الفصام المرضى بين الكلمات والأفعال (2)

من تراب الطريق (1084)

الفصام المرضى بين الكلمات والأفعال (2)

نشر بجريدة المال الأحد 18/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الأغرب من القبح ألا يلتفت المجتمع إليه، فينخدع بالأقاويل الرنانة والطنطنات الكاذبة، ويصدق تشدق المتشدق بكلام وعبارات ضخمة خاوية، ثم يعود فينخدع ويصدق تباكيه وعويله حين تمسه حرية الرأي وحق النقد الواجب عما فرط منه من جنوح أو أفعال لا يرتضيها المجتمع ويأباها الحق والضمير !

أخطر من الشيزوفرينيا أو هذا « الفصام »، أن ينخدع الناس عنه، ولا يتبينوا ما فيه من جنوح وقبح سلوكي وقيمي ومبدئي. هذا الانخداع أمارة بالغة السوء والخطر على غياب العقل والفهم، وضبابية الرؤية، واضطراب بوصلة المجتمع والناس عن التفرقة بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والجمال والقبح !

معنى ذلك أن نعيش حياة منبتة الصلة بما ندعيه ونتقاوله.. أن الباطن غير الظاهر، وأن الانخداع بالظاهر يصرفنا عن الباطن، عن الجوهر !.. جوهر الآدمي في سلوكه وفعله قبل أن يكون في قوله وتشدقه ! لذلك قيل إن الإيمان ليس بالتمني، وإنما ما وقر في القلب وصدقه العمل !

كثرت لدينا الكلمات حتى فقدت معانيها، ونسـى النـاس أنه مـع قيمـة وعظمة الكلمة، إلاّ أنها مرهونة بما تعبر عنه في دنيا الواقع والفعل والسلوك.. نسى الناس فيما نسوا قـول القرآن المجيد : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ » (الصف 2، 3).. هذه القيمة ليست قيمة دينية وكفي، وليست قيمة أخلاقية فحسب، وإنما هي قيمة مجتمعية تمس حياة الناس في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وفي المعاملات والعمل والنظام والأداء. الأداء أساسه عمل لا محض كلام.. وحين تنفصم الكلمة عن الأداء أي العمل، فإن محصلة ذلك توارى وتراجع الأعمال، وتقدم الكلمات الخاوية الفارغة وحلولها حلولاً مرضيًّا محل الفعل والسلوك والأعمال !

من المحال أن يأتي علاج الفصام بين الكلمة والفعل من المريض أو المرضى بهذا الداء الوبيل. فهم في أغلب الظن لا يحسون به ولا يستشعرونه. المريض الوحيد الذي يحس بمرضه، هو المريض بداء عضوي يشعر بألمه أو بوخزه، أما المريض بعوارض نفسية وأخصها الفصام، فإنه لا يراها ويعمى عنها بل ولا يحسها. العلاج لا يأتي إن أتى إلاّ من المجتمع حين يتعمق فهمه وترشد موازينه فيرى الأشياء على حقيقتها بعيدًا عن تقولات المتشدقين وتزيينات المزينين. تستقيم الأمور حين يكتشف المجتمع ويكشف ما في الفصام بين الكلمة والفعل من دمامة وقبح. حين يرفض ذلك ويأباه ويشيح ويعرض عنه. هذا هو وحده الكفيل بإيقاظ مرضى فصام الكلمة والفعل من وهدة ما هم فيه أو يخادعون به الناس. تبطل الخديعة وتتوقف حين تدرك أنه لم يعد أمامها سبيل للضحك على المجتمع بافتعال بطولات زائفة واصطناع كلمات ضخمة لا تصادفها أي أعمال !

تستقيم أمور المجتمعات، أفراداً أو جماعات، حين ترفض الكذب والغش، وتجعل لهما جزاءً رادعا يثنى عن اللجوء إليهما أو استسهالهما. رأينا في محاكمة الرئيس الأمريكي كلينتون ـ على شعبيته ونجاحه الهائل اقتصاديا ـ أن نقطة « المحز » التي لم تُغفر له، أنه كذب !.. رأينا في الفضائيات أنهم في جلسة مساءلته بالكونجرس قد تركوا كل شيء بما في ذلك كرامة المنصب، وتوقفوا فقط عند « الكذب »، فصار كل هم الرئيس الأمريكي أن يفلت من تهمة أو جريرة الكذب !

لا رجاء في المجتمع ـ أي مجتمع ـ إذا تسامح في الكـذب والغش، وأعطى الكاذبين والغشاشين ما يعطيه للأسوياء الصادقين !!!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى