الفطنة الآدمية أحوال وأطوار (1)

الفطنة الآدمية أحوال وأطوار (1)

نشر بجريدة الوطن الجمعة 27 / 11 / 2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

لا يكف البشر عن المزيد في الفهم أو النقص فيه..  لا تنقطع زيادته أو نقصه لدى كل آدمي من مولده إلى أن يفارق الحياة.. والزيادة أو النقص يشوبهما دائمًا عيب ما.. لأننا مخلوقات قد تعرف مواقعها ولكنها معرفة المخلوق فقط.. في زمانه ومكانه.. ولكن لا يمكن أن تكون له معرفة في كل آن ووجود.. هذه المعرفة مستحيلة التحقق لأي مخلوق.. فالبشر في كل وقت محكومون ببشريتهم وقدراتهم المحدودة.. هذه القدرة تصدق أحيانًا ولا تصدق أحيانًا أخرى.. تؤكد أو تنفي أو تتشكك.. تتقبل ما تظن أنه ممكن ولعله يصدق.. وترفض ما تظن بيقين ـ أنه غير ممكن أو محال أو كاذب أو موهوم .

فلكل وقت جده وصدقه وتصوره واحتماله وخياله وعبثه وباطله.. كاذبًا أو حالمًا.. وهذا التركيب والتعقيد هو في حد ذاته ميزة هائلة تميز بها الآدميون عن باقي أحياء الأرض.. ثم انتقل سلطان بعضهم لآلاف السنين على أغلبيتهم يقودونهم ويتسيدون عليهم بشكل أو بآخر منذ القدم وحتى اليوم.. إذ علا أصحاب القيادة والأموال على أغلبية الناس بكل وسيلة سليمة وغير سليمة.. فزادت الأغلبية ابتعادًا وإساءة ظن بتلك الأقلية المتسلطة !.. وتشققت جدران الجماعات المتقدمة وغير المتقدمة، وتمزقت وحدة الشعوب والأمم بوجود ذلك الانشقاق والانقسام، ولم تظهر بعد عودة جادة من الطرفين ـ للم الشمل وترك الحرص على الأنانية المتغطرسة وما يتبعها من التسلط أو الحقد البالغ وما معه من الرغبة في الثأر والمرارة !

ولكن يبدو لكل آدمي إذا انصرف إلى داخله في إمعانٍ وإخلاص، أن له عمقًا يزداد مع ازدياد ذلك الانفراد مع النفس.. وتتضاعف الأعماق مسافات في داخله.. فيرى فيها رؤى وجوانب وفهمًا ونتائج لم يكن يفطن إليها من قبل .. سواء هو أو غيره ممن يتصل بهم.. من الأقارب كانوا أم من الأغراب.. وهذا التعمق بشرى صرف.. منحه الخالق ـ عز وجل ـ على درجات لبعض البشر.. لحكمة لديه هو.. لم نصل إليها في اندفاعاتنا حتى الآن.. تلك الاندفاعات المتتابعة التي قادت مسارات الأجيال والملل والنحل إلى ما هي عليه الآن من السطحية والانعزالية.. فمن أكثر من ثلاثة قرون مضت انتقل التفات العالم المتمدين ـ إلى خارج الآدمي بحواسه أولاً وأخيرًا.. معرضًا عن الاهتمام بداخله.. فاضمحل مع هذه الاهتمامات البشرية الخارجية أثر الدين ومعه الذمة.. وتزايد الاضمحلال باطراد واستمرار لا ينقطعان إلى يومنا هذا..  وفي تلك القرون كانت الدولة الإسلامية الكبرى السائدة من قبل في البحر الأبيض المتوسط قد تدهورت لاضطراب سلاطينها وفساد قادتها وانحطاط جيوشها وأساطيلها، فلم يعد يبقى في بلاد الإسلام قوة مدنية ولا قوة دينية، ولم يبق حتى اليوم في بلادنا إلا دول ودويلات لا تسمع لها كلمة في هذا العالم الضخم الذي لا يهدأ نهارًا وليلاً.. أرضًا وبحرًا وجوًا.. وقد ملأ زخم هذا العالم عواطف وعقول الشعوب الإسلامية، وأخذت عنه ما أمكنها تقليده.. هذا التقليد الفاتر القاصر الذي أخذته عن الدول المتقدمة المتطورة.. بينما لا يزال يوجد هنا وهناك متكلفون من أصحاب الجلابيب البيضاء واللحى الطويلة.. لم يفهموا من الإسلام إلاّ هذا الشكل الظاهري الذي لازم عصره ومكانه، ويحرصون معه على التشنج والأسلحة والذخائر التي لا تستعمل إلاّ في القتل والحرق.. بدعوى استقامة إسلامهم وحدهم، وكفر باقي المسلمين الحاليين !.. صياحهم صياح أدعياء مدعين خائبين.. مرقوا عن الجماعة.. يقودهم بعض الحمقى والأغرار.. تنحصر طموحاتهم وأشواقهم في التصدر للحكم الذي لا ينتظره عاقل.. كيف لملايين البشر العودة في هذا الزمان، رغم أنوفهم، إلى الماضي السالف، على أيدى أولئك المرتجين الذين يعيشون خارج الحياة !

والإحساس العام بالعزلة، الذي عاد وزاد في كل مكان على هذه الأرض.. لدى كل آدمي.. غنيًا كان أو غير غنى.. سيدًا أو مسودًا.. متعلمًا أو جاهلاً.. هذا الإحساس بالوحدة أو العزلة الكئيبة العميقة الخالية من الأمان والاطمئنان.. أخذ بتلابيب الناس لأن نفوسهم قد صارت خالية من الثقة والأكادة والإيمان بقيمة الإنسان وأسرته ومصيره ثم مصيرها من بعده.. إذ لا وزن للوهم والخيال والتكلف والادعاء والانتحال والكبرياء والتطاول والغلظة والقسوة.. فهي سحب ضريرة وتيه وغباء وفساد وزوال !

ويستحيل أن تتماثل الأجيال في البشر تماثلاً تامًا.. لا في الذات ولا في القرابات.. لأنها مخلوقات متوالية متعاقبة.. تختلف باختلاف الأعمار والأوساط.. وباختلاف الحيوات.. وليست تكرارًا كما في نواتج الصناعات والزراعات، أو كما في المصطلحات والعادات واللغات والأساليب والحكايات التي تحفظها وتكررها العادات والتقاليد عبر الأجيال بلا فهم أو استيعاب !

وغالبية البشر في كل زمان ومكان، تخلط بين اختلاف الأجيال والأعمار والأوساط واختلاف كل حي عن أي حي آخر، وبين المصطلحات الجارية بين أفراده في هذا المحيط أو ذاك في أزمنة استعمالها نتيجة إقامة كل فرد في محيطه وتأثره واعتياده على ما حوله من جيرة أو قرابات أو مصادفات.. البشر في كل عصر وقطر ـ متطورين أو غير متطورين ـ لا يدققون في مقاييس العلاقات العادية الجارية.. وهذا من أسس الجماعات البشرية السائدة غير مؤلفة التكوين والتحديد.. تتواجد أولاً ثم تنظم كيانها إذا اتسعت بقدر ما استطاع أهلها أو قادتها، ثم يكون لها تاريخ ومستقبل إن لم تنطفئ وتزول !

والعلم الجاد أو المعرفة الحقيقية ـ لم يوجدا بعد لدى غالبية البشر في أية جماعة.. فالبشرية مازالت إلى اليوم والغد تتحسس وتتعثر.. وغالبًا ما تتخيل وتتوهم.. ونادرًا جدًّا ما تتمسك بصدق أو صحيح أو حق !! لا يكف البشر عن المزيد في الفهم أو النقص فيه.. لا تنقطع زيادته أو نقصه لدى كل آدمي من مولده إلى أن يفارق الحياة.. والزيادة أو النقص يشوبهما دائمًا عيب ما.. لأننا مخلوقات قد تعرف مواقعها ولكنها معرفة المخلوق فقط.. في زمانه ومكانه.. ولكن لا يمكن أن تكون له معرفة في كل آن ووجود.. هذه المعرفة مستحيلة التحقق لأي مخلوق.. فالبشر في كل وقت محكومون ببشريتهم وقدراتهم المحدودة.. هذه القدرة تصدق أحيانًا ولا تصدق أحيانًا أخرى.. تؤكد أو تنفي أو تتشكك.. تتقبل ما تظن أنه ممكن ولعله يصدق.. وترفض ما تظن بيقين ـ أنه غير ممكن أو محال أو كاذب أو موهوم .

لكل وقت جده وصدقه وتصوره واحتماله وخياله وعبثه وباطله.. كاذبًا أو حالمًا.. وهذا التركيب والتعقيد هو في حد ذاته ميزة هائلة تميز بها الآدميون عن باقي أحياء الأرض.. ثم انتقل سلطان بعضهم لآلاف السنين على أغلبيتهم يقودونهم ويتسيدون عليهم بشكل أو بآخر منذ القدم وحتى اليوم.. إذ علا أصحاب القيادة والأموال على أغلبية الناس بكل وسيلة سليمة وغير سليمة.. فزادت الأغلبية ابتعادًا وإساءة ظن بتلك الأقلية المتسلطة !.. وتشققت جدران الجماعات المتقدمة وغير المتقدمة، وتمزقت وحدة الشعوب والأمم بوجود ذلك الانشقاق والانقسام، ولم تظهر بعد عودة جادة من الطرفين ـ للم الشمل وترك الحرص على الأنانية المتغطرسة

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى