الدكتور السنهورى والديمقراطية (3).. الاعتداء الآثم المؤسف على السنهورى

نشر بجريدة الوطن السبت 20/11/2021
ـــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية
الاعتداء الآثم المؤسف
على السنهورى
ـــ
ظنى أن الاعتداء الغاشم على السنهورى فرع على الصراع الذى اشتعل على السلطة بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر فى فبراير ومارس 1954 .. وكان لهذا الصراع جذور دفينة وتعددت الآراء فى وصف فصوله واختلفت فى توصيف أسباب إقحام السنهورى فيه ، والراجح أنه تعامل مع الموقف بموضوعية وصدق ، ولم يتورط فى الانحياز لطرف دون آخر ، وقد روى سليمان حافظ فى مذكراته أنه تصادف فى مارس 1954 أن كان فى زيارة السنهورى بمنزله الذى لزمه لمرضه ، وصادف عيادته له حضور محمد نجيب وعبد الجليل العمرى ، ودار الحديث بين الثلاثة على استمرار التوتر بين نجيب وصحبه ، وأن السنهورى قال يومها لمحمد نجيب بلهجة فيها كثير من الحزم ـ على حد تعبيره : « إنه ليس من مصلحة البلاد استمرار هذه الحال ، وإنه يتعين أن تتم تصفية الموقف فى السر قبل الجهر . وفى سبيل ذلك يجب على كل طرف أن يصارح الآخر بما يبطنه من أسباب الشكوى ، وأن يعمل بصدق وإخلاص على إزالتها ، مضحيًا فى ذلك بكل اعتبار شخصى فداء للمصلحة الوطنية الكبرى ، وعلينا جميعًا أن نبذل الجهد كله فى المعاونة لتهدئة الحال » .. واستطرد سليمان حافظ فى رواية ما فعله السنهورى يومها لإصلاح ذات البين .
وذكر الدكتور أحمد زكى رئيس تحرير العربى الكويتية ، والرئيس الأسبق لجامعة القاهرة ، فى حديث بالأخبار 8/9/1975 ، أن « الاعتداء الذى وقع على السنهورى وقع بعد لقائه بالإخوان المسلمين فى منزلى » .. وذكر الأستاذ أحمد فوزى فى كتاب نشره عام 1985 بعنوان : « ستة رجال فكر وقانون » ـ أنه فى يوم 26 مارس جرى اللقاء بين الدكتور السنهورى وعبد الحكيم عابدين فى منزل الدكتور أحمد زكى حيث عرض عليه السنهورى اشتراك الإخوان فى الحكم » . وأضاف : « ومثل هذا اللقاء وما جرى فيه لم يكن ليخفى على المخابرات المصرية . ومعنى ذلك أن السنهورى كان جادًا فى إنهاء الحكم العسكرى وإعادة الحكم المدنى .
وكما اختلفت الآراء والتفسيرات فى تحليل الأسباب ، فإنها قد اختلفت أيضًا فى تحديد المسئولين عن الاعتداء الغاشم المبيت الذى وقع على الأستاذ السنهورى فى هذا اليوم المشئوم ، واتجهت معظم أصابع الاتهام إلى جمال عبد الناصر على تفسير يقول إنه اعتقد أن السنهورى انحاز إلى محمد نجيب ، وأن هذا الانحياز خطير لقامة ومكانة السنهورى ، فدبر من ثم هذا الاعتداء .
وفى كتابه : « شاهد حق » ، يؤكد أحمد طعيمة براءة جمال عبد الناصر من تدبير هذا الاعتداء المؤسف ، فيورد أن التعليمات الصادرة إلى هيئة التحرير وجميع النقابات والهيئات المشتركة فى حركة مارس 1954 ، كانـت بالمحافظة على الأمن وعدم الاعتداء ، ثم أضاف : « إلاّ أنه للأسف الشديد توجهت بعض المظاهرات إلى مجلس الدولة و قامت بالاعتداء على رئيسه الدكتور عبد الرزاق السنهورى الذى كان موضع ثقة الرئيس عبد الناصر ورجال الثورة بعد أن سرت شائعة مغرضة بأن مجلس الدولة مجتمع لإصدار فتوى ضد ثورة 23 يوليو وسمعها السيد أحمد أنور قائد البوليس الحربى فى ذلك الوقت ومساعده حسين عرفة ، فتدخلا فى سير أحداث 1954 بما لم يطلب منهما ، وقادوا بعض المشتركين إلى مجلس الدولة بدون علمنا فى هيئة التحرير » .
ولكن الأستاذ السنهورى أكد أن جمال عبد الناصر مدبر ومنظم هذا الاعتداء واتهمه بذلك اتهامًا صريحًا فى أقواله للنيابة العامة ، ورفض أن يقابله عندما سعى لزيارته بعد الاعتداء عليه . وأكدت زوجته هذه الواقعة وأنها التى أبلغت جمال عبد الناصر برفض السنهورى لقاءه وأغلقت بنفسها الباب .
وروى سليمان حافظ فى مذكراته أن السنهورى روى له لاحقًا أنه اتصل يومها تليفونيًا بجمال عبد الناصر ليحول بصفته وزير الداخلية بين وصول الجموع التى جاءت الأخبار بأنها متجهة إلى مجلس الدولة ، إلاّ أنه لم يلق من عبد الناصر إلاّ عدم مبالاة تستوقف النظر !
وفى وصف هذا الاعتداء الغاشم المؤسف ، روى السنهورى فى أقواله للنيابة العامة أن ضابطًا يسمى الصاغ حسين عرفة وكيل البوليس الحربى هو الذى نظم عملية الاعتداء، وأنه حضر إليه ضابط فى مكتبه وطلب منه أن يخرج إلى المتظاهرين ويخطب فيهم ، وأن هذا الضابط هو الذى أمر بفتح الباب الخارجى للمجلس للمتظاهرين وكان مقفلًا وقاده بيده إلى خارج الغرفة حيث اعتدى عليه المتظاهرون .. « عند ذلك فهمت أن الأمر ليس أمر مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين ـ كما ادعى الضابط ـ بل أمر اعتداء مبيت علىّ ، وما لبث المتظاهرون أن دفعونى دفعًا إلى الحديقة وتوالى الاعتداء » !!
وفى رواية الأستاذ أحمد حمروش لهذا الاعتداء بكتابه « شهود ثورة يوليو » ـ أورد أن البكباشى حسين عرفة قال إن أحمد أنور رئيس البوليس الحربى أمره بمنع اجتماع مجلس الدولة بالعنف أو بالحسنى ، وأنه أعد خطة المظاهرة بالتعاون مع إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة ( وهذا يكذب شهادة طعيمة ) ، وأنه توجه لمقابلة السنهورى فى مكتبه ولما رفض مقابلته أرسل شاويشًا كان يرافقه إلى طعيمة والطحاوى وتدفقت المظاهرات التى قام بتدبيرها وكان معها بعض جنود المباحث الجنائية فى ملابس مدنية تقدموا نحو المجلس وهم يهتفون « الموت للخونة » وحاصر المجلس الذى كانت أبوابه مغلقة بسلاسل حديدية ، وأن رئيس المجلس السنهورى طلب مندوبين من المتظاهرين وتدفق المتظاهرون جميعًا يعتدون على المستشارين أعضاء الجمعية العمومية ، وتظاهرت بأننى أمنعهم من ذلك ثم قمت بإطلاق طلقتين فى السقف وأمرت بإخراجهم من مبنى المجلس فخرجوا . وعندما حاول السنهورى وأحد المستشارين الآخرين مخاطبتهم من بلكونة المجلس اعتدوا عليهما بالضرب أيضًا . وتوتر الموقف واقترحت أن يعد أعضاء المجلس بيانًا تذيعه الإذاعة وفعلًا كتبوا بيانا لا يؤيد الثورة قرأه مستشار اسمه عبد الخبير فضربوه أيضا هاتفين « تحيا الثورة وتسقط الرجعية » وأعاد المستشارون صياغة بيان جديد أخذته منهم وافتعلت تمثيلية بأنه قد أغمى على من الجهد وأننى كنت فى موقف المدافع عن أعضاء المجلس … !! وهنا كان قد حضر صلاح سالم فأعطيته البيان الجديد وأخذه إلى مجلس الثورة وافتعلت جرحًا فى نفسى ثم ذهبت إلى دكتور لتوقيع الكشف الطبى على وإثبات أنى جرحت أثناء مقاومة المتظاهرين » ..
وهكذا أعد المعتدون أدلة زائفة لإظهار أن الاعتداء كان تلقائيًا برغم أنهم دبروه .. وقد أيد ذلك اللواء محمد نجيب نفسه : فقد نوه فى مذكراته بعنوان « كلمتى للتاريخ » ص 224 بأن المظاهرة التى دبرت للاعتداء على السنهورى خرجت من مبنى هيئة التحرير مكونة من بعض عمال مديرية التحرير وجنود البوليس الحربى تحت قيادة حسين عرفة قائد المباحث العسكرية وعدد آخر من ضباط البوليس الحربى ـ وذكر أن المتظاهرين اقتحموا مبنى المجلس ودخلوا قاعة اجتماع الجمعية العمومية واعتدوا بالضرب على الدكتور السنهورى وعلى باقى الأعضاء وأجبروهم على التوقيع على بيان بتأييد مجلس الثورة ، وإصرار المعتدين على إلزام المستشارين بتوقيع بيان لتأييد الجانب العسكرى الذى يسيطر على مجلس الثورة يؤكد أن الاعتداء كان مدبرًا من جانب المسيطرين على هذا المجلس الذين استغلوه لفرض الحكم العسكرى ومنع إقامة حكم مدنى كما كان يطلب السنهورى ومحمد نجيب والرأى العام السائد فى ذلك الوقت .
قد تختلف الروايات والمبررات والتعلات ، ولكن سيبقى هذا الاعتداء وصمة عار لا يمحوها الزمن ، طالت وآذت وأهانت قامة سامقة فى الفكر والفقه والقانون ، ليس لها فى تاريخنا نظير .. وظنى أنه ستمضى عشرات عشرات السنين قبل أن يجود الزمان بمثلها .. تذهب الأعمال الضريرة الموصومة إلى مزبلة التاريخ ، بينما تبقى القامات السامقة مآذن مشرقة وقدوة للأجيال على مدى الأيام !

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى