المثالية التي أحملها على ظهري !

المثالية التي أحملها على ظهري !

نشر بجريدة الوطن الجمعة 15 / 1 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كنت أؤدي امتحان اللغة الفرنسية بالسنة الثانية الثانوية بالنظام القديم الذي كانت دراسة الثانوي فيه خمس سنوات بعد المرحلة الابتدائية التي كانت أربع سنوات.. وكانت السنة الرابعة في المرحلة الثانوية شهادة تسمى « الثقافة العامة » ـ تتلوها شهادة التوجيهية التي صارت الثانوية العامة فيما بعد، ومع أنى بدأت الدراسة إبان الطفولة باللغة الفرنسية لمدة عام في مدرسة الراهبات بشبين الكوم، إلاَّ أنها عادت فتآكلت وزاد تآكلها عندما بدأنا باللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، فتراجعت الفرنسية مع صعوبة وتعقد قواعدها أمام سهولة تحصيل اللغة الإنجليزية.. ومع عنايتي وإتقاني للآن ما كنا نسميه بالـGramer، ومعرفتي بتصريف الأفعال بما في ذلك مجموعة الأفعال الشاذة، إلاَّ أنني كنت أعانى في تكوين الجمل والعبارات، وانسحب ذلك على تعثر في أداء الامتحان.. لاحظني المراقب في اللجنة المرحوم الأستاذ س . س، وكان من شلة الأصدقاء الأكبر من مجموعتنا، وبيننا آصرة دعته إلى محاولة مد يد العون، فأتاني بورقة للأسئلة مدون عليها الإجابات، ولكن الأستاذ الطيب فوجئ برفضي.. ولم يصدق نفسه.. فراجعني باندهاش شديد كيف أرفض نجدةً آمنة ـ لأنه المراقب ـ تحميني من الرسوب ؟! طمأنته حتى لا يغضب بأنني قادر على شق طريقي، ولم يكن ذلك صحيحًا، ورسبت بجدارة في اللغة الفرنسية.. لم أستطع أن أفصح له عن سبب رفضي يد العون التي مدّها إلىّ.. إنه أبى رحمة الله رحمة واسعة.. كان دوحةً ومدرسةً ومثلاً أعلى في منظومة قيمية وأخلاقية تقدس الصدق والاستقامة، وترفض الغش وتأباه، حتى أشعرنا رحمه الله أن الغش عار، وأنه لا طعم لنجاح ـ أي نجاح ـ إذا قام على الغش والتدليس.. وأنه لا بأس من الإخفاق أو الوقوع، لأن العزيمة الصادقة كفيلة بتجاوزه والعودة للوقوف.. كان هذا ما حدث وحداني ألا أندم قط على خسارة لم أتصاغر فيها.. ففي الاستعداد للملحق بشهري الصيف، تلقيت دروسًا إضافية لــدى الأسـتاذ شكري عبد المسيح.. وكان متميزًا لازلت للآن أحتفظ بكراساته.. عوضني في شهرين ما كنت أفتقده، وأعادني إلى اللغة الفرنسية التي لم أقبل أن أنجح فيها بالغش، فرسبت ولكن علمتني التجربة أن أعود إلى النجاح بالصدق والجهد، وقد كان !

صاحبتني هذه الجدية ولا تزال طوال حياتي.. في دراستي وفي عملي وفي رياضتي.. لا زلت أذكر فترة المناورة التي أمضيتها بمنطقة فايد والبحيرات ضمن الجامعيين ومع طلبة القسم النهائي بالكلية الحربية.. كانت خمسة عشر يومًا بالغة المشقة، انتهت بطابور تطعيم معركة وعبور حواجز وزحف تحت الأسلاك الشائكة ووابل النيران، لتختم بطابور سير نحو 160 كم بدءًا من جنيفة التي كنا نعسكر فيها إلى السويس ثم إلى الكلية الحربية بمصر الجديدة.. كان السير بالغ المشقة بالبيادة مع غرز رمال الصحراء، وكان في مسافة منه موازيًا لخط السكة الحديد الصحراوي من السويس للقاهرة، مما أغرى بعض الزملاء باستقلال القطار خفية لبعض المحطات تخففًا من عناء ومشقة السير الطويل الذي أضنانا.. ولكن قوة الإغراء لم تحفزني لركوب القطار.. لم أشأ أن أفسد على نفسي حلاوة ذكرى هذا الطابور الشاق حين يولى الشباب وتنزع النفس إلى الماضي وتفتش في صفحة الذكريات عما يُشعر بالرضا والاعتزاز.. هذا الالتزام أشقاني وحداني دوما لركوب الصعب، ولكنه أرضاني ولا يزال.. لم أكن الوحيد بين الزملاء الذي آثر ما آثرت، فقد شاركتني في التزام مشقة السير حتى النهاية صحبة من أعز الأصدقاء، نتذاكر حين نجتمع ما كان في هذا الطابور من مجاهدة انتهت بالقفز إلى حمام السباحة بالكلية الحربية من ارتفاع عشرة أمتار، فيما يسمى باختبار الثقة، وهى ثقة شفت عنها شجاعة زملاء قفزوا من شاهق إلى المياه مع أنهم لا يعرفون السباحة !

ظني أن الكرامة قوامها هذا الالتزام الصادق.. فالكرامة والغش ضدان لا يجتمعان .. والجندية كرامة.. هكذا فهمتها منذ جندت في 17 سبتمبر 1959.. صرت عضوًا بصفة أصلية بفريق السباحة في اتحاد المدفعية الرياضي، وعضوًا بالتبعية في فريق التنس لإتقاني الرياضيتين.. أؤدى واجباتى بلا ترفع، باقتناع تام بأن الجندي يخلع كل الأردية لينخرط في الجندية في تواضع وانتظام وطاعة.. لم أجد بأسًا من الكنس والرش، ولا من تنظيف أرضية حمام السباحة وعلى الرُّكَب ـ بالفرشاة والصابون مرة كل أسبوع بعد تفريغه من المياه.. ولم أتضرر قط من الاشتراك في حمل الجراية من الحرس الجمهوري القريب بمنشية البكري إلى حيث موضع الاتحاد.. مع أنى لم أكن أبيت أو آكل فيه.. ولم أقل لنفسى قط إن الذين يأكلون الطعام الأميري هم الأولى بالخروج وحمل الجراية والسير بها على الأكتاف في الشارع العام.. ولم أجد ما يمس الكرامة فيما كنت أقوم به عن اقتناع بأن الجندية تذيب كل الفوارق، وتشد العود والعزيمة والإرادة  .

ولكنى لم أنس قط أن الجندية كرامة.. وأنه يمس الكرامة أن تكلف بما لا يجوز أن تكلف به مهما كان هينًا ! حمل الجراية والتنظيف والكنس والرش خدمات عامة، تؤدى للخدمة لا لأشخاص.. لهذا لم أتضرر منها قط، ولكنى فجرت مشكلة كبرى في الاتحاد يوم ناداني الرقيب ( ق . ز )، وكان لاعبًا مخضرمًا ورقيبًا شرفيًّا في فريق كرة القدم، ناداني وطلب إلى أن أشترى له علبة سجائر من الكانتين، فلم أجد لطلبه محلاً، فلست بفريقه، ولا يوجد ما يبرر له تكليفي بطلب خاص.. فرفضت، ولم أتردد أن أقول له، لماذا لا تذهب أنت وتشترى لنفسك ما تريد ؟!

قامت القيامة، وأُدخلت إلى مكتب الرائد أحمد عيسى عبده القائم مع الرائد يوسف زين ـ بإدارة الاتحاد نيابة عن المقدم كمال حجازي.. كيف يمكن لجندي أن يعصى أمرًا صادرًا من الرقيب ( ق . ز ) الذي كان يتمتع في الاتحاد بمكانة اللاعب الخبير.. ولكنى لم أساير تخطئتي، وتمسكت بأنني لم أجند لأكون في الخدمة الخاصة لهذا أو لذاك مهما كانت أقدميته..  تم تكديري ولكنى لم أتراجع، ودورني رقيب أول الاتحاد في طابور تأديبي ظللت أؤديه في جلد حتى تعب من أراد لوى إرادتي !.. تهون كل الصعاب حين يتمسك الإنسان بالحق والكرامة !

فهل أشقاني أبى أم شرّفني حين صدَّر إلىّ مثاليته وزرعها في منذ الصغر ؟! نعم أتعبتني لأنى ركبت بها الصعب دائمًا، ولكنها أرضتني وصانت لي أماني النفسى وكرامتي.. وحفظتني مما يتوارى به الناس خجلاً أو إشفاقًا من المعرّة أو الحساب !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى