العقاد ومجمع الأحياء (1)

من تراب الطريق (1081)

العقاد ومجمع الأحياء (1)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 13/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يحتار الآدمي في كلمة الحوادث، حين يتأمل في تصاريف الأيام، واختلاف الحظوظ وتباين المقادير.. ولكن الحكمة التي تعيى الحكماء، تأتى أحيانًا من أفواه المجانين، ويجريها الأدباء أحيانًا على لسان الطير والحيوان.. من أكثر من ألف سنة أجرى عبد الله بن المقفع حوارًا ـ بالعربية ـ على لسان كليلة ودمنة التي وضعها بيدبـا الفيلسـوف الهندي، وحديثًا (1946) وضع الكاتب الإنجليزي الساخر « إريك بلير » المشهور باسم: « جورج أورويل » ـ وضع رواية Animal Farm « مزرعة الحيوان »، أجرى فيها الحوارات على لسان حيوانات المزرعة.. ويبدو أن عالم الطير والحيوان عالم جاذب للأدباء والفنانين، ينشدون فيه التصوير كما ينشدون التسلية والمتعة، ويتخذونه وسيلة لبث الحكمة التي تعارف القدماء أنها تأتى أحيانًا على لسان المجانين، فلماذا لا تأتى على لسان الحيوان ؟!

لم يحل دون ذلك أن الآدمي من قديم اتخذ « الحيوان » مثالا للدونية، واعتبر أن الترقي من الحيوانية هو معيار الإضافة المحسوبة للجنس البشرى في رحلة صعوده وترقيه. ظل الآدمي إلى اليوم، يحسب ترقيه بقدر ما استطاع الابتعاد به ـ بالتهذيب والتأدب والتثقيف ـ عن الغريزة الحيوانية.. ومع ذلك فإن « الغريزة » ليست بعيدة في كل الأحوال عن البداهة التلقائية، والحكمة كما تدين للبحث والاجتهاد والتأمل، قد تسقط عفوًا بغير قصد من حكيم أو عاقل أو مجنون ! فلماذا إذن لا تجرى علـى لسان الحيوان ؟!

دخل مفكرنا الكبير عباس العقاد هذا المضمار في كتابه الضافي: « مجمع الأحياء ».. ولكن العقاد لا يكتب للتسلية وإزجاء الفراغ، وإنما لإثارة القضايا الإنسانية ودعوة العقل للتأمل والتفكير.. في تقديمه لهذا العمل يقول العقاد: « كتبت هذه الرسالة في النضال بين الأهواء والمبادئ، واستكناه وجه الحكمة التي تبدأ منها وتعيد إليها أعمال الناس ومساعيهم في هذه الحياة. وفحواها أن الخير والشر في هذه الدنيا لا ينفصلان، وأن أشرف ما يعرفه الناس من الحق ـ غيرتهم على ما يعتقدون أنه الحق، وأن الحق الذي نعرفه ونغار عليه غير الحق الذي تتوخاه حركات الكون المتجلية في تاريخ البشر، فليس ما نعتقده حقا ـ إلاّ أداةً موصلة إلى الحق العميق المكنون عنا والذي يرتسم طرف منه في عقائد الطبائع القوية السليمة » !

كان تأليف العقاد لهذا الكتاب إبان الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).. تلك الحرب التي اصطرعت فيها الأهواء والمبادئ صراعًا لم تبلغه في حرب قبلها من حروب العالم قديمها وحديثها !

في البحث عن حقيقة الوجود، وطبيعة القوى المسخرة له، يبدأ العقاد من حقيقة لا مراء فيها.. هى اختلاف القياس في هذا كله باختلاف النظرة التي يُنظر إليه بها.. وهى لا تخلو من تغليب صالح هذا أو ذاك، أو تقديم صوالح الأمة أو الأمم على صوالح الأفراد أو العكس.. إلى هذا وذاك ترجع الصراعات الإنسانية التي تشكل مشاهد الحروب والقتال والتدمير والهلاك.. لا يترك العقاد هذه القضية دون أن يعرض فيها لوجهات النظر على أسلوب الفلاسفة وأهل الكلام، ولكنه لا يترك القارئ دون أن يودعه نظرته هو ورأيه الذي تهيّأ له بعد طول نظر وتفكر وتأمل ودأب وعناء.. ساعيًا إلى نظرة تدرك من حقائق الكون وحكمته الشاملة، ما لا تدركه البصائر المحدودة.

بالمجاز، يجد العقاد نفسه في ساعة من زمان، في غابة من الغابات لا يسميها، تحفل بكل المخلوقات والأجناس.. وإذ به وهو في وقفتهم المجازية التخيّليّة مع غيره من كائنات الغابة، تهل سيدة تفجأهم بظهورها تتخايل أمامهم عرف أنها الحياة، وإليها ترمز.. هذه الحياة التي يعبدها الناسك والعربيد، ويتمسك بها الأطفال والشيوخ.. فما إن أخذ العقاد يتأملها ملتمسًا التعرف على عيوبها ومحاسنها، حتى أنشأت تخاطبهم ـ فيما أنطقها العقاد ـ بما عّنَّ لها أن تقول لهم.. قالت الحياة ـ كما شاء لها العقاد أن تقول ـ إنها جمعت كل هذه المخلوقات لما شجر بينهم من خلاف وبغضاء، وانقطاع أسباب الرحمة بينهم، وأنها تروم من جمعهم والحديث إليهم نشر السلام بينهم، وحثهم على التقارب والتراحم والتناصح.. وطريقها إلى ذلك أن تدعوهم للكلام، للإبانة عما في سرائرهم ليفهم بعضهم بعضًا..

كانت اليمامة أول من أذنت لها بالكلام لأنها رمز السلم والسلامة.. قالت اليمامة فيما قالت:« معشر الأحياء.. قال تعالى « ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ».. ومصداق هذه الآية أنكم إذا تأملتم في ملك الله الواسع لوجدتم اليمام والعصافير أكثر من النسور، وصغار الأسماك أوفر من كبار التماسيح والحيتان، والإبل والأغنام أبقى ـ رغم القتل والذبح ـ من الأسود والنمور.. تدبروا يا إخوانى كيف جعل الله الكثرة في جانب الضعف لتعلموا أنه لم يخلق الكائنات المستضعفة عبثًا، ووهبها إرادة البقاء بالكثرة كما وهب غيرها هذه الإرادة بالقوة.. فتراحموا فيما بينكم، وليعلم أصحاب الحول فيكم أنه ليس من غالب بالقوة اليوم إلاّ وهو مغلوب بها غدًا ».

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى