سبقها ، بعثات كشفية كان أشهرها تلك التى قادها سليم باشا قبطان ، ثم زاد الأمر وضوحًا بعد الحملات الاستكشافية التى قادها أوروبيون و أمريكيون ، وأعادوا رسم خريطة « النهر الخالد » على ضوء مكتشفاتهم ، حتى أن بحيرات الهضبة الاستوائية تسمّت بأسماء الأسرة المالكة الإنجليزية .. « فيكتوريا » الملكة الإنجليزية العتيدة ، والتى ظلت تحكم بلادها لنحو خمسة وستين عامًا ( 1837ـ 1901 ) ، والتى أُطلق اسمها على كبرى تلك البحيرات ، الأمير إدوارد ولى العهد ، وأخيرًا ألبرت زوجها ، الذى توفى سنة 1861 وهى لا تزال فى ريعان الشباب ، فقد عاشت بعده أربعين سنة !
ومع أن هذه الكشوف الأوروبية قد كشفت ما كان غامضًا بالنسبة للنيل ، إلاّ أنها أثارت مخاوف المصريين ، وهى المخاوف التى تفجرت تباعًا فى أكثر من مناسبة .. منها إصرار سلطات الاحتلال البريطانى على إخلاء السودان من الجيش المصرى ، الأمر الذى أدى إلى استقالة رئيس الوزراء الوطنى الشهير ، محمد شريف باشا ، عام 1884 ، بعد أن أطلق قولته الشهيرة : « لئن تركنا السودان فهى لا تتركنا البتة » ، وقد عبر رئيس النظار بذلك أقوى تعبير عن « الهواجس النيلية » التى ظلت تتملك المصريين بعد أن بدأ الزحف الأوروبى إلى منابعه !
فقد تأججت مشاعر المصريين عام 1898 بعد أن زحف الفرنسيون من إفريقيا الاستوائية فى اتجاه أعالى النيل ، ولم تهدأ مشاعرهم إلاَّ بعد أن واجه كتشنر باشا قائد حملة استعادة السودان ، الكابتن مارشان ، رئيس القوة الفرنسية التى عسكرت فى « فاشودة » بأعالى النيل ، فقد وقف العالم على أصابعه ، بعد أن تواجهت الدولتان على نحو هدد بقيام الحرب بينهما ، ولم ينته الأمر إلاّ بعد انسحاب مارشان وجنوده .
وتأججت هذه المشاعر مرة أخرى بعد ربع قرن عام 1924 بعد حادثة اغتيال السردار السير لى ستاك ، الأمر الذى دفع اللورد اللنبى ، المندوب السامى البريطانى فى مصر ، إلى إنذاره الشهير لرئيس الوزراء سعد باشا زغلول تضمن سبع مواد ، كان أكثرها فجاجة المادة الخامسة التى جاء فيها : « وجوب أن تصدر خلال 24 ساعة الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصرى المتجهة إلى السودان » ، وكان أكثرها إثارة « للهواجس النيلية » ، ما جاء فى المادة السادسة ، ونصها : « أن تُبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التى تُزرع فى الجزيرة من 30 ألف فدان إلى مقدار غير محدود تبعًا لما تقتضيه الحاجة » .
وقد لا يعلم كثيرون ـــ فيما أبدى الدكتور يونان ــ أن هذه المادة قد كلفت اللنبى منصبه فى القاهرة ، هذا القائد العسكرى الذى بلغت سمعته العسكرية العنان بعد نجاح الحملة البريطانية قيادته فى طرد الأتراك من فلسطين ، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى ، ولم تجد لندن أفضل منه لقمع ثورة 1919 بعد أن تزايد اشتعالها ، وبعد أن أدى ضغطه على حكومته إلى إصدار تصريح 28 فبراير 1922 ، الذى أعطى مصر استقلالاً منقوصًا !
كل ذلك لم ينفع « فخامة اللورد » كما كانت تسميه الصحف المصرية ، ولم ينقض وقت طويل إلاّ وكانت حكومته قد استدعته إلى إنجلترا حيث أبلغه المسئولون أنه لم يعُد « المندوب السامى البريطانى فى القاهرة » .. بين دهشة الجميع وأولهم المصريين .
وظل استبعاد اللورد اللنبى يمثل علامة استفهام للمشتغلين بالتاريخ المصرى حتى عام 1975 ، حيث كان قد مر خمسون عامًا على حادثة السير لى ستاك ، ورفعت الحكومة البريطانية الحظر عن وثائق عام 1924 ، ففوجئوا أن السبب وراء استبعاد اللورد العتيد ، أنه قد تعجل فى توجيه الإنذار المستفز للمصريين دون انتظار موافقة لندن ، فقد أدركت وزارة الخارجية البريطانية أن بنده السادس سيستثير « الهواجس النيلية » لدى المصريين ، بكل ما يترتب على ذلك من اشتعال روح المقاومة لديهم ، إذ تصبح القضية « مسألة حياة أو موت » ، الأمر الذى دعا حكومة لندن بعد فترة قصيرة من سقوط سعد واستبعاد اللنبى أن تعلن تنازلها عما جاء فى هذه المادة ، ولا شك أنها قد وعت بذلك خطورة الاقتراب من هذا « المقدس المصرى » .
غير أنه لم يمض أكثر من ثلاث سنوات إلاّ واشتعلت « الهواجس النيلية » مرة أخرى ، وبشكل مختلف ، فقد ترامى إلى أسماع المصريين أن ثمة اتفاقًا قد أُبرم بين شركة أمريكية وبين الحكومة الإثيوبية لبناء خزان ضخم على أكبر البحيرات التى تمد النيل بمياهه .. بحيرة تانا كما يسميها الأحباش ، وتسانا كما كانت تسميها الأطالس الأوربية ، مما شكل فصلا فى تاريخ « الهواجس النيلية » ، وهو الفصل الذى قدمته جريدة الأهرام بشكل شديد التفصيل خلال شتاء عام 1927 !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى