الحقيقة والمجاز في التشريعات القانونية ولغة القانونيين

[ فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 19) ]

الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]

 

يمكننا القول إجمالا بأن “الدقَّةَ والوُضوحَ” هي أهم خصائص اللُّغة القانونيَّة، لا سيما لُغة التشريعات (الدستوريَّة والعاديَّة) ثم لُغة الأحكام والعقود (الإدارية والمدنية)، وما ذلك إلا لأن القانون عبارة عن: “قواعد عامة مجردة غايتها التنظيم والحماية” ولا تقوم الحماية القانونية ولا يتحقق التنظيم لسلوكيات الأفراد ولا المجتمعات إلا بخطاب قانوني صريح جليٍّ قِوامُه الدقَّة وعنوانه الوُضوح. 

وبناء على هذا المناط  يمكننا إطلاق القول -في اطمئنان- بأن “لغة التشريعات القانونية”، بل كافة “ تشريعات النظام القانوني الوطني يجب أن تقوم على  الدقة والوضوح والمباشرة” ويمتنع عنها وعليها تلك الأساليب المجازية المشحونة بالصور البيانية والتشبيهات الفنية والمحسنات اللفظية، لأنها قد تلبس المعنى وتدفع به إلى الاكتنان -على غير أهداف الخطاب القانوني- بما يستدعي على متلقي الخطاب القانوني إعمالا للعقل وتدقيقا في النظر واستطلاب التحليل وسلوك مسالك المقارنة والتعليل لاستخلاص المعنى المراد والأوفق من بين سيل عرم من المعاني والاحتمالات الدلالية التي اقتضتها المجازات اللغوية والصور الفنية والتشبيهات والكنايات وهو ما يعني تفاوت الفهوم  بحسب ثقافة كل مخاطب وفطانته.

وهو مالا يصح ولا يتماشى وغاية القانون التي هي تبيان الأحكام وبيان المرامات والتوقيف على المطلوبات .. وجماعها يدور حول المحظورات والمنهيات وحول جائز السلوكيات فضلا عن  وهو ما يتمثل جليا في تعيين الجرائم وتحديد العقوبات على وجه الدقة والوضوح وبما لا يدع سبيلا لتخليق جرائم ولا لاستخلاص عقوبات لم يرد بها النص ولم يقصدها الشارع..!!

ويدلُّ ما سبق على وجود ركيزة “وظيفية غائية” تستند إليها وعليها اللغة التشريعية خاصة واللغة القانونية بعامة، وهي ركيزة محترمة معتبرة لا يجوز انتهاكها، ولا يصح الخروج عنها تقوم على دقة ووضوح لغة نصه التشريعي ، وتتلبس بنصوص القانون وتشريعاته ولا تنفك عنه، وهي ما يميز النظام اللغوي القانوني ويسم أنظمته البنائية والدلالية وهي ما يرتكز عليها هذا النظام وبها ينهض لتحقيق غايته وأداء رسالته في التوصيل والاتصال الدقيق الواضح بشأن كل مع فيه توثيق الحق وحماية المصالح وترسيخ العدالة.

ويدل ما سبق أيضا على أن اللُّغة القانونيَّة باعتبارها نظاما لغويا قانونيا محكما، تستطيع بوظائفها البنائية وأدواتها الدلالية أن تكوِّنَ أشكال الخطاب القانوني وتنظم تفسيره بما يؤدي إلى اتصاله بالمكلفين (المخاطبين بالقانون) في سلاسة ويسر بعيدا عن الإلغاز والمجاز والكناية …!!!

ليحقق غاياته في تنظيم سلوكهم وضبط علاقاتهم، وليدفع بنصوصه الصحيحة ومعانيه الوضيحة إلى حفظ الحقوق وحماية الحريات طبقا للمبدأ الدستوري الوطني والدولي «مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات».

والذي ينص على: ” أن القوانين هي المصدر الأساسي للجرائم والعقوبات ، ولا يجوز توقيع أية عقوبة ما لم يرد النص عليها في القانون»[ د. آمال عثمان : النموذج القانوني للجريمة 3، 4 ، وقارن ص 12] أضف إلى ذلك أنه أهم مبادئ القانوني الجنائي مطلقا …!! وأنه يقتضي مباشرة العمل على صياغة ونظم الجرائم في نصوص قانونية واضحة ودقيقة تصدر عن جهة تشريعية متخصصة يخولها الدستور والقانون بإصدار تلك التشريعات” .

 

مثال عملي للغة القانونية المجازية وتلك الدقيقة الواضحة

تأمل الأسلوب التالي وقف عنده مليا “إنها واقعةٌ جللٌ يشيبُ من هولها الولدانُ، وتُقْرعُ لها الآذانُ، وتقشعرُّ من خطبها الأبدانُ، وتحمِلُ المجتمعَ أن يومضَ لها بسيفٍ يحسمُها، وعاقبةٍ تؤثِّمُها”….!!!

ثم إليك هذا السؤال الوجيه الذي يطرح نفسه بقوة :

هل يصح  هذا البيان الأدبي البلاغي المشبع بالمحسنات والمترع بالصور البيانية والإيقاعات الرنانة في صناعة القوانين ؟!!!

والإجابة على النحو التالي لا يصح هذا في لغة القاعدة القانونية ولا لغاتها الرسمية مطلقا، وإن كان يصح –أحيانا-  في لغتها البيانية مثل لغتي الادعاء والدفاع في معرض الحديث عن واقعة قانونية مخصوصة ومعينة.

فمقتضيات النظام القانوني للقاعدة القانونية ولغاتها الرسمية تمنع هذه الأساليب وتقضي بحظر البناء على هذا النحو أو بقريب منه لما له من إلباس وإبهام أو إثارة الاحتمالات حول مرادات الشارع ووجوه التجريم وصور الجزاء…!!!

 

*ولو سألنا وقلنا وما البديل القانوني الناجع وما هو الصواب في التعبير عما سبق من معان ؟

نقول في غير تردد البديل هو: أسلوب يتمثل الدقة والوضح ويحقق غاية الخطاب القانوني على ما سبق.

ولتحقيق ذلك بالمثال العملي فقد صغنا هذه العبارات ونظمناها بما يعبر عن حقيقة اللغة القانونية الوضعية لغة الدقة والوضوح  من خلال بديلين :

البديل الأول (1) :

«إنَّها مشكلاتٌ حقيقيةٌ ذاتُ ضررٍ بالغٍ على الفردِ والمجتمعِ تُوجبُ على المشرِّعِ أن يسنَّ لها قانونا رادعا يقضي على أسبابها ويحمي المصالح والحقوق من انتهاكها».

البديل الثاني (2):

“إنها مشكلة توجب على المشرع التدخل بقانون لاعتبارات الحماية القانونية للمجتمع وأفراده”.

 

أحكام المحكمة الدستورية العليا الدالة على وجوب دقة ووضوح التشريعات القانونية :

 

أكدت المحكمة الدستورية في كثير من أحكامها على وجوب التزام المشرع أن تكون لغته التشريعية دقيقة واضحة عامة ومجردة وهذا نموذج من أحكامها في ذلك حيث:

 

1-“قضت المحكمة الدستورية العليا –أيضا- في ذات الاتجاه بأن لكل جزاء جنائي أثر مباشر يرتد إلى طبيعته، ويتمثل في حرمان الشخص من حقه في الحياة أو من حريته أو ملكه، ولقد كان هذا الجزاء عبر أطوار قاتمة في التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان، محققا للسلطة المستبدة أطماعها، ومبتعدا بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية، وكان منطقيا وضروريا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة في جوانبها الموضوعية والإجرامية، لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية عاصفة بها بالمخالفة للقيم التي تؤمن بها الجماعة في تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها.

وتكمل المحكمة الدستورية العليا بقولها:

“وكان لازما في مجال دعم هذا الاتجاه وتثبيته أن تقرر الدساتير المعاصرة القيود التي ارتأتها على سلطان المشرع في مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها في غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها، واعترافا منها بأن الحرية في أبعادها الكاملة لا تنفصل عن حرمة الحياة، وان الحقائق المريرة التي عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها، تفرض نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية، ويصون في إطار أهدافه حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها.

وقد تحقق ذلك بوجه خاص من خلال ضوابط صارمة، ومقاييس أكثر إحكاما لتحديد ماهية الأفعال المنهي عن ارتكابها، بما يزيل غموضها، وعلى نحو يجرد محكمة الموضوع من السلطة التقديرية التي تقرر بها قيام جريمة أو فرض عقوبة بغير نص كي تظل المصلحة الاجتماعية في مدارجها العليا قيدا على السلطة التشريعية تحريا للشرعية في حقيقة محتواها، واستشراقا للعدالة في أعماق منابتها. وأضافت المحكمة إلى ذلك في هذا الحكم” الأصل وفقا لنص المادة 66 من الدستورــ (دستور سنة 1971) ــ هو أن لكل جريمة عقوبة محددة وينص القانون عليها في صلبه، أو تتقرر – على الأقل ــ وفقا للحدود التي يبينها [انظر بالتفصيل في ذلك  د.شريف كامل : شرح قانون العقوبات (القسم العام) 164، ط دار النهضة العربية: القاهرة 2013م .

 

2-الدقة والوضوح والانضباط يجب أن تتجلى في التشريعات الجنائية بأشد ما يكون على ما يذهب فقهاء القانون الجنائي والدستوري:

“من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في اعلى مستوياتها، واظهر في هذه القوانين منها في أيه تشريعات أخرى، وذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية اخطر القيود وابلغها أثرا، ويتعين بالتالي ضمانا لهذه الحرية أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وبمراعاة أن تكون دوما جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها”.

ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابي مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه.

وهي قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطارا لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التي يتوخاها الدستور هي أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته في إطار من الضوابط التي فيدها بها. ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التي تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها لكي يدفعوا عن حقهم في الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة.

ولقد كان غموض القوانين الجزائية مرتبطا من الناحية التاريخية بإساءة استخدام السلطة، وكان أمرا مقضيا أن يركن الشارع إلى مناهج جديدة في الصياغة لا تنزلق إلى تلك التعبيرات المرنة أو الغامضة أو المتميعة المحملة بأكثر من معنى والتي تتسع معها دائرة التجريم بما يوقع محكمة الموضوع في محاذير واضحة قد تنتهي بها – في مجال تطبيقها للنصوص العقابية – إلى ابتداع جرائم لا يكون المشرع قد قصد حقيقة إلى إنشائها، والى مجاوزة الحدود التي [ انظر السابق نفسه ص165،  166 ]

وبناء على  ما سبق يلزم توجيه هذه القواعد القانونية لجمهور المخاطبين بها في صياغة ونظم سلسل دقيق وواضح لا إعضال فيه ولا إشكال ليسهل التعرف عليها وتداولها وليتحقق الالتزام بها، ولا يكون توجيهها إلا من خلال “خطاب قانوني” رسمي مباشر وسابق على الالتزام القانوني أو على التجريم … ولن يتحقق هذه إلا  بنظام قانوني لغوي عام وشامل ، تمثل فيه اللغة البنائية البداية لتكوين النص ولتحقيق ما يلزم من عمليات وخطوات في سبيل إتمام هذا البناء على الوجه الصحيح الدقيق والواضح.

ومقتضى ما سبق ويعني ذلك أنه لا يمكن إيجاد هذا الخطاب القانوني الشرعي وجعله فاعلا إلا بشروط وإجراءات معينة من أهمها أن يكون ذا شكل لغوي (بنيان لغوي تودع فيه المعاني والقواعد والقيم القانونية وتتجسد في نص قانوني متماسك ومحكم)، وتكوين هذا الشكل يستدعي مجموعة عمليات بنائية متسلسلة ومترابطة يكون نِتاجها ذلك «النص القانوني».

إذْن الجانب الأول (البنائي) للُّغة القانونيَّة هو جانب تنظيمي موجود وقائم بالضرورة – في صورته التَّشريعية على وجه الخصوص- ويعتبر لازما منطقيا من لوازم القاعدة القانونية ولغات القانون وبِنية أوراقه القانونية والقضائية، وقيامه بالضرورة يرتكز على المنطق وعلى المبدأ الدستوري الدولي سابق الذكر (مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات).

بل إن التَّشريعات المقارنة في جملتها جعلت من المرحلة البنائية -بشروطها القانونية الموضوعية- ركنا من أركان الجريمة هو الركن الأول لها والتي لا يجوز الخوض في الركنين التاليين عليها (الركن المادي والركن المعنوي) حتى يتم التحقق منه ألا وهو «الركن الشرعي» وقد عرفه البعض بأنه النص القانوني -أي المخرج النهائي للعمليات البنائية-، وذهب البعض إلى أنه ما يصف الفعل باللا مشروعية[انظر محمود نجيب حسني : شرح قانون العقوبات –القسم العام ص 43 ، فقرة رقم (35)وفيه يقول ” الركن الشرعي: هو الصفة غير المشروعة للفعل، ويكتسبها إذا توافر له أمران: خضوعه لنص تجريم يقرر فيه القانون عقاباً لمن يرتكبه، وعدم خضوعه لسبب إباحة، إذ أن انتفاء أسباب الإباحة شرط ليظل الفعل محتفظاً بالصفة غير المشروعة التي أكسبها له نص التجريم”.]

أما عن وظيفة هذا الجانب البنائي فهي على نحو ما أسلفنا.. تكوين الخطاب القانوني وبنائه أيا كان ، على أن الصورة الأهم والأبرز مطلقا هي”القاعدة القانونية”، جوهر القانون وهي ما تتشكَّل أو تُشكل “النص القانوني المتماسك والمحكم” ، وبها يبدأ الخطاب القانوني في أعلى درجاته بالقواعد القانونية ودرة تاجها هي القاعدة الدستورية ثم ما يليها على ما أسلفنا.

 

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى