الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (1)

من تراب الطريق (1044)

الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (1)

نشر بجريدة المال الأحد 21/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

الآدمي بعامة كائن على قدر من الذكاء لا يدانيه فيه كائن حي آخر على الأرض.. سواء كان بدائياً أو متمديناً. والذكاء هو استعداد داخلي لمواجهة غير المنتظر أو المتوقع من الظروف والمناسبات والأحوال والأحداث.. مواجهة تنهض بما يناسبها قدر الوسع نتيجة لتصوره التلقائي لسلوك أو وسيلة أو حل غير مألوف الاستعمال من قبل لديه في مثل نفس الحدث أو المناسبة. وهذا الاستعداد قابل للنمو عند الآدميين إلى غير حد.. لكنه لا يوجد ولم يوجد لدى الجميع بنفس القوة قط. قارن مثلا ذكاء البدائي بذكاء أشخاص مثل أرشميدس أو نيوتن أو أينشتين !

واختيارات الأذكياء دائما احتمالية في نظر العاديين.. تنطوى على تفضيل احتمال على آخر.. وربما كان هذا من أسباب اتساع واختلاط الذكاء بالمهارات، وانفصاله نوع انفصال عن الإتقان.. فالبشر في كل وقت أذكياء في إشباع حاجاتهم وتحقيق أغراضهم والوصول إلى غاياتهم أيا كانت.. فهم بعامة لا يتقنون ما يفعلون ويؤثرون ويفضلون !.. لأن الرغبة في الإتقان فيها بشكل ما تحديد لحرية الآدمي.. إذ الإتقان يحتاج إلى المزيد من الدقة في الأداء، وإلى حصر الخيال وتقييد حركته بقيود ضاغطة أكثر مما يقوى عليه أغلبية البشر ! وربما لوحظ الإتقان بهذا المعنى في النباتات من الأشجار إلى الطحالب والأعشاب وفي الفيروسات والبكتريا والفطريات والحشرات والطيور أكثر منه في الثدييات والحيوانات العليا، على عكس نسبة الذكاء بما فيها من احتمالات واختيارات.. وربما كان وجود الاستعداد للإتقان قد سبق وجود الاستعداد للذكاء في قاموس الحياة، وهو قاموس يبدو أنه يجمع عناصره فيتراكم جديدها على قديمها، وربما كان هذا التراكم والتراكب هو ضمن خطى الكون والحياة في النمو والترقي.. وقد نرى مصداقا لهذا النظر في دقة أداء الأجهزة غير الخاضعة للإرادة والاختيار لدى الإنسان والحيوان.

ومن قديم الزمان عرف الآدمي الآلة الخاضعة في أدائها لقوته وإرادته، ثم عرف الآلة الخاضعة للقوة التي لا تخضع لهما ـ للقوة والإرادة ـ إلاّ من بعيد وبعيد جدا، لأنها من اختراع إنسان غيره ومن إنتاج إنسان آخر.. ومن ثم فلم يعد لإرادته دخل في أدائها المتقن بقدر ما وفق إليه صانعها في صنعها، كما لم يعد إتقان الأداء في يد صاحب الآلة أو الماكينة أو طوع اختياره وتحت سيطرة ذكائه.. لأن الإتقان صار آليا بعيدا عن تدخل الإرادات والأهواء والأفضليات البشرية المتغيرة المتبدلة، وبات مدير الآلة ملزما بأن يضع إرادته هو للوازمها وأوضاعها المرسومة لها مقدما ـ لكي تؤدى أكثر ما لديها من إتقان الأداء المعتاد من مثلها، فبات مالك الآلة ومن يستخدمها ومن يشرف عليها ومن ينتفع بها وبإنتاجها، بات يدفع ثمن إتقانها الذي لا دخل له فيه هو بالذات.

وإذا أمعنا النظر في عمار البشر ومدنيته كما يبدو في الأحياء الفاخرة من المدن الكبرى في العالم ـ أو كما يبدو في موانيها الزاهرة الباهرة أو في مطاراتها أو محطاتها أو في معالمها الباذخة من قصور ودور للحكم ومتاحف ومعاهد ومكاتب أو في مرافقها من فاخر الفنادق والمطاعم والملاهي أو في دفاعاتها التي تتحرك مع ضخامتها الهائلة كالساعات الدقيقة.. إذا أمعنا النظر في هذا كله وأشباهه وجدنا أن ذلك ومثله ـ ليس ذكاء من أجل ذكاء ولا إتقانا ترحيبا منه بإدراك يقدر قيمة ويقابلها بما يليق بها أو لها.. وإنما هو كله أو جله وسيلة وشكل وقشرة من أجل اجتذاب النفع والربح والرواج لدى غالبية الآدميين الذين تجذبهم هذه الصور المجيدة المتقنة.. وهى تتقبلهم طالما كان معهم من المال ما يكفي للربح من قبلهم، بغض الطرف عن حظهم من الذكاء أو الذوق أو حتى الفهم أو الترقي والتطور !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى