النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة ( 10 )

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 7/3/2022

ــــــــ

بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية

عن سبق الإصرار ، معضلة الدفاع ، بدأ الأستاذ محمود أبو النصر مرافعته برجاء إلى المحكمة ، ألاَّ يسبق إلى ذهنها أن ما يأتى به من المباحث فى هذا الباب يخالف ضميره ، أو لا تنطبق عليه الحقائق العلمية التى قررها على القوانين وفلاسفة التشريع الجنائى .

للنفس أسرار شتى ، وأحوال يصعب جدًّا أن تُحصر فى كيفية محدودة أو تندرج تحت قاعدة عامة . هذه الأحوال والأسرار ، تختلف إلى ما لا نهاية له ، باختلاف الأمزجة والطبائع بل واختلاف كل فرد عن الآخر .

إن الإرادة هى مناط التكليف ، وعلى مقدار إطلاقها أو تقيدها ـ تكون المسئولية ، ومن ثم وجب النظر فيها وتقديرها فى كل إنسان على حدة ، باعتباره مشخصاته الذاتية ودرجة قابليته للتأثر والانفعال .

هذا البحث فيه من الغموض ، ما يقتضى البحث فيه بدقة !

قد يقال كيف ذلك والمتهم لم يترك قولا لقائل ، حيث قرر لأول وهلة أنه حضر إلى ديوان الحقانية يوم 20فبراير مصممًا على قتل عطوفة الباشا ، فخانته عزيمته ، وأن فكرة القتل عرضت له من وقت ما تحقق أنه خائن لوطنه ، وأنه صمم نهائيًّا على تنفيذ هذه الفكرة من وقت ما أثيرت مسألة القنال ، أما التصميم على القتل فقال أنه منذ أسبوع تقريبًا , وإن تصميمه على القتل كان يوم الجمعة 18 فبراير عندما اشتدت به الحالة العصبية ، ثم راجع نفسه فى ذلك وقال إن نية القتل إنما وُجدت عنده يوم

السبت .

بيد أن هذه الأقوال ، لا تؤخذ كقضية مسلمة للاستدلال بها على وجود سبق الإصرار بالمعنى القانونى والتسليم به دون بحث ولا تدقيق .

المتهم يأتى إلى المحكمة معترفًا بالجريمة ، فلا تحكم عليه إلاّ بعد أن تحقق من صحة اعترافه ومطابقته للواقع ، وكثيرًا ما تقضى المحاكم ببراءة المعترف ، عندما يتبين لها أنه غير صادق فى اعترافه . فالمرجح حينئذ إنما هو استكشاف الحقيقة من أدلتها الواقعية لا من كلام المتهم .

إن أقوال الوردانى ، يخلط فيهـا بين « مرور الفكرة بخاطره » ، وبين « إصراره » . مرور الفكرة بالخاطر ليس إصرارًا بالمعنى القانونى .

وأكثر ما يتطرق الشك إلى الاعتراف ــ فى الجرائم السياسية والشبيهة بها . دلت على ذلك قضايا كثيرة فى فرنسا وغيرها ، يأتى المتهم مبالغًا فى اعترافه إلى حد يكاد يخلق لنفسه تهمة جديدة ليضاعف بها تهمته الأولى . ولعل السبب أن أمثال هؤلاء يرون « الفخار الأكبر » و « الحياة الأبدية » فى أن يقضى عليهم بأقصى العقوبات ، ليقال عنهم إنهم ضحّوا بأنفسهم فى خدمة الصالح العام ، حتى تُخلّد ذكراهم !

مجرد التصميم ليس بكافٍ فى تحقيق معنى سبق الإصرار ؛ بل لابد أن يكون ذلك التصميم عن روّية فى الفكر وهدوء فى النفس وسكون فى الخاطر والحواس ، بحيث يكون الإنسان بعيدًا فى تصميمه هذا عن الانفعالات النفسية والإضطرابات العصبية والمؤثرات الخارجية .

إن أقرب تعريفات سبق الإصرار إلى الصواب هو ما نقله « جارو » فى مؤلفه الكبير عن الأستاذ اليمينا الإيطالى حيث قال : « هو تصميم على الجريمة فى حالة اطمئنان النفس وهدوء الخاطر وسكون الحواس تصميمًا مؤيدًا بترديد الفكر فيه والركون إليه عدة مرات مع هذا الاطمئنان وذلك الهدوء بحيث يمكن اعتباره والحالة هذه مرآة صافية تشف عن طبيعة الفاعل على حقيقتها » .

والعلماء مع ذلك متفقون على وجوب تحقق تلك العناصر التى أشار إليها اليمينا فى تعريفه .

وجاء فى « هيلى » : « لا بد لوجود سبق الإصرار من رباطة الجأش باطمئنان الحواس وإمعان النظر وإطالة الروّية فى الأمر قبل الوقوع فيه حتى ينضجه الفكر وهو فى حالة صفائه وتجرده عن شوائب التأثر والانفعال » .

إذا كانت هذه روح التشريع فى القانون الفرنسى والإيطالى ، فإن القوانين الحديثة قد أفصحت عن هذا المعنى فى نصوص موادها ولم تتركها للشرح والتفسير , وأكد ذلك باستعراض نصوص تلك القوانين .

إن حالة الانفعال والتهيج تختلف قوةً وضعفًا باختلاف الطبائع والأمزجة ؛ وأشد ما يكون ذلك عند أصحاب المزاج العصبى ، فهؤلاء تعمل المؤثرات فى نفوسهم ما لا تعمله فى غيرهم ؛ وقد تشتد بهم الحالة العصبية فتقتل فيهم معنى الروّية والتبصر إن لم تسلبهم الإرادة والعقل ، ومن كان هذا حاله فمحال عليه أن يوجد عنده سبق الإصرار بمعناه الصحيح .

لابد فى سبق الإصرار من مرور زمن بين العزم على ارتكاب الجريمة وبين ارتكابها بالفعل ، ولم يعين القانون مقدار هذا الزمن ، فهو يختلف باختلاف الظروف والأحوال وهى لا تدخل تحت حصر .

قال « جارو » : « من المعلوم أنه لا يمكن وضع قاعدة معينة ولا حد ثابت لبيان مقدر الزمن الذى يجب أن يمضى بين العزم على ارتكاب الجريمة وتنفيذها بالفعل ؛ لأن الأمر فى ذلك يرجع إلى حالة المتهم والظروف التى هو محفوف بها بصرف النظر عن مقدار الزمن الفاصل بين حالتى العزم والتنفيذ » .

وقال « فستان هيلى » : « لم يتردد المحققون من العلماء فى القول بإمكان استمرار التأثر والانفعال عدة أيام ويرى بعضهم إمكان استمراره مدة ثلاثين يومًا » .

بل إن مجرد مضى عدة أيام بين فكرة الجريمة وتنفيذها ــ لا يكفى وحده دليلاً على وجود سبق الإصرار .

وكما أن الزمن وحده لا يكفى دليلاً على وجـود سبـق الإصـرار ، فكذلك لا يصح الاستدلال عليه بسعى المتهم مرة بعد أخرى إلى ارتكاب الجريمة ثم رجوعه دون تنفيذ . هكذا قال الفقيه الكبير « كارينته » فى مطوله ، بل وتقول محكمة النقض الفرنسية إن هذا لا يكفى لإثبات إرادة القتل حتمًا .

هذه هى ماهية سبق الإصرار والعناصر التى يتكون منها ، فهل كانت هذه العناصر متوفر وجودها فى الحادثة أم لا . هذا هو السؤال !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى