الشرق الفنان (16)

من تراب الطريق (1118)

الشرق الفنان (16)

نشر بجريدة المال الأحد 13/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يأخذنا أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء الدكتور زكى نجيب محمود ـ يأخذنا بعد ما تقدم، إلى مقارنات أو مقابلات سريعة بين الفلسفة الشرقية وبعض فلسفات الغرب.

مثلاً المقارنة بين « بوذا » من ناحية، و « هيوم » من ناحية أخرى.

يستدعى هذه المقارنة أن كليهما يتفقان في نقطة رئيسية هامة، وهي « تفكك » مجْرَى المعرفة إلى حالات مفردة متتابعة..

يوجد بالفعل شبه قوى بين خطوتين من خطوات التفكير في كلتا الحالتين.

أعلن بوذا ( 600 ق م ) عن رأيه المعين في المعرفة، ثم أخرج تلاميذه النتيجة المنطقية التي تترتب على هذا الرأي الذي لم يفصح عنه بوذا نفسه.

ومن ناحية أخرى، ترى « باركلي » الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر ( 1685 / 1753 ) قد أبدى هو الآخر رأيًا في المعرفة شبيه برأي « بوذا »، ثم جاء بعده « هيوم » ( 1711/1776 ) فأخرج من الرأي نتائجه المنطقية وهو ما كان قد فعله تلاميذ « بوذا ».

انتهي الأمر في الحالتين إلى نقطة واحدة وقفت عندها الفلسفة الإنجليزية، بيد أن الفلسفة الشرقية مضت في السير بعدها، فكان ذلك موضع خلاف بين الفلسفتين الشرقية، والغربية.

لا ينبغي أن ينفد صبرنا من هذه المتابعة العميقة، فهي رياضة عقلية رائعة.

بدأ « بوذا » وأتباعه بقولهم : إن حقيقة الشيء المدرك هي كيفية وقوعه على الذات المدركة. حقيقة أي شيء هي انطباعها على عيني وعينك، ومن ثم فإن « حقائق الأشياء » هي ذاتها « معطياتها الحسية » المباشرة. وما دامت حواسنا لا تدرك إلاَّ شيئًا جزئيًّا ماثلاً أمامها، لذلك فإن كافة إدراكاتنا جزئية كذلك ؛ وما المدرك الكلى العام إلاَّ إحدى الجزئيات التي أدركتها حواسنا فيما مضى، جعلناها ممثلة لبقية أفراد نوعها ـ فالمثلث الواحد مثلاً ـ يمثل كل المثلثات..

هكذا يقول « باركلي »، ثم جاء « هيوم » من بعده ليطبق المنطق نفسه على « الذات المدركة »، وهي في نظره لا وجود لها. لماذا ؟ لأنه ما دام الإدراك لا يكون إلاَّ لجزئيات حسية معينة، سواء من لمعات الضوء التي تنطبع على حواسنا البصرية، أم من لمعات الصوت التي تنطبع بها الأذن. ولما كانت « الذات » التي تفرض وجودها وتزعم أنها التي تدرك تلك الجزئيات، دون أن تكون هي واحدة منها. بمعنى أنه لما كانت « الذات » ليست انطباعًا جزئيًّا بين شتى الانطباعات، إذن فليست « الذات » موجودة بين المجودات.

توقف « باركلي »، ولكن « هيوم » مضى حتى وصل بالرأي إلى نتيجته، وهي أن « الذات » المزعومة ـ وَهْمٌ ـ لا وجود له.

بوذا في الشرق وباركلي في الغرب، كلاهما قد جعل الحقيقة ذاتية، فليس لشيء ـ كائنًا ما كان ـ وجود إلاَّ بمقدار إدراكنا الذاتي له، وبهذا فلا عالَم إلاّ ما تدركه ذات الإنسان، وهكذا تتبخر الحقائق المادية الصلبة فتصبح لا شيء سوى حالات عقلية ذاتية عند الإنسان المدرك، وأتباع بوذا في الشرق وهيوم في الغرب كلاهما قد انتزعا نفس النتيجة من نفس المقدمة، والنتيجة هي أنه إذا لم يكن ثمة وجود لشيء إلاّ انطبعت به الذات، ثم إذا كانت الذات ليست من بين ما ننطبـع به، إذن فهي اسـم علـى غيـر مسمى، فلا موضـوع في الخارج ولا ذات في الداخل وكل ما هنالك هو انطباعات فرادى تتتابع واحدة في إثر واحدة.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى