الشهادة واجب، لا وظيفة ( 1 )

من تراب الطريق (1079)

الشهادة واجب، لا وظيفة ( 1 )

نشر بجريدة المال الأحد 11/4/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

هذه الخواطر حول الشهادة استدعتها قصة من الواقع، ظنت فيها إحدى الجهات ـ ولا أريد أن أسميها ـ أن سلطة الوظيفة تعطى وصاية على الموظف في أداء الشهادة، متى يقولها أو يحجبها، وماذا يبدى أو لا يبدى فيها.. ما استدعى خواطري آنذاك بشدة، جسامة الواقعة، وموقع الشاهدة الرفيع في هيئة من هيئاتنا العلمية التعليمية المرموقة، ومع ذلك ورغمه اختلطت الأوراق، حتى ظن صاحب الشوكة أنه يستطيع بشوكة السلطة أن يرهب الأستاذة الدكتورة صاحبة الموقع الرفيع، واسترسل حتى أحالها إلى التحقيق التأديبي لأنها دون إذنه والتنسيق معه لبت استدعاء محكمةٍ رأت أن تسمع شهادتها، فذهبت وأدتها بما لم يعجب القيادة الإدارية لأن الإدارة ذاتها كانت على المحك في خصومة لم يجد طرفها الآخر بدا إزاء التجني الواقع عليه من اللجوء بمظلمته إلى القضاء !

ما كان يمكن أن يصدر هذا التصرف الذي صدته وأوقفته سلطة التحقيق بقرارها بالحفظ ـ ما كان هذا التصرف الضرير ليصدر لولا اختلاط والتباس في مفهوم وواجب الشهادة، تردٍّ بإقحام سلطة الوظيفة فيها، مع أن الشهادة ليست واجبًا وظيفيًّا، ولا تدخل تحت حزمة الواجبات الوظيفية لائحيةً كانت أو تعاقدية، وإنما هي واجب ديني وشرعي وأخلاقي، وقانوني أيضا لمن لا يكتفي بواجب الدين والشرع والأخلاق، يتجه خطاب الواجب بها إلى الآدمي من حيث هو آدمي لا من حيث هو موظف أو غير موظف، صاحب عمل أو عامل أو أجير، حاكم أو محكوم، غنى أو فقير.. ولذلك فإن الاستجابة لأداء الشهادة، وأداءها ـ واجب شخصي لا وظيفي، مصدره الدين والشرع والأخلاق والقانون .

الشهادة في شريعة الإسلام، شهادة لله وللحق، فيقول القرآن المجيد: « وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ » ( الطلاق 2 ).. وهى لا تكون لله سبحانه وتعالى إلاّ طلباً للحق وإعلاءً له، والقيام بهذا الحمل الثقيل لا يقبل مساومةً ولا تشيعًا ولا استمالةً ولا تنسيقًا، فلا ينوب عن الشاهد في حمل ثقله عن شهادته أمام الله ـ خصم ولا رفيق ولا رئيس ولا زميل ولا قريب ولا صاحب ولا رب عمل ولا شئون قانونية ولا سواهم، لذلك كان شرط « العدالة » شرطًا أساسيًّا في الشاهد. فيقول القرآن المجيد: « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ » ( الطلاق 2 ) . هذا « العدل » المأمور به إلهيًّا، لا يقبل تدخلاً من أحد تحت أي شعار ولا تكئة ولا ذريعة من ترتيب أو تنسيق أو سواه ـ لأن ذلك معناه إباحة « استقطاب » الشاهد لمصلحة أو رؤية هذا أو ذاك من أطراف الخصومة بذرائع لا يقرها العدل ولا الشرع ولا القانون ولا المنطق.

يأبى هذا الواجب الملقى مباشرة على عاتق الشاهد أن يستأذن أحدًا لأداء الشهادة، أو يمنعه أحد من أدائها، فالواجب واجبه، لا يحله منه اعتراض وظيفته، ووزر وعقاب التخلف عن أدائها واقع عليه لا على سواه.. فهو مأمور بأداء الشهادة متى دُعى إليها، بل ودون أن يدعى إليها، فيقول القرآن المجيد: « وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ » (البقرة 282) . ويقول الحديث الشريف:« الساكت عن الحق شيطان أخرس »، ويقول القرآن الحكيم: « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ » (البقرة 283).. ويقول عز من قائل: « وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (البقرة 140) .

من الأوزار الجسيمة ـ الاعتقاد الضرير بأن على الشاهد أن ينسق شهادته مع جهة عمله أو سواها.. فماذا لو أرادت جهة العمل من هذا التنسيق أن تستقطبه لما يخالف ما يعتقده الشاهد أو يتنافر مع الحقيقة.. لا يجوز لأحد ولا لسلطة اقتحام ما يؤمن به ضمير الشاهد الذي حذره سبحانه وتعالى من كتمان الحق ومن قول الزور أو الشهادة بالزور، فقال له في محكم تنزيله « وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ » ( البقرة 42 )، وجعل البعد عن شهادة الزور صفة لازمة من صفــات المؤمنين: « وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا » (الفرقان 72) ونهاهم لذلك عن الزور في الشهادة والتزييف والبهتان والتضليل فيها، فأمرهم بالبعد عن هذا كله، وقرنه في درجة إثمه بعبادة الأوثان، فقال في قرآنه الحكيم: « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ » ( الحج 30 ) .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى