الجِــنايــاتُ المُــستَأنَفَــةُ

بقلم الأستاذ/ على سيد أبو صديره 

هذا المصطلح القانونى (الجنايات المستأنفة) طال انتظار إدراجه بقانون الإجراءات الجنائية، ولا أدعى سبق الحديث في موضوع هذا المقال، فلقد سبقني فيه غيرى ممن يحسنون الطرح والنقاش والعرض والبيان من أساتذة القانون وجهابذته وفقهائه الذين نادوا منددين بضرورة محاكمة المتهم بجناية على درجتين أسوة بمواد الجنح .

إلا أن المشرع المصري لم يستجب إلى كل هذه الاقتراحات والآراء الفقهية الرشيدة ، ولعل مرد ذلك إلى عدم الإدراك الجيد الواعى المستنير إلى أبعاد هذه الفكرة ومدى الفائدة التي سوف تؤول إلى كل متهم بجناية، أو قد يكون مرجع عدم الاستجابة صعوبة تطبيقها في الأوقات الحالية أو التعلل المتكرر بحجة قلة الكوادر القضائية، أو إن توافرت تلك الكوادر القضائية لسوف تشغل المحاكم وتكبدها مبالغ مالية إضافية، وبين كل تلك الحجج الافتراضية من جانبي ضاع المتهمون بالجنايات في معركة هذه الخلافات وصراع هذه التيارات.

لذلك كتبت هذا المقال إحياءً لهذه النداءات التي لم تسمع، في محاولة متواضعة منا لعل بها يعيد المشرع النظر في هذا الملف من جديد ويستجب فيتحقق بذلك حلم طال انتظاره بأن تكون بدائرة كل مركز أو محكمة (دائرة جنايات مستأنفة) أسوة بدوائر الجنح المستأنفة الحالية، ذلك الحلم الذي لم يصبح حلمًا في وقتنا الحالي بعدما دخلت المحاكم المصرية العالم الإلكتروني وطبقت فيها برامج العدالة الجنائية والتقاضى عن بعد (إلكترونيًا) مميكنًا.

وليس ذلك بالأمر العسير على المشرع، فإنجازه لا يحتاج إلى وقت طويل ولا إلى مال وفير، يحتاج فقط من القائمين على هذا الأمر عقد النية والخطة ثم تنفيذها.

فلو نظرنا إلى التاريخ القديم لعلمنا أن محاكم الأسرة لم يكن لها شكل وكيان واستقلال ككيانها الحالي قبل إصدار قانون محاكم الأسرة . وليس ذلك وكفى بل كذلك أستحدث المشرع المحاكم الاقتصادية وجعلها مستقلة بنظر جرائم معينة نص عليها قانون المحاكم الإقتصادية وغيرها من المحاكم المتخصصة .

بل إن هذا الأمر سيؤثر إيجابيًا عن طريق إشفاء غليل المتقاضين فلا يحتاج بعد استئناف الأحكام الجنائية إلى نقض الحكم ونتيجة لذلك تقل الطعون القضائية التي من المحتمل أن ترفع أمام محكمة النقض والتي أكتظت وعجت بها دوائرها .

وإنني أقسم بالله غير حانث أن من الأمور التى أثارت دهشتى وأسفى وما زلت حتى ذلك الحين لا أجد لها تفسيرًا منطقيًا وسائغًا حتى مع التحدث مع أساتذتي في القانون والمحاماة، هو أن المشرع المصري جعل المتهم في جريمة (جنحة) يحاكم أمام درجتي تقاضى هما :-

(المحكمة الجزئية – محكمة الجنح المستأنفة) ثم النقض.

في حين ترى المتهم بإحدى الجنايات وهي الأكثر خطرًا وجسامة وأكبر عقوبة يحاكم أمام درجة واحدة هي محكمة الجنايات ثم النقض . فو الله هذا الأمر يحززني بشدة ولو كان باليد حيلة ما ترددت فى إنجاز ذلك الأمر ولكني يكفيني هذا الجهد الضعيف الذي عبرت فيه عن رأيي الخاص عبر هذه الكلمات في هذا المقال، إذ ربما يكون من بين القُراء من هو يتفهم قصدى حسن الفهم ويقوم بإيصاله إلى من بيده الأمر .

هذا الأمر أضعه أمام سطات الدولة (التشريعية – القضائية – التنفيذية) أمانة فى أعناقهم .

غنى عن البيان أن محكمة النقض ليس درجة من درجات التقاضى . كذلك ممالا شك فيه أن الإتهام الجنائى بإحدى الجنايات أمر له خطره ثقيل المحمل على كل إنسان حتى وإن كان المتهم قاضياً أو أحد رجال القانون فهو لاتمحى أثره من النفوس البشرية حتى بعد القضاء بالبراءة . ولذلك أحاط المشرع مرحلة المحاكمة خاصة فى جرائم الجنايات ببعض الضمانات التى تمتاذ بها عن الإتهام بإحدى الجنح ولعل أبرزهذه الضمانات ضمانة : وجوب أن يحاكم المتهم بجناية أمام محكمة جنايات تؤلف قضاتها من هيئة إستئنافية أى من قضاة أعلى خبرة ودراية وكفاءة قانونية وثقافية . و الضمانة الثانية : أن يكون المدافع عن المتهم بجناية على خبرة ودراية وكفاءة عالية بأن يكون على الأقل من بين المحامين المقبولين للترافع أمام المحاكم الإبتدائية ومايعلوها من باب أولى .
هذا إلى جانب ضمانات المحاكمة الجنائية الأخرى التى تناولها الفقه والقضاء بالبيان ونحيل إليها فى مؤلفاتهم القيمة التى بين أيدى كل منكم نسخة منها .

ومع كل هذه الضمانات التى وضعها القانون الجنائى كحماية للمتهم بجناية وضمانة له بأن يحاكم محاكمة عادلة . إلا أننا نرى أنه لازال ينقص المتهم بجناية بعض الضمانات حتى تتحقق غاية المشرع بصورة كاملة . هذا الذى ينقص المتهم بجناية هو ما جاء فى التمهيد السابق من (ضرورة إستئناف المحاكم الصادرة عن محاكم الجنايات)أو بعبارة أخرى إتاحة الفرصة لمل متهم فى جناية أن يحاكم أولاً أمام محكمة أول درجة ثم ثانياً أمام محكمة ثان درجة ثم بعد إستنذاف هاتين الدرجتين القضائيتين أن يسلك بعدهما طريق الطعن بالنقض إذا رغب .

ويبررذلك كما سلف وقلنا أن الإتهام بجناية أثقل حملاً وأعظم أثراً و أشد وطأة وعقوبة من ذلك الإتهام البسيط بإحدى الجنح التى عقوبتها إما الحبس وإما الغرامة أو بهما معاً . وعكس ذلك فالإتهام بجناية أمر من الخطورة والجسامة بمكانة بحيث تستحق وتسترعى رعاية المشرع بأن يجعلها على درجتى تقاضى .
وهذا لايعد نظاماً قضائياً جديداً أو دخيلاًعلى المحاكم المصرية فلقد عرفته المحاكم ومطبق حالياً فى جرائم الأحداث (الطفل) فنجد المتهم الحدث (الطفل) سواء أكان متهم بجنحة أم بجناية يحاكم أمام محكمة أول درجة مشكلة بهيئة إستئنافية – ثم يحاكم بعد ذلك أمام محكمة ثان درجة (مستأنف الطفل)وهى محكمة ثان درجة فى ذات المحكمة ثم بعدهما له حق نقض الحكم .

الجنايات : هى تلك الجرائم المعاقب على فعلها بإحدى العقوبات السالبة للحرية التالية :
( الإعدام – السجن المؤبد – السجن المشدد – السجن ) . راجع : المادة (10/ع).
ومع ذلك نرى أنه لازال المشرع الإجرائى مُصراً على موقفه الخاطىء فى أن يحاكم المتهم بجنحة على درجتين وهى الأقل خطورة وعقاباً ، فى حين يحاكم المتهم بجناية على درجة واحدة مع جسامتها وعقوباتها المضاعفة التى تصل إلى حد إزهاق النفس بالإعدام .
مع أن المنطق وروح العدالة الجنائية المنصفة يستوجبان عكس هذا تماماً .
لذلك كان من الواجب أن يكون كل متهم بجناية يحاكم على درجتين حتى ولو كانت الدرجة الثانية من نفس مستوى الدرجة الأولى كما هو الحال فى محاكمة الحدث فهو يحاكم أمام درجتي تقاضى وكلتا الدرجتين مشكلتين من هيئة إستئنافية ( ثلاثة مستشارين) . وهذا ما نطالب بتطبيقه فى محاكم الجنايات بأن تستأنف أحكام محاكم الجنايات حتى وإن كان إستئناف هذه المحاكم سيعرض الجناية مرة أخرى أمام دائرة أخرى من نفس تشكيلة الهيئة الأولى .

ومع كل التقديرلا يجب أن يتوهم القارى أن لاجدوى من محاكمة المتهم بجناية أمام درجتين قضائيتين مؤلفتين بنفس التشكيلة والخبرة والدراية والمعرفة القانونية والقضاية .
فهذا خلط للأمور بل هو قلة معرفة وضعف إحاطة بما عليه العمل فى المحاكمات الجنائية . ذلك لأن الواقع العملى أثبت مصداقية وفاعلية التقاضى على درجتين حتى وإن كانتا مؤلفتين من نفس الدوائرالإستئنافية أى مشكلة من (ثلاثة من مستشارى محكمة الإستئناف).
وخير مثال على ذلك (محكمة الطفل) فالطفل (الحدث) يحاكم على درجتين وكل من محكمة أول درجة وثانى درجة مشكلة بهيئة إستئنافية . من أجل ذلك فلايجب أن تقل رعاية المشرع بكل إنسان متهم أو إنسانة متهمة بجناية عن ذلك الطفل الذى وضع المشرع طفولته فى عين الإعتبار بأن خصص له محكمة خاصة . فإن طفولته المرعية من قبل المشرع الجنائى وحملته على الرأفة بمشاعره ونظرت إليه نظرة إنسانية بأن وفرت له درجتى تقاضى ، لا يجب بحال من الأحوال أن تقل هذه النظرة عن ذلك الإنسان الآخر المتهم الذى أثقلته جنايته . فإذا كانت العلة متحدة فيما بين الطفل والمتهم بجناية وهو مراعاة البعد الإنسانى فيهما كان ذلك أدعى وأحرى بالمشرع لحثه على أن يستجيب لتلك الآراء الفقهية التى نادت ولازالت وستظل تنادى وبحزم عندما ترى قصوراً تشريعياً يحتاج إلى تعديل وهذه أعظم سمة للتشريع وهو مرونته وقابليته للتعديل عبرالزمان ليواكب التطورات الإجتماعية و يحقق مصلحة المجامع ككل .
خلاصة القول :
ننادى ونرى مع رأى ضرورة إستئناف الحكم الصادرفى الجناية بإن تستحدث دوائر
(جنايات مستأنفة) أسوة بنظيرتها من دوائرالجنح المستأنفة ، بل إن الحاجة أدعى فى إستئناف الجنايات الأم وهى الأشد خطورة وجسامة وعقاباً من تلك الجنحة البسيطة التى تنظرمرتين .
سيما وقد ثبت كذلك من واقع إشتغالنا بمهنة المحاماة فى دورالمحاكم أن محكمة النقض حينما تقوم بدورها الأجل ووظيفتهاالأعظم فى فحص الطعون ونقض أحد الأحكام الصادرة من بعض دوائرمحاكم الجنايات ، وتحيلها بدورها إلى دائرة أخرى بنفس محكمة الإستئناف التى صدرعنها ذلك الحكم الطعين . تتغيرتبعاً لذلك وجهة القضاة ووجه الرأى فى الدعوى مرة أخرى فتنزل بالعقوبة غالباً أوتقضى بذات العقوبة أو تحكم بالبراءة أحياناً أخرى مع أن الدائرتين التى أصدت الحكم المطعون فيه وتلك التى تنظرالجناية للمرة الثانية مشكلتين من نفس المستوى القضائى بل وفى ذات محكمة الإستئناف ولكن أمام دائرة أخرى بهيئة مغايرة .
و(بهيئة إستئنافية) أيضاً ومع ذلك تختلف وجهات الرأى فى الجناية الواحدة بالرغم من إتحاد الخصوم والموضوع والسبب . بما يثبت صحة رأى الفقه المنادى بضرورة إستئناف حكم الجناية . وهو ما ننادى به مرة أخرة لعلهم يعقلون ولعلهم يسمعون ولعلهم يفقهون .

ولايجب أن يقال أن الخطأ الذى من المحتمل حدوثه فى أحكام محاكم الجنايات يمكن تداركه فيما لو طعن المتهم على الحكم بطريق النقض ، أو أن محكمة النقض تقوم بنقض الحكم من تلقاء نفسها لمصلحة القانون وهى بذلك تقوم بالدورالذى كانت سوف تنهض به محكمة ثان درجة . فهذا الزعم مردود عليه بأن وظيفة محكمة النقض بوصفها(محكمة قانون) تحتم عليها أن تنأى بنفسها عن الجدل الموضوعى الذى يستوجب تحقيقاً فى الدعوى ليس من إختصاصها وإنما هو من صميم عمل محكمة الموضوع . ذلك بأن النقض مهمتها تنحسر فى مراقبة تطبيق صحيح القانون على واقعات الدعوى فى ذلك الحكم المطعون فيه . كما أن وظيفتها فى مراقبة القانون محصورة فى نطاق ما يبدونه الخصوم من أسباب سواء أكانت النيابة العامة أو المتهم بالإضافة إلى قيدها بمبدأ أن الطاعن يجب ألا يضاربطعنه .
هذه الأموركلها يخلع عنها وصف محكمة موضوع ويثبت لها أنها محكمة قانون . فهى بهذه المثابة إذن ليست بديلاً عن محاكم ثان درجة . التى إن طبقت سوف تخضع للقواعد العامة فى إستئناف الجنح فسوف تعرض عليها الجناية برمتها ويصبح فيها حكم أول درجة بين يديها هو والعدم سواء فلها أن تقره أو تنزل به أو تقضى حتى بالبراءة أو بالإدانة فى حالة ما إذا كان الطرف المستأنف النيابة العامة وأرتأت الهيئة بأكملها الإدانة . كما سيكون لها حق إجراءتحقيق تكميلى نهائى مثلما عليه العمل فى دوائرمحاكم الجنح المستأنفة ، كل ذلك ولا يوصد فى وجه المتهم باب النقض فيظل مفتوحاً أمامه فيظل يعيش على أمل نقض ذلك الحكم .

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى